تصميم: يوسف أيمن- المنصة

لا مكان للأخضر في مدينتنا

قطار التنمية يدهس الطبيعة

منشور الثلاثاء 18 أكتوبر 2022

لم يستطع أبو جواد النوم في إحدى ليالي أغسطس/ آب؛ بسبب الارتفاع الشديد في درجة الحرارة، فقرر الخروج للتمشية بعض الوقت، وأثناء سيره على ضفاف الترعة وجد عددًا من طيور أبو قردان ملقاةً أسفل شجرة مجتزة.

قبل إطلاق مشروع تبطين الترع في أبريل/ نيسان 2020، كان أبو قردان يعيش أعلى شجر الكافور  المحيط بالترعة، وفق جواد. ولكن هذه الأشجار اجتُزَّت بسبب المشروع مما أضر بالطائر الملقب بصديق الفلاح، "من ساعة ما اتقطع شجر الكافور، بقينا متعودين نلاقي أبو قردان ميت جنب الترع".

قرية بانوب هي واحدة ضمن مناطق كثيرة تعرضت لإزالة بعض مواردها الطبيعية من الأشجار، مثلما حدث في مناطق عدة لصالح الكباري والطرق، ما أضر بأهل المدن وأثر سلبًا على البيئة، وتعارض مع استراتيجية الدولة في مبادرات "اتحضر للأخضر" و"زراعة 100 مليون شجرة"، وصب في الاتجاه المعاكس لقائمة المشروعات الخضراء التي تستعد مصر بها لمؤتمر COP 27 المقبل في شرم الشيخ. 

يصف الشاب الثلاثيني أبو جواد ما حدث بـ"مجزرة للطبيعة"، فكلما مرّ جانب الترع تذكر أشجارها الظليلة وتحسر على تشويه ذلك المنظر الجمالي.

وكان الرئيس عبد الفتاح السيسي في ديسمبر/ كانون الثاني 2021 وجّه خلال افتتاحه مشروع توشكى بعدم زراعة نباتات زينة مرة أخرى قائلًا "مفيش زراعة نباتات زينة تاني.. ما دام نقطة المية صالحة لنباتات مثمرة".

ووعد وزير الري آنذاك محمد عبد العاطي بإعادة الأشجار حول جسور الترع، وأكدت وزيرة البيئة ياسمين فؤاد أن الشجر المجتز "يُدرج بمخططات التطوير العمراني والحضاري للمحافظات المختلفة"، لكن الموقع الرسمي للهيئة لا يضم أي مشروع يخص إعادة الأشجار المقطوعة.

ويؤكد على ذلك مهندس زراعي ولاندسكيب من بين العاملين في مشروع تبطين الترع، أخبر المنصة، طالبًا عدم ذكر اسمه، بأنه لا توجد نية لإعادة زراعة الأشجار التي قُطعت، مبينًا أن المشروع هدفه توفير المياه، وأن إزالة الأشجار تمت دون دراسة للأثر البيئي.

الهدف من تبطين الترع هو منع تسريب المياه، بحسب المهندس"لكن في الوقت نفسه التوازن البيئي يحتم الحفاظ على الأشجار، بسبب وجود كائنات بحرية دقيقة تعيش في توازن، جرى القضاء عليها بمجرد قطع الأشجار". 

ويشرح العامل بالمشروع، أن جذور الأشجار كانت تساهم في تماسك التربة والحفاظ عليها، بينما تظلل الفروع على الترع وبالتالي تقلل من البخر، وتحافظ على المياه.

وعن أضرار ذلك يقول "قطع الأشجار أخلّ بالتغذية التي تحدث للتربة وزاد من جنوح المياه، لأن منع تسريبها يزيد من ملوحتها، كما أن قطع الأشجار تكلف اقتصاديًا ما زاد من كلفة المشروع"، واصفًا ما حدث بالكارثة البيئية من قطع للأشجار بالكارثة البيئية للتربة والهواء.

الحنين ذاته الذي يراود جواد تجاه أشجار الكافور في قريته، تعيشه علياء أبو شهبة، التي تسكن مدينة نصر منذ 25 عامًا "المساحات الخضراء كانت سر تعلقي بالمنطقة السادسة، كان الطريق للمسجد اللي جنب البيت مليان أشجار اتقطعت لتوسيع الطريق".

تلقت علياء وعدد من السكان وعودًا بإعادة الأشجار مرة أخرى بمساحة أقل، لكن بمرور الأيام اجتاحت الكباري المنطقة وأزيل النخيل والمساحات الخضراء، كذلك الزهور التي كانت علياء تنتظر فصل الربيع لأجلها.

"المؤلم فعلًا إني موثّقتش الأشجار والزهور بالصور"، لم تتصور علياء أن يحدث كل هذا وتؤول المنطقة لذلك الوضع كما أن "إحساس الإنسان بأن مساحته الخضراء تلاشت مؤلم، ناهيك عن الأثر البيئي السيئ والمنظر الجمالي اللي اختفى".

يتناقص نصيب الفرد من المساحات الخضراء في مصر نتيجة استقطاع كل ما هو أخضر لصالح المشاريع القومية، فكان للحدائق العامة نصيب من هذا الدهس الذي طال المساحة الخضراء.

في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، دخلت حديقة الأسماك، إحدى أشهر حدائق القاهرة، في خطة التنمية المستدامة "مصر 2030"، وصدر حينها قرار باقتطاع نصف فدان من مساحتها البالغة تسعة أفدنة، لإقامة موقف انتظار سيارات. 

ومن قبلها حدثت أمور مشابهة في حديقتي المريلاند والمنتزة تحت مسمى التطوير.

 

اقتطعت السلطات من مصر الجديدة 96 فدانًا من المساحات الخضراء منذ العام 2020، وكانت المريلاند آخر متنفس لسكان المنطقة، وفق منتدى حلول للسياسات البديلة، التابع للجامعة الأمريكية بالقاهرة، بينما اقتطعت 300 شجرة من حديقة المنتزة بحسب سؤال برلماني تقدمت به الدكتورة ندى ألفي ثابت، عضوة مجلس النواب في يوليو/ تموز الماضي.

اللافت للنظر أن الاستراتيجية القومية للتنمية المستدامة التي تبنتها مصر تدعو إلى تغيير سلوكيات المواطنين تجاه المساحات الخضراء، بينما تهدف مبادرة اتحضر للأخضر  إلى رفع الوعي البيئي لدى كافة فئات المجتمع بأهمية الأشجار والحفاظ عليها.

يؤكد محمد علي، الباحث في معهد بحوث النيل التابع للمركز القومي لبحوث المياه،  أن "العالم في الوقت الحالي يتجه إلى التشجير وزيادة المساحات الخضراء، لكن في مصر تزيل الحكومة الأشجار دون وعي بالأثر السلبي العالمي لذلك".

ويرى أنه ليس هناك مبرر علمي لتبطين الترع والحفاظ على المياه بقطع الأشجار، خوفًا من جذورها أن تضر بالمشروع "توفير المياه لا يعني الإضرار بشيء آخر يحافظ على التوازن البيئي".

وبحسب الباحث، يعمل الشجر على تلطيف الجو وتقليل التلوث ودرجات الحرارة، وإزالته، مثلما حدث في تبطين الترع ومصر الجديدة والكورنيش، يُشعر السكان بأن درجات الحرارة مرتفعة للغاية.

وبحكم تخصصه في بحوث المياه، يؤكد علي أن المشروع كان من الممكن أن يتم مع الاحتفاظ بالشجر، فلم تكن هناك حاجة لقطعه، مضيفًا "في العموم حين يقيم العالم مؤتمرات عالمية للمناخ والحفاظ على البيئة، يضع في الحسبان أن هناك دول ارتكبت جريمة قطع الأشجار، لذلك فإن قطع الأشجار يؤذي صورة مصر عالميًا". تستضيف مصر مؤتمر COP27 الخاص بتغير المناخ خلال نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل وهي محملة بقائمة من المشروعات صديقة البيئة، إذ تؤكد الحكومة أن الاستثمارات الخضراء تمثل 40% من مشروعاتها في وقت تدل فيه الأرقام عن تناقص نصيب الفرد من المساحات الخضراء في مصر.

في نوفمبر من العام 2019 وصلت المساحات الخضراء في مصر إلى 5.370 مليون متر مربع فقط وتضم الحدائق والمتنزهات بحسب البيانات الرسمية الصادرة في ذلك التوقيت من الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء.

ولكن النسب العالمية تؤكد أنه لا بد أن يتوافر لكل 5 آلاف فرد 3 آلاف متر مربع من المساحات الخضراء، وبحسبة بسيطة فإن تعداد مصر في ذلك التوقيت وصل إلى 98 مليون نسمة، ويذلك يحتاج المصريين 58 مليون متر مربع بفارق نحو 52 مليون متر مربع، بينما المساحة المتوفرة أقل من 10% من المساحة الواجب توافرها للسكان.

وتتسع الفجوة بين نصيب الفرد من المساحات الخضراء في مصر والمعدلات العالمية، بحسب دراسة للدكتور عباس محمد، مدرس بكلية التخطيط العمراني جامعة القاهرة، بعنوان "الأوضاع القائمة للمناطق الخضراء بالقاهرة الكبرى".

وعلى صعيد الشجر، تراجع نصيب الفرد في مصر من الشجر مقارنة بدول أخرى، بحسب دراسة لباحثين في جامعة ييل الأمريكية خلال العام 2015، فبينما يصل نصيب الفرد من الأشجار في كندا إلى 10 آلاف شجرة لكل فرد، وفي أمريكا 4 آلاف شجرة، وفي فرنسا 203 شجرة، وإثيوبيا 143 شجرة، والصين 130 شجرة، بينما في مصر نصيب الفرد الواحد شجرة واحدة فقط.

وتعاني مصر من ارتفاع نسبة التلوث بسبب عوادم السيارات في العاصمة، ويدلل على ذلك المؤشر العالمي لقياس جودة الهواء، بينما يقدر البنك الدولي في العام 2017 كلفة التلوث في القاهرة الكبرى 47 مليار جنيه بما يعادل 1.35% من الناتج المحلي الإجمالي لمصر، وأوضح في تقريره أن التلوث يسبب مشاكل صحية طويلة المدى ويضغط على أنظمة الرعاية الصحية جراء الأمراض المزمنة.

يلعب الشجر أدوارًا هامة في أزمة التلوث، بعيدًا عن كونه متنفسًا يقلل درجات الحرارة ويحمي الشوارع من الحرارة المرتفعة، وفق أحمد الدروبي، مدير الحملات لدى جرينبيس الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، وهي منظمة بيئية عالمية غير حكومية.

يشدد الدروبي على ضرورة وجود استدامة للمشروعات تشمل الأفراد والمجتمع، مبينًا أن المشروعات القومية التي نفذتها مصر خلال السنوات الأخيرة تفتقد وجود استراتيجية للحافظ على الطبيعية، فكل ما يتعارض مع المشروعات يُزال وهو أمر وصفه بالمقلق.

وتؤكد منظمة الأمم المتحدة على أهمية وجود مساحات خضراء وشجر في المدن ذات الكثافة السكانية، إذ تخفف الأشجار من التلوث العالمي في وقت يشهد فيه العالم سبعة ملايين حالة وفاة مبكرة سنويًا بسبب تلوث الهواء، بينما شهدت القاهرة الكبرى في عام 2017 ما يقرب من 12.6 ألف حالة وفاة مبكرة بسبب تلوث الهواء،  كما أنها المدينة الأكثر تلوثًا في العالم، من أصل 48 مدينة شملها تقرير موقع  ذا إيكو إكسبرتس المتخصص في دراسات البيئة.

الباحثة البيئية في المبادرة المصرية للحقوق الشخصية راجية الجرزاوي، توضح أن الأشجار تقلل من درجة حرارة الطقس لما يقرب من 5 درجات، ما يعني مصر ستدخل موجات حارة شديدة قريبًا ستصل إلى الحد الأقصى غير المعتاد لها.

لا ترى الباحثة في مجال البيئة فائدة من قطع الأشجار ثم زراعتها مرة أخرى "الغرض من المشروعات توسيع الشوارع من خلال قطع الأشجار، وهو حل قصير الأمد لأنه يزيد من أعداد السيارات، وبالتالي زيادة نسب التلوث في وقت انعدمت فيه المساحات الخضراء".

تصف الباحثة ما يحدث بأنها مشروعات استثمارية دون رؤية محددة، يحركها العامل الاقتصادي فقط، والذي يسعى للربح السريع دون حساب خسائر المدى البعيد "يتمثل ذلك في أن زيادة تلوث الهواء تعني زيادة أمراض الصدر في وقت تتكلف فيه الدولة علاج ملايين المصريين من تلك الأمراض".

"حاولنا منع الأمر لكنه حدث" يشعر محمد سالك، ثلاثيني يقطن في منطقة المعادي جنوب القاهرة، بالحسرة إزاء ما حدث لمنطقته من قطع للأشجار وإزالة للمشاتل بداية من عرب المعادي حتى شارع القنال إذ يعيش في تلك المنطقة منذ طفولته.

"شارع القنال مليان شجر معمر، زي الجميز والتوت تتجاوز أعمارها 200 سنة، ولكنها اتقطعت، لدرجة إن أهل المنطقة فكروا في الرحيل". سالك يؤكد أن الأمر لا يتلخص في المناخ والبيئة، ولكن الشجر يحمل ذكرياتهم، وهناك ارتباط وجداني به.

بينما رحل بعض أصدقاء سالك عن المعادي، بعد إنشاء محور حسب الله الكفراوي، وما استدعاه من إزالات للأخضر، لا زال أبو جواد يصادف جثث طيور أبو قردان على ضفاف الترعة يوميًا، أما علياء فتبحث عن أي صور قديمة للحي.