بين المنازل العالية التي تحيط بها أكوام ضخمة من القمامة، يلهو جون ابن الأعوام الأربعة حافي القدمين، بملابس رثة، وبعينين يحوم حولهما الذباب.
وقف الصغير دون أن يبدو عليه انزعاجٌ من رائحة القمامة الكريهة، يحمل دمية ممزقة، ويتقافز في جوار أمه العشرينية التي تعمل في فرز القمامة، بصحبة بعض الفتيات والفتيان بحي الزبالين في منطقة زرايب المقطم شرق القاهرة. وبين حين وآخر، كان الصغير يصرخ فرحًا باصطياد حطام لعبة بلاستيكية.
على غير عادة الأطفال في عمره، يرافق جون والدته "رِفْقَة" منذ الخامسة صباحًا، يبدأ يومه بتناول الإفطار، ثم تحمله على ذراعيها عبر سلالم منزلهما إلى الشارع، حيث حاويات القمامة، التي تبدأ السيارات في إنزالها بعد جمعها من المنازل.
تبدأ رِفْقَة وجيرانها، ومعهم الأطفال، في عملية الفرز. ما بين مخلّفات لا تصلح لإعادة التدوير، وأخرى عضوية من بقايا الطعام، يجري فرز الورق والبلاستيك والمعادن، لتنقل المخلفات الصالحة للتصنيع إلى المصانع.
من بين كل هذه المخلفات نوعٌ لا يصلح لأي شيء، هو الفوط الصحية النسائية وحفاضات الأطفال وكبار السن، تُجمع بأيدي رِفْقَة والعاملين معها، دون أن يرتدي أيّ منهم قفازات أو أقنعة واقية، ثم توضع بإحكام في حاوية، لتتجه في رحلة جديدة إلى مدينة 15 مايو في حلوان بجنوب القاهرة، وفي الصحراء تنتهي رحلتها بالدفن في المنطقة التي أعدتها وزارة البيئة وأحاطتها بالأشجار غير المثمرة.
تكمن خطورة تلك المخلفات في أنها تحوي دماء وفضلات قد تكون حاملة لأمراض معدية، ما يقتضي وضع ضمانات تُحدد طريقة التخلص منها بصورة آمنة، لحماية الإنسان وكذلك الحيوانات والبيئة من تربة وهواء.
المواد القطنية من المواد الخطرة التي يجري التخلص منها نهائيًا.. تُفرز بدقة وتعالج بالدفن الصحي
معايير الدفن
ورغم التوصيات المتكررة بشأن مطابقة المدافن لمواصفات شديدة الدقة، فالمخاوف بشأنها تظل باقية، لأن بعضها يكون جوار المناطق السكنية التي يقطنها جامعو القمامة لتوفير نفقات النقل، ما يعني أن ما يتردد بشأن تدابير إنشاء المدافن ليس ضمن الاهتمامات. وفي ظل وجود حياة وبيئة سكنية مجاورة تصبح حياة هؤلاء البشر في خطر، فهم في مرمى العدوى المحتملة.
تتمثل شروط الدفن في "أن تكون المدافن بعيدة عن المياه الجوفية، وألا تكون التربة طينية حتى لا تصاب بالتشقق ومن ثم تطفو المخلفات على السطح مجددًا"، حسب عبد المسيح سمعان، أستاذ الدراسات البيئية بجامعة عين شمس.
يضيف عبد المسيح لـ المنصة "أن المعالجة بالدفن ينبغي أن تكون على عمق كبير داخل حفرة عميقة ثم تُردم. وبمرور الوقت تتحلل هذه المواد، وقد يتحول بعضها إلى سماد طبيعي صالح للإنتاج الزراعي أو الحيواني، مثل المواد العضوية من فضلات الطعام وقشور الفاكهة والخضروات لتكون سمادًا عضويًا جيدًا".
لا تندرج المواد القطنية تحت هذا التصنيف، فهي من المواد الخطرة التي يجري التخلص منها نهائيًا، سواء كانت حفاضات أطفال وكبار السن أو فوطًا صحة نسائية، تُفرز بدقة وتعالج بالدفن الصحي. وبذلك ينتهي القلق بشأنها.
ولكن يبقى الخوف من الرحلة التي تقطعها المواد القطنية من وقت التخلص منها وحتى دفنها، إذ تُلقى مع بقية المخلفات في الشوارع معرضة الحيوانات والبشر للخطر. يقول سمعان "هذه الأسباب هي ما تدفعنا مرارًا وتكرارًا لمطالبة المواطنين بعدم إلقاء القمامة في الشوارع واستخدام الصناديق المعدة لذلك".
مبادرات ومبادرات
على مستوى القاهرة الكبرى والمحافظات، خرجت كثير من المبادرات المهتمة بالتوعية لخطورة إلقاء القمامة في الشوارع وتراكمها، وتأثير ذلك على البيئة وصحة الإنسان. وكانت بعضها مهتمة بتوفير صناديق قمامة موزعة بشكل عادل في الشوارع، ولكن هذه المبادرات لم يكن لها تأثير واضح. كما لم تنجح مبادرات الإدارة المحلية بوضع صندوق قمامة مغطى أمام كل متجر.
يشير سمعان إلى أن الحل الأمثل يكمن في الفرز من المنبع، لأن اختلاط المواد المؤهلة لإعادة التدوير مع غيرها من العضوية والسائلة يقلل من قيمتها الاقتصادية وقد لا تصلح بعد ذلك للتصنيع.
وفقًا لبيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والاحصاء لعام 2022 بلغ إجمالي القمامة التي تم التخلص منها حوالي 21.2 مليون طن. وتعتبر محافظة القاهرة هي الأعلى من حيث الكمية، فيما محافظة الوادي الجديد هي الأدنى.
"يقدر حجم القمامة يوميًا بنحو 16 ألف طن، مقسمة إلى 6 آلاف طن مواد عضوية وحرارية وبكتيرية قاتلة ويتم استخدام الجزء غير السام منها كأعلاف للحيوانات، أو يعاد تدويرها لإنتاج السماد العضوي"، حسب شحاتة المقدس نقيب الزبالين في حديثه مع المنصة.
ويضيف المقدس"لدينا 8 آلاف طن في صورة مواد صلبة مثل الزجاج والحاويات البلاستيكية والورق وزجاجات المشروبات الغازية، وجميعها يعاد تدويرها مرة أخرى، وتوفر على الدولة ملايين الدولارات من استيراد المواد الصلبة".
يتبقى ألفا طن مخلفات ضارة أو قاتلة، مثل المواد الطبية وحفاضات الأطفال والفوط الصحية النسائية، التي تُعالج بالدفن الصحي في المدافن التي خصصتها الدولة. توجد المدافن في 3 أماكن، هي 15 مايو بحي حلوان جنوب القاهرة، وبلبيس بمحافظة الشرقية، وشبرامنت بمحافظة الجيزة. أما النفايات الطبية فتتولى وزارة الصحة معالجتها بإقامة محرقة بالكهرباء للتخلص الآمن في كل مستشفى.
ينبغي أن تدفن المخلفات في مدافن يحيط بها سور بنائي ذو شبكات تحيط بسور شجري
تنقسم القاهرة الكبرى، حسب المقدس، إلى 5 مناطق لجمع ونقل وتدوير القمامة. وتعد منشية ناصر بالمقطم المنطقة الأم وتخدم وسط وشمال وغرب القاهرة، ومدينة 15 مايو وتخدم جنوب القاهرة، ومدينة الوحدة الوطنية أمام سجن طرة، ومدينة الخصوص التابعة لمحافظة القليوبية، والبراجيل وأرض اللواء وتخدم محافظة الجيزة بالكامل.
يؤكد عيسى هابيل، مالك أحد مصانع تدوير المخلفات لـ المنصة أن المخلفات القطنية، من حفاضات وفوط صحية، لا تصل إليهم ولو بالخطأ، يقول "على مدار أعوام لم تأت قطعة واحدة بالمصادفة، بتتفصل من المقلب، وبتتغطى كويس، وبتدفن، ولا يمكن أن تدخل في التصنيع بأي شكل".
معايير غير مطبقة
يحدد دكتور محمود عمرو أستاذ الطب المهني والبيئي ومؤسس المركز القومي للسموم بقصر العيني في حديثه لـ المنصة المعايير الصحية لدفن هذه الأنواع "ينبغي أن تتم في مدافن يحيط بها سور بنائي ذو شبكات تحيط بالسور الشجري، وذلك لمنع أي زواحف وحيوانات من الوصول إليها. كما ينبغي أن يُرفع عليها شاهد يتضمن الكميات والأنواع، وكذلك تاريخ الدفن وعوامل التعرية بالمنطقة واتجاه الرياح. كما يتوجب أن تخضع لتفتيش دوري، مرة كل عام على الأقل، للتعرف على مدى تأثير عوامل التعرية على المدفن".
ورغم التشديد على هذه المعايير الفنية، فالمدافن تقع بالقرب من مناطق سكنية، يقول عمرو "قد تبعد عدة أمتار فحسب، وصحيح أنها شُجرت بأشجار غير مثمرة، إلا أن التربة في تلك المناطق رملية وغير مبطنة، ففي مدينة 15 مايو على سبيل المثال، يقع المدفن على بعد أمتار من أحد الأحياء السكنية".
ويضيف دكتور عمرو "المجتمع يواجه خطورة بالغة من مخلفات المنازل العضوية، نظرًا لحساسية التعامل معها، فيما لا يتخذ العاملون في عملية الفرز أي احتياطات صحية، ما يعني احتمالية نقل العدوى لهم ومن ثم لذويهم".
يسهل عملية التخلص من المخلفات الخطرة فصلها من المنبع، وهي الخطوة التي تواجه صعوبات عدة، بدءًا من الوعي اللازم بأهمية الفصل، ونهاية بعدم توافر صناديق في الشوارع تساعد على ذلك، فيقع الحمل كله على عاتق جامعي القمامة.
كما تفعل والدة جون وزملاؤها، الذين لا يزالون يتعاملون مع المخلفات القطنية دون إجراءات احترازية، تحميهم من الوقوع فريسة الخطر الكامن في الفوط الصحية الملقاة وسط القمامة.