في بداية شهر أكتوبر/تشرين الأول من كل عام يلاحظ خالد علي، أن الصقور في بلدته تسقط صرعى بشكل مفاجئ، صحيح أنه يعمل بالزراعة، لكن قريته نزلة الزاوية، التي تقع على الظهير الصحراوي لمحافظة بني سويف، تعد بيئة مناسبة لتجمع الطيور الجارحة، التي يشغف بتتبعها وتربية النادر منها. يقول خالد إن الصقور من أكثر الطيور التي يمكنها الصمود أمام تحديات البيئة و"لا تموت بشكل مفاجئ إلا إذا تعرضت للتسمم".
على مساحات شاسعة من حواف الحقول ومداخلها، وعلى مجاري المياه والترع والمصارف، ستجد ورقًا ملفوفًا بداخله طعوم منشورة بشكل عشوائي في هذا التوقيت من العام، وفي مناطق متفرقة من ربوع مصر، هذه الطعوم عبارة عن مبيد فوسفيد الزنك شديد السمية، مخلوط مع الذرة المجروشة، وضعتها وزارة الزراعة بهدف قتل القوارض.
عندما تتناول القوارض أو الطيور طُعم فوسفيد الزنك فإن غاز الفوسفين PH، يتحرر في الوسط الحامضي للمعدة، ثم ينتقل إلى تيار الدم، ويسبب ضعفًا في عضلة القلب وأضرارًا بأجهزة الجسم الداخلية، ما يسبب انبطاح الفئران أثناء سيرها مع الشعور بالغثيان وضيق التنفس والهيجان والشعور بالبرودة، وعندما تأكل الصقور القوارض وهي على هذه الحالة يمكن أن يؤدي ذلك إلى موتها المباشر.
تنص القوانين الدولية على حظر استخدام مبيد فوسفيد الزنك. وحسب التقرير الصادر عن وكالة حماية البيئة الأمريكية/EPA بموجب قانون 1996 لتعزيز معايير السلامة، تم دوليًا حظر 50 نوعًا من المبيدات الحشرية منهم فوسفيد الزنك.
وتبعًا لذلك أصدرت وكالة حماية البيئة الأمريكية في فبراير/شباط 2015 وثيقة تنص على الخطر البيئي لفوسفيد الزنك، وجاء فيها "أن هذا المنتج شديد السمية للطيور الجارحة والحياة البرية، فهو يسبب التسمم إذا تغذت الطيور على حيوانات أكلت هذا الطعم"، وتعدُ وكالة الحماية الدولية استخدام فوسفيد الزنك انتهاكًا مباشرًا للقانون الفيدرالي.
محطة الموت
يقول مفتش بالإدارة الزراعية في محافظة المنيا، فضل عدم نشر اسمه، إن الوزارة "تفرض طرقًا بدائية في مكافحة القوارض والآفات، وهي خطيرة جدًا. وبينما تظن أنها تتخلص من الآفات والقوارض فإنها تصيب الطيور الجارحة كذلك، في مقابل كل فأر نتخلص منه يموت طائر بالسم، ولو اتبعنا خطة بديلة لزيادة انتشار الطيور الجارحة لقضت هي ذاتها على كل الآفات والقوارض، ناهيك عن إهدار 450 ألف جنيه تكلفة الحملة الواحدة لنشر الطعوم".
تنفيذًا لأحكام المادة رقم 38 من قانون البيئة رقم 4 لسنة 1994 من اللائحة التنفيذية، يحظر رش أو استخدام مبيدات الآفات أو أي مركبات كيماوية أخرى لأغراض الزراعة أو الصحة العامة أو غير ذلك من الأغراض، ما يكفل عدم تعرض الإنسان أو الحيوان أو النبات أو مجاري المياه أو سائر مكونات البيئة بصورة مباشرة أو غير مباشرة، في الحال أو المستقبل، للآثار الضارة لهذه المبيدات أو المركبات الكيماوية.
اللافت في المسألة أن الـدراسات التي أجريت تحت إشراف وزارة الزراعة في محافظتي أسيوط والشرقية، تُشير إلى أن القوارض لا تموت على الفور عند تلقيها السموم، لأنها تكتفي بجرعة قليلة من الطعوم المنثورة، وهو ما يصيبها باضطرابات سلوكية تؤدي إلى وقوعها فريسة للجوارح التي تتأثر بالسميات على نحو يؤدي إلى تهديد وجودها، بينما تظهر إحدى تلك الدراسات أن البوم الأبيض مثلًا يأكل ثلاثة فئران يوميًا أي ما يعادل 1500 فأر سنويًا للطائر الواحد، وذلك كافٍ لحفظ التوازن البيئي.
ومن خلال تتبعنا الميداني للكشف عن الآثار التي سببها نشر المبيد في أكتوبر الماضي، وثقنا بالصور صقورًا نافقة في أكثر من 10 مناطق مختلفة، على مسافات قصيرة من نثر الطعوم، ففي المنيا ومغاغة وأسيوط وكفر الشيخ وبني سويف، نفق نحو 40 صقرًا خلال ذلك الشهر، ويوضح الطبيب البيطري عبد الفتاح إبراهيم الزناتي، الذي اطلع على الصور، أن تلك الجوارح النافقة تعرضت لحالة تسمم، تظهر من خلال شكل العينين والريش، لأن التسمم يؤدي لتدمير جهاز المناعة والتنفس فتفقد الرؤية والحركة.
يؤكد محمود سعيد، عضو بنقابة قطاع صيد الصقور، أن تعرض الجوارح للسموم له عدة نتائج حسب الكمية التي تتناولها، فإن كانت كبيرة تدمر الجهازين المناعي والتنفسي للطائر، وإذا تعرض لكميات أقل فإنه قد يعاني تلفًا في الريش وإصابات في العين والجهاز التناسلي، ما يؤثر على الخصوبة ويؤدي إلى الانقراض.
ويُشير خالد نوبي، المدير التنفيذي للجمعية المصرية لحماية الطبيعة، إلى أن مصر من أكثر الدول في منطقة البحر المتوسط التي يتم فيها قتل الطيور المهاجرة، وتعد بمنزلة "محطة موت" لهذه الطيور، خاصة البوم والصقور، لأسباب عدة، أهمها الممارسات البيئية الخاطئة التي تؤدي إلى تسمم الطيور.
ويوضح أن تأثير السموم على تناقص أعداد الطيور "كبير"، مشيرًا إلى أنه "حتى اليوم لا توجد لدينا أي بيانات واضحة عن حجم السموم والمبيدات التي تستخدم بكثرة بما لا يراعي الأنواع الأخرى غير المستهدفة منها، التي تتأثر بها مثل الطيور".
ومن خلال الخريطة البيئية يوضح محمود سعيد أن "أكثر محافظات مصر خطرًا" على حياة الصقور هي البحر الأحمر والسويس مع امتداد سلسلة جبال البحر الأحمر، حيث مشروعات الطاقة من طواحين ومنصات بترول، أما مناطق حوض النيل فالخطر الشائع فيها هو استخدام المبيدات السامة بكثرة، وتشكل مناطق وجه قبلي (الصعيد) تهديدًا على صقر شرياص (العوسق)، وهو النوع الشائع هناك على وجه الخصوص.
مسارات الفناء
في حملة بعنوان "الطيران من أجل البقاء" أطلقتها منظمة ستيشتينج بيرد لايف أوروبا في 2015، تقول لور بروشيه، التي أشرفت على كتابة تقرير الحملة، "صدمنا اكتشاف أن ما يقدر بنحو 25 مليون طائر من أكثر من 450 نوعًا يتم قتلها سنويًا في منطقة البحر الأبيض المتوسط، بطرق مختلفة فيتم إطلاق النار عليها بهدف أكلها أو بيعها أو صيدها عبر نصب الفخاخ غير المستدامة وغير القانونية، أو تسميمها"، مستدركة أن "التسميم هو الأمر الشائع".
ونتيجة لهذه البيانات وضعت مؤسسة Birdlife الدولية، مصر، ضمن "أخطر" الدول على الطيور المهاجرة، مع الإشارة إلى الطيور التي تنتهي حياتها في مصر، حيث تعد جسرًا جويًا بين قارات أوروبا وآسيا وإفريقيا. يمر خلالها مسار الأخدود الإفريقي العظيم، وهو ثاني أكبر مسار هجرة للطيور في العالم، حيث تنتقل الطيور من مناطق الشتاء في إفريقيا إلى مناطق التكاثر في أوروبا وآسيا الوسطى والعكس، ويقدر عددها بأكثر من مليوني طائر تنتمي لأكثر من 500 نوع، بينهم 37 نوعًا من الطيور الحوامة، تنقسم إلى 1.5 مليون طائر جارح، تتقدمهما الصقور والبوم والحدأة، و500 ألف لقلق أبيض، و66 ألف بجعة، ومن بين تلك الطيور هناك خمسة أنواع مهددة بالانقراض عالميًا كالصقور الحرة وصقور الشاهين.
وفي إحصائية بعدد الطيور التي تمر عبر مصر، رصدت وزارة البيئة عام 2022، مرور نحو 1215 نسرًا، وحوالي 218474 صقر سهوب، وهذا الرصد يدخل ضمن الالتزامات الرئيسية المصرية، حيث تعمل الحكومة بالتنسيق مع المنظمات غير الحكومية على تلبية احتياجات الرصد وجمع البيانات للحفاظ على الطيور الجارحة المهاجرة كجزء من مشروع صون الطيور الحوامة المهاجرة، الممول من صندوق البيئة العالمي/GEF تحت إشراف برنامج الأمم المتحدة الإنمائي/UNDP وبيرد لايف إنترناشيونال.
ويهدف المشروع إلى دمج مسؤولية حماية هذه الطيور الزائرة في القطاعات الرئيسية المختلفة من خلال الشراكات والتحالفات الاستراتيجية مع جهات حكومية ومنظمات غير حكومية وقطاعات اقتصادية ومرافق خدمية، من أجل حماية مسار الهجرة وتنظيم مشروعات التنمية.
ولحفظ وصون هذه الهجرة انضمت مصر مبكرًا إلى الاتفاقية الدولية CITES، التي تلزم بنص قانون البيئة رقم 4 المادة 28 الملحق 1، على "حظر صيد أو قتل أو إمساك الطيور والحيوانات البرية والكائنات الحية المائية أو حيازتها أو نقلها أو تصديرها أو استيرادها أو الاتجار فيها حية أو ميتة أو القيام بأعمال من شأنها تدمير الموائل الطبيعية لها أو تغيير خواصها"، وتقع بعض أنواع الصقور النادرة كالصقر الشاهين ضمن أهم الفصائل التي يتضمنها الملحق السابق ذكره، والمنصوص عليها في القائمة الحمراء في الاتفاقية.
وخلال البيانات المتوفرة بنهاية عام 2016 على موقع القائمة الحمراء للاتحاد الدولي لحماية الطبيعة (IUCN)، تم تحديد حالة التهديد للكائنات الحية بمصر، وأشارت القائمة، التي تم حصرها في 2016، إلى أن هناك 381 نوعًا من الطيور منهم 14 نوعًا مدرجة تحت خطر الانقراض، يتعرض أربعة أنواع منها للتهديد المباشر بينها الصقر الحر وصقر الشاهين، وتمثل نسبتها 28.6% من إجمالي أنواع الطيور المدرجة تحت خطر الانقراض، و1.0% من إجمالي الطيور بمصر.
ويُشير خالد نوبي إلى أن "ثمة خللًا في إدارة اتفاقية سايتس في مصر"، فتلك الاتفاقية، حسب قوله، يفترض أن تشرف على تنفيذها بشكل مباشر وزارة البيئة، لكنها حتى الآن تقع تحت إدارة وزارة الزراعة، نظرًا لأن وزارة البيئة وزارة مستحدثة. حيث تم إسناد القرارات والاتفاقيات إلى أقرب وزارة معنية بالأمر، وهي هنا وزارة الزراعة بجانب جهاز شؤون البيئة.
لكن نظرًا لتضارب القوانين والممارسات "الخاطئة" من قبل وزارة الزراعة، يقول نوبي فإن "الحفاظ على الحياة البرية خارج اختصاص وزارة الزراعة"، لكن هيثم مسعد، مدير الجمعية المصرية لحماية الطبيعة، يقول إن "لجنة وزارة الزراعة المختصة بمكافحة القوارض بها عضو من وزارة البيئة"، وأوضح أن "ما يحدث ليس مسؤولية الزراعة وحدها، ولكن البيئة شريك في ذلك وعلى علم به".
ما بين إلقاء كل طرف مسؤولية التسمم غير المباشر للطيور على الطرف الآخر، تتحول مصر تدريجيًا إلى دولة "غير آمنة" على الطيور المهاجرة، ما ينذر بتفاقم الأمر حتى تنقرض نهائيًا، وهو ما حاولنا أن نتبين سبل مواجهته من خلال التواصل مع الجهات المعنية في وزارتي الزراعة والبيئة من خلال المتحدث الرسمي لوزارة الزراعة ورئيس لجنة المبيدات، ولم يصلنا أي رد فيما يخص حجم المبيدات وتوزيعها، وبالمثل مع مدير صندوق حماية البيئة فيما يخص علم وزارة البيئة بنشر المبيد كجهة استشارية وشريكة في حماية الطيور.
لذلك يبدو أن خالد علي، الذي يمارس الفلاحة ويشغف بالطيور الجارحة ويربي النادر منها، سيضيف إلى مهامه في الفترة المقبلة وظيفة إحصاء ما ينفق جراء التسمم، سواء تلك التي تتخذ مصر محطة في مسار هجرتها أو تلك التي تستوطنها، ربما لأن ذلك الأداة الوحيدة التي تُذكر بالخطر الداهم وتدق ناقوسه لعل صوت دويه يوقظ الجهات المعنية فعلًا بصده.