مبادرة VeryNile، فيسبوك
صياد يجمع النفايات البلاستيك من نهر النيل

صيد البلاستيك.. من النيل وإليه

مع شح الأسماك وزيادة النفايات.. أرزاق الصيادين في إعادة التدوير

منشور الخميس 20 مارس 2025

يتذكر المِعلم عرفة جابر وهو يبحر بقاربٍ مُصنّعٍ من البلاستيك المعاد تدويره، اليوم الأول الذي أبحر فيه ليس فقط لصيد الأسماك، بل لجمع مخلفاتٍ بلاستيكيةٍ تسد مجرى النيل بالقرب من القناطر الخيرية شمال القاهرة. 

كان ذلك أواخر عام 2020، بعدما أنهى لتوِّه تدريبًا مع مبادرة VeryNile لتنظيف نهر النيل من المخلفات البلاستيكية، "خرجت يومها مع ابني للصيد قرب القناطر، وهناك فيه حاجز بيتجمع عنده بلاستيك كتير، بعد ما فردت الشبَك قلت أروح عند الحاجز أجمع بلاستيك، كنت متخيل إني ممكن أرجع بخمسة كيلو سمك وزيهم بلاستيك بالكتير، لكن على آخر اليوم كان معايا 30 كيلو بلاستيك و6 كيلو سمك"، يقول المعلم عرفة لـ المنصة.

المبادرة التي بدأت بمجموعةٍ من الشباب، ثم لاقت مساندةً من الجهات الحكومية والمجتمع المدني "كانت بتاخد منَّا كيلو البلاستيك بـ11 جنيه، وده كان ربح أكبر من بيع أي كمية سمك بتطلع الفترة دي في يوم واحد".. هذا الربح الوفير، بحسب المعلم عرفة، غيَّر آراء زملائه من الصيادين الذين رفضوا المشاركة في المشروع مع بدايته كيلا يتحول الواحدُ منهم من "صياد معلِّم في الحرفة لجامع قمامة".

بعد أربع سنوات من رحلته الأولى لجمع النفايات، وفي نوفمبر/تشرين الثاني 2024، أبحر عرفة في النيل على متن قاربه الجديد الأخف وزنًا والأكثر قدرةً على الإبحار مسافات أبعد لأنه مُدعم بالألواح المنتَجة من البلاستيك المعاد تدويره من مخلفات نهر النيل.

قـدَّمت المبادرةُ 5 قوارب جرى تعديلها بإضافة الألواح البلاستيكية، ووُزعت على صيادين في شراكة من بين مشروع Floating Forward بمعهد جوته بالقاهرة ومبادرة Very Nile بجزيرة القرصاية بالجيزة.

قارب من الألواح البلاستيك المعاد تدويرها

لم يتوقف دور عرفة ضمن المبادرة عند كونه صيادًا يجمع البلاستيك، لكنه أصبح يتولى إدراة ورشة لصيانة القوارب بجزيرة الوراق، ومشرف على إضافة الألواح البلاستيكية للقوارب، التي يعاد تصنيعها من الزجاجات والنفايات المُجمعة من خلال حملات تنظيف النيل على مدار ثلاثة أعوام. 

كيف تُصنع قوارب البلاستيك؟

يمر تحويل البلاستيك إلى ألواح قابلة للتركيب في القوارب بعدة مراحل؛ يوضح عرفة أنهم يفصلون أغطية الزجاجات، التي تدخل في مرحلة الفرم، ثم تُعرَّض الزجاجات للحرارة العالية، وبعدها تدخل في مكبس حراري لإعادة تشكيل البلاستيك إلى ألواح تُستخدم في صنع بطانة القوارب الداخلية لمنع التسريب. 

يشير عرفة إلى الفارق الذي يحدثه تعديل القوارب الخشبية باستخدام الألواح البلاستيكية، "العادي إننا بنتعامل مع طول وعرض المركب مش وزنه، عندنا مراكب بطول 4 متر ونص، و6 متر لحد 7 متر، وده أكبر مركب ممكن يترخص للصيد في النيل، ممكن نحسب وزن المركب بحجم الخشب الموجود فيه فيوصل أكبر مركب لوزن يعدي 200 كيلو، وأصغرها 150 كيلو تقريبًا". 

ومن هنا تفيد المبادرة في تقليل الوزن بشكل كبير، فالمراكب بطول 4.5 متر "البلاستيك خلى وزنها أخف وتقريبًا بقت 100 أو 120 كيلو، ومش البلاستيك بس اللي ساعد في كده"، يلفت عرفة إلى أنهم يعيدون استخدام الخشب القديم وأجزاء من المراكب المتهالكة أيضًا، لأن "الخشب القديم بيكون متحمص من الشمس وبقى أخف في الوزن، عشان فقد كل الرطوبة، على عكس الخشب الجديد بيكون طري".

لا يمكن حتى الآن الاستغناء عن الأخشاب في صناعة القوارب النيلية، كما يوضح عرفة "ألواح البلاستيك قد لا تقبل التغطية وتقفيل الفواصل بالفايبر مثل الأخشاب عشان الميه ما تتسربش منها، وعشان كده بنبطّن بيها المركب ويكون البدن الخارجي من الخشب عادي، وأحيانًا ممكن نعمل الجزء السفلي من المركب الغاطس في المية خشب ومن فوق بلاستيك، لحد ما نقدر نعمل مركب بلاستيك بالكامل".  

طموح المبادرة لصنع مركب كامل من النفايات يستند لتجارب سابقة، ففي عام 2018 أبحر قاربٌ مصنوعٌ بالكامل من بلاستيك معاد تدويره في مدينة لامو الكينية، في حملة الأمم المتحدة للبيئة من أجل بحار نظيفة.

مبادرات متعددة وحلول جماعية

حَسْبَ مهاب العزازي مدير مشروع Floating Forward بمعهد جوته بالقاهرة لـ المنصة فإن تعديل القوارب الخمس باستخدام ألواح بلاستيك معاد تدويره أحد مشروعات تدوير النفايات في المحافظات التي تطل على النيل، من بينها القاهرة وأسوان وأسيوط وقنا وبني سويف، والتي تهدف لتشجيع الصيادين على إكمال عملهم في جمع النفايات البلاستيكية من النيل وصيد الأسماك. 

تسلم "هاني" مركبه الخاص من المبادرة بعدما كان يعمل باليومية على مراكب الغير

وهذه ليست المبادرة الوحيدة التي خرجت من المشروع، فهناك "مبادرات أخرى بدأت لتدوير البلاستيك والنفايات، بالتعاون مع مبادرة VeryNile  ووزارة التعليم"، يقول العزازي.  

"خلال عامين من عمر المشروع بحثنا أسباب تلوث النهر بالنفايات وحلولها في ورش العمل على طول النيل"، ينبه العزازي إلى أن "كثيرين لا يدركون أن التخلص غير السليم من القمامة عامل مهم في التلوث في أجزاء كبيرة من البلاد".

أما الحلول فهي جماعية تعتمد على تغيير أنماط الاستهلاك ويمكن أن "يساهم كل منا في الحل من خلال تقليل استهلاكنا الفردي وبالتالي إنتاج نفايات أقل"، يوضح العزازي.

بلاستيك في كل مكان

تعد مصر أكبر مصدِّر لمخلفات البلاستيك في العالم العربي، وحسب الغرفة التجارية الأمريكية بالقاهرة تنتج 5.4 مليون طن متري من البلاستيك سنويًا، وهو ما يكون مصدر رزق للعديدين، من بينهم صيادو النيل.  

"كنت بشتغل باليومية مع صيادين ومفيش فرصة أشتري مركب يبقى بتاعي"، يُدين الصياد هاني أحمد خلف بالفضل لمبادرة تصنيع القوارب بألواح بلاستيكية "دلوقتي استلمت مركب أشتغل عليه، صحيح السمك قليل للصيد لكن هشتغل في جمع البلاستيك من النيل عشان يعوض ظروف الحياة صعبة".

البلاستيك في مياه النيل أكثر من الأسماك

يسهل المركب ذو الألواح البلاستيك مهمة هاني في الصيد وجمع النفايات "المركب مريح لأني اشتغلت على مراكب خشب تقيلة قبل كده والبلاستيك مخلي المركب أخف في التجديف وبنقدر نروح حتت بعيد للصيد أو لجمع البلاستيك".  

السمك قل البلاستيك زاد 

مؤشرات تراجع الثروة السمكية

خلال رحلته اليومية والتجديف لمدة ساعتين من جزيرة القرصاية حتى منطقة طرة قبل حلوان، ثم العودة إلى القرصاية مرة أخرى يجمع هاني كميات كبيرة من النفايات "أكتر حاجة بنشوفها في الميه، البلاستيك بقي في كل مكان".  ويتفق معه الصياد ياسر علي أحمد على أن فترة الصيف يكون جمع مخلفات البلاستيك من النهر أكثر ربحًا من صيد الأسماك، كونه موسم رواج رحلات السياحة النيلية، التي تقل بنسبة ملحوظة في فصل الشتاء، مع برودة الطقس وانخراط تلاميذ المدارس وطلبة الجامعات في الدراسة.

يقول ياسر الذي يصطحب معه ابنيه للصيد في الإجازة الدراسية "في فترات الصيد الصعبة بضطر للتجديف من جزيرة القرصاية لكوبري الجامعة أو منطقة طرة، وجمع الزجاجات البلاستيك والأكياس".  

"البلاستيك بيزيد في الصيف بيخلي شغلنا في جمع النفايات مربح"، غير أن ياسر يلفت إلى أن هذا التلوث "بيقلل من الأسماك اللي هي شغلنا الأساسي وبقينا بنشتغل أكثر على جمع البلاستيك أكثر من الصيد بسبب المكسب".  

اتجاه عرفة وهاني وياسر وغيرهم من الصيادين لجمع المخلفات البلاستيكية من النيل سببه الأول تراجع حجم الإنتاج السمكي في النهر، حيث تشير البيانات الرسمية الصادرة عن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء بين عامي 2010 و2022، وهي أحدث البيانات المتوفرة على موقع الجهاز الرسمي، إلى تراجع نسبة إسهام نهر النيل في الإنتاج السمكي من 84.5 ألف طن عام 2010 إلى 78.3 ألف طن عام 2022. 

وتتغير نسبة إسهام النيل في الإنتاج السمكي زيادةً ونقصانًا خلال السنوات المرصودة، وإن كان يتجه عمومًا إلى التراجع بنسبة 6.5% عام 2010 إلى 3.9% عام 2022، ونَقصَت معها أنواع الأسماك النيلية المنتَجة واختفى بعضها. 

وكشفت دراسة نشرتها مجلة الاقتصاد الزراعي إلى أن نهر النيل يعاني من تلوث حاد نتيجة النشاط البشري السلبي مثل التخلص من النفايات الصناعية في نهر النيل والبحيرات المصرية، كما أن التخلص من مخلفات الصرف الصحي والصناعي تسبب في انخفاض كمية الإنتاج السمكي وما يتبعه من انخفاض العائد المادي ما أدى إلى تراجع عدد تراخيص الصيادين المرخصين في نهر النيل من 5797 صيادًا عام 2010 إلى 3859 فقط عام 2019.

 بخلاف الدراسات يشير الصيادون الثلاثة إلى أن الدولة لم تعد تؤدي دورها بما يكفي للحفاظ على الإنتاج السمكي في النيل، حيث قلَّ إلقاء زريعة الأسماك في مناطق التكاثر، وأيضًا يجري إزالة البوص على ضفتي النهر الذي كان يوفر مناطق لتكاثر الأسماك وزيادة حجمها. 

يدرك الصيادون أن التغير المناخي و التلوث بسبب المخلفات لهما دور كبير في تراجع الثروة السمكية، ما يحفزهم أكثر على الاستمرار في جمع النفايات، يقول عرفة "ما كنتش أعرف قبل كده معنى التلوث البيئي في النيل والتغير المناخي، لكن كون إني أشتغل على مركب اتعمل من بلاستيك جمعناه بإيدينا من النيل غيرلي أسلوب تعاملنا من النهر وما بقاش حد فينا بيرمي بواقي الأكل في النيل ولا أزايز الميه لأننا بكره هنرجع نجمعها تاني يوم من نفس النهر".