اضطرت الدكتورة ريم يوسف، النازحة من الخرطوم بسبب الصراع الدائر في السودان بين الجيش وقوات الدعم السريع منذ يونيو/حزيران 2023، وهي تؤسس منزلها في القاهرة لشراء جميع الأجهزة الكهربائية مستعملةً.
تأثرت ريم بنصائح جاراتها باللجوء للأجهزة القديمة لانخفاض أسعارها، وبعدما أكد لها فني الصيانة أن "المستعمل" بنفس كفاءة الجديد. لكن بعد فترة قصيرة من تركيب الأجهزة انفجر الكابل الموصل بين عداد الكهرباء ووحدات التكييف في شقتها.
تبين لريم بعد الفحص أن الحريق نتج عن زيادةٍ في أحمال الكهرباء بسبب الاستهلاك الكثيف للتيار مع ارتفاع درجات الحرارة.
في هذا التحقيق رصدنا المعروضات في أشهر أماكن بيع أجهزة التكييف في القاهرة، ومدى تأثير التكييفات القديمة والمستعملة على استهلاك الكهرباء، والمخاطر التي تشكلها على المستهلكين.
اكتشفنا كذلك أن العديد من الأجهزة الحديثة المتاحة في الأسواق لا تتبع المواصفات القياسية المصرية، ويؤدي انخفاض أسعارها للجوء لها في ظل ظروف اقتصادية صعبة، رغم تسببها في زيادة استهلاك الكهرباء، المرشحة أسعارها للارتفاع دائمًا.
بطاقات مغشوشة لكفاءة الطاقة
تتسبب أجهزة التكييف غير المطابقة لمعايير كفاءة الطاقة في زيادة استهلاك الكهرباء بنسبة 14% من إجمالي استهلاك القطاع المنزلي في مصر، حسب المهندس عمر فتحي عضو اللجنة الفنية بإدارة الاختبارات بهيئة المواصفات والجودة ومدير معمل الاختبارات الفنية بهيئة الطاقة الجديدة والمتجددة/NREA.
يوضح فتحي لـ المنصة أن "85% من أجهزة التكييف في مصر غير مطابقة للمواصفات القياسية لكفاءة الطاقة، من بينها الأجهزة المتهالكة. بينما 15% فقط مزودة بالتقنية الحديثة، إنفرتر، التي تعمل على خفض استهلاك الكهرباء".
في محاولة لتتبع حالات الأجهزة غير المطابقة للمواصفات، تجولنا في عدد من الأسواق لمعاينة التكييفات الجديدة والمستعملة ورصد معايير كفاءة استهلاك الطاقة بها، ومدى دراية البائعين بها.
من الطابق الثاني لإحدى المحال التجارية الكبرى بوسط القاهرة، بدأت جولتنا في أغسطس/آب 2023. هناك اكتشفنا أن 90% من الأجهزة المعروضة مصنفة في بطاقة كفاءة الطاقة الملصقة على أحد جانبي الأجهزة كفئة (B). وهذا يعني أن هذه الأجهزة منتجة وفق مواصفات قديمة للهيئة المصرية للمواصفات والجودة، ولا تواكب المواصفة المعمول بها حاليًا، المحدثة حتى 2018، التي تعتبر أن جميع الأجهزة المصنفة أقل من "A" أو "A+" غير مطابقة.
كما لاحظنا أن العديد من البطاقات على هذه الأجهزة لم تكن ملصقة بشكل محكم، ما يثير الشك في مصداقية البيانات الواردة عليها.
وبطاقة كفاءة الطاقة هي كارت لاصق يهدف إلى توعـية المستهلك بمستوى كفاءة الأجهزة الكهربائية في استهلاك الطاقة.
ويوفر هذا المحل الشهير خدمة البيع بالتقسيط، ما يشجع العديد من المستهلكين على الشراء دون تدقيق في مستوى استهلاك الطاقة.
مستورد يعترف: الأجهزة لا تتحمل الحرارة المرتفعة
في شارع عبد العزيز المكتظ، بحثنا عن كبار المستوردين والموزعين لأجهزة التكييف في القاهرة، وتوصلنا إلى أحد أكبر مستورديها في القاهرة ومحله على أطراف حي عابدين.
رغم صيته الذائع في سوق الأجهزة الكهربائية، كانت هيئة مدير المحل التجاري القديم بسيطة، وهو ابن صاحب المحل، ولا تعكس ثراء والده وحجم أعماله. خارج المحل تراصت عدد من "هياكل" أجهزة التكييف من العلامات التجارية الشهيرة. أما داخله، فتراصت صناديق داخلها مكونات أجهزة تكييف، وفوق تلك الصناديق توجد ملصقات توضح الخواص الفنية للمنتج داخل الصندوق.
تقمصنا شخصية عميل يبحث عن محل مضمون لشراء 14 جهاز تكييف بغرض إرسالها من مصر إلى السودان، واخترنا السودان للكشف عن قدرة التكييفات المتوفرة في السوق على العمل في درجات الحرارة المرتفعة.
مدير المحل شاب عشريني يعكس حديثه معرفة عميقة ببواطن التجارة في أجهزة التكييف. خلال المقابلة أفصح المدير الشاب عن أن معظم الأجهزة الموجودة في السوق المصرية لا تصلح للعمل في درجات حرارة مرتفعة عن المعدلات الطبيعية، خاصة في ظل آثار تغير المناخ التي ظهرت على الطقس في مصر مؤخرًا.
جولة في سوق شعبية للتكييفات
توجهنا إلى السوق الشعبية في عزبة أبو حشيش، أسفل كوبري غمرة في شارع رمسيس بالقاهرة، التي تظهر فيها وقائع الغش بكل عفوية.
يعرض البائعون أجهزة التكييف المتهالكة على أنها صالحة للاستخدام، في ظل احترار عالمي غير مسبوق. ويدعم هذه المخالفة الحالة المادية للمستهلك الذي يقصد سوق عزبة أبوحشيش بحثًا عن أقل سعر.
في هذه السوق لا يتطرق البائع أو المستهلك للحديث عن كفاءة الطاقة والمواصفات القياسية والجودة. ولاحظنا أيضًا غياب بطاقات كفاءة الطاقة فوق معظم الأجهزة المعروضة.
داخل مخزن الحاج "م"، سألنا عن مواصفات تكييف واحد ونصف حصان، وآخر ثلاثة حصان، ولاحظنا وجود بطاقة كفاءة الطاقة على جانب أحد الأجهزة تشير إلى أنه مصنف فئة "D".
وبسؤال مالك المعرض عن هذه الأجهزة قال "إن كل الأجهزة جيدة"، وقال مساعده "الأجهزة إنتاج عام 2014"، رغم عدم وجود بطاقة كفاءة الطاقة على معظم الأجهزة المعروضة للبيع في المخزن.
ويُعد مخزن الحاج "م" مستودعًا لاستقبال بضائع السريحة من جامعي الروبابكيا في محيط القاهرة.
استكملنا جولتنا فوصلنا لمحل مخصص لبيع أجهزة التكييف، ونقصد هنا بـ"محل" أن له مظهرًا مختلفًا عن نمط الدكاكين والمخازن الموجودة بسوق عزبة أبو حشيش، فهو يتمتع بواجهة إعلانية وتوجد أعلى مدخله لافتة كبيرة تعلن اختصاصه في "التكييف والتبريد"، وأن صاحبه "مهندس".
في الداخل تراصت أجهزة التكييف المستعملة على جانبي ممر واسع. على اليمين كانت أجهزة التكييف بقوة واحد ونصف حصان من نمط "السبليت" متراصة في شكل متناغم، ورغم أن شكلها الخارجي يوحي بالنظافة فإن درجة الاصفرار التي تعلوها تدل على قِدم إنتاجها وسَبق استخدامها. وعلى اليسار تراصت أجهزة التكييف من اثنين وربع، وثلاثة حصان، التي بدت أفضل حالًا.
طلبنا الاطلاع على العروض ومواصفات التكييفات، وسألنا البائع عن احتياجتنا المحددة، وأخبرناه أننا نبحث عن تكييفات للاستخدام المنزلي، تحديدًا جهازان، واحد لغرفة أطفال والآخر لريسبشن. سأل عن المساحة والطابق، فأخبرناه أننها في الطابق الأخير قبل السطح، فنصحنا بجهاز بقوة كبيرة؛ لأن الجهاز الضعيف "ممكن يتحرق مع الحرارة العالية".
وأرجع البائع نصيحته إلى أن الجهاز الواحد ونصف حصان لا يصلح للتبريد في الطوابق المعرضة لدرجات الحرارة المباشرة "مش هيبرد المكان، وهيتحرق معاك على طول.. أقل حاجة مع الشمس المباشرة اثنين وربع حصان". ورغم صحة كلامه فإنه أغفل أن الجهاز المتهالك مهما كانت قدرته معرض للاحتراق مع الحرارة المرتفعة.
وبينما تعكس بيانات ملصقات كفاءة الطاقة على الأجهزة المعروضة في هذا المحل عدم مواكبتها للمواصفات الحديثة، يبدو من حديث البائع عدم إلمامه بمدى أهمية كفاءة استهلاك الجهاز للطاقة، "يا باشا الأجهزة القديمة أفضل بكثير من الجديدة، لأن الموديلات القديمة السرابنتينة بتاعتها نحاس، لو اتخرمت ممكن تتلحم وتشتغل معاك. إنما الجديدة السرابنتينة ألومنيوم لو اتخرمت يعوض عليك ربنا في الجهاز".
لا يعلم البائع شيئًا عن بطاقة كفاءة الطاقة التي من المفترض أن توجد على جانب أجهزة التكييف، ولما سألناه عنها قال "تقصد ورقة الضمان؟"، ولما وضحنا قصدنا، قال "لا مش موجودة عندي في الأجهزة، وبتكون موجودة على الثلاجة؟ أو الأجهزة الحديثة". وسألناه عن أسعار الأجهزة، فقال "بتبدأ من ست آلاف وأنت طالع.. وبتكون أجهزة مش مغيرة كباس، ولا أي حاجة.. تقفيل بلاده".
وبسؤاله عن تاريخ إنتاج هذه الأجهزة، قال بأمانة "أنا ما أعرفش والله عشان برضو أبقى دوغري معاك".
تطورات صناعة التبريد والتكييف
بسؤال فني متخصص عن تأثير تقادم الأجهزة على استهلاكها للكهرباء، أوضح المهندس ماريو مجدي مسؤول هندسة التكييف والتبريد في إحدى الشركات المحلية لـ المنصة أن الأجهزة المنزلية ثلاثة أنواع: أولًا أجهزة منتجة خلال فترة تتراوح بين 15-20 سنة، وهي أعلى استهلاكًا للكهرباء بسبب وجود كباس متقادم الصنع في وحدتها، وثانيًا أجهزة إنتاجها يترواح بين 5 و10 سنوات، وتكون أقل في استهلاك الكهرباء بسبب وجود كباس يعرف باسم الروتاري، أقل حجمًا وموفر في الكهرباء، وثالثًا أجهزة حديثة إنتاج 2020، وهي موفرة للطاقة لأنها تعمل بتقنية الإنفرتر الصديقة للبيئة.
وأضاف ماريو أن التطور الذي شهدته صناعة التكييف التي تعمل بتقنية الإنفرتر يساهم في خفض استهلاك الكهرباء، وبدوره خفض الانبعاثات الكربونية، خصوصًا أن هذه الأجهزة بها وحدة تشغيل مزودة بغاز فريون يعرف بـ410، وهو فريون صديق للبيئة.
وأوضح ماريو أن جميع أجهزة التكييف الموجودة في الأسواق المصرية، التي يرجع تاريخ إنتاجها من 5 إلى 20 سنة، تعد غير صديقة للكهرباء والبيئة معًا، بالإضافة إلى عدم قدرتها على تحمل ارتفاع درجات الحرارة، بما ينذر بحرائق في كابلات الكهرباء لعدم قدرتها على تحمل زيادة الأحمال.
لكن التكييفات الإنفرتر الحديثة أسعارها مرتفعة جدًا، لذلك تُقبل عليها شريحة محدودة من المستهلكين. كما أن قطع غيارها لا تتوفر بسهولة، بينما قطع غيار التكييفات القديمة متوفرة بكثرة. وأشار ماريو إلى أنه إلى جانب العائق الاقتصادي، فالفنيون غير المدربين على صيانة الأجهزة الحديثة ينصحون بعدم شرائها، لصعوبة صيانتها.
الرقابة على التكييفات.. حبر على ورق
أصدرت وزارة التجارة والصناعة قرارات عدة لتوجيه المنتجين والمستوردين للالتزام بالإنتاج طبقًا للمواصفات القياسية المصرية المتعلقة بكفاءة الطاقة للأجهزة المنزلية الكهربائية وما شابهها، وطرق قياس وحساب استهلاك الطاقة لهذه الأجهزة، منها أجهزة التكييف.
كما فرض قانون الكهرباء الجديد عقوبات على منتجي ومستوردي الأجهزة والمعدات الكهربائية غير الملتزمين بوضع البطاقات الخاصة بكفاءة الطاقة على الأجهزة الكهربائية، ومصادرة جميع الأجهزة والمعدات الكهربائية المخالفة.
رغم هذه الضوابط القانونية، فإن المخالفات شائعة في الأسواق التي زرناها، ما يثير تساؤلات حول الجهة المسؤولة عن الرقابة، وأسباب عدم ممارستها.
يوضح اللواء إيهاب أمين مساعد وزيرة التجارة والصناعة للشؤون الفنية، ورئيس مصلحة الرقابة الصناعية، أن اختصاص المصلحة الرقابي هو الفحص والتفتيش على المصانع بغرض مراقبة التزام الوحدات الصناعية والمراكز الخدمية بالاشتراطات اللازمة لمطابقة منتجاتها مع المواصفات القياسية، المصرية أو العالمية، معتبرًا أن مصلحة الرقابة الصناعية "تعد خط الدفاع الأول للمستهلك".
لكنه يشير إلى أن كل خيوط الرقابة لا تقع في يد المصلحة، فعند خروج المنتج إلى الأسواق ينتهي دور مصلحة الرقابة الصناعية، ويأتي دور مباحث التموين والهيئة العامة للمواصفات والجودة وجهاز حماية المستهلك، إذ ترتبط اختصاصاتهم بالمنتج بعد التصنيع، ومطابقته للمواصفات القياسية والجودة وكفاءة الطاقة.
ويقول المهندس إبراهيم المانسترلي رئيس مصلحة الرقابة الصناعية السابق إنه من الضروري تعزيز تكامل جميع الجهات الحكومية في ضبط الإنتاج داخل المصانع وفقًا للمواصفات القياسية والجودة. لذا فهو يشدد على أهمية مراقبة الأسواق، مشيرًا إلى أنها مسؤولية تضامنية بين مباحث التموين وجهاز حماية المستهلك.
ضرورة مشاركة المستهلك في الرقابة
من جانبه، أشار الدكتور خالد صوفي رئيس مجلس إدارة الهيئة المصرية العامة للمواصفات والجودة، في حديثه لـ المنصة، إلى عمل الهيئة على مكافحة الغش في أجهزة التكييف "مؤخرًا أصدرنا نحو 11 مواصفة حديثة في مختلف القطاعات، أبرزها ما يعرف ببطاقة كفاءة الطاقة، بهدف حماية المستهلك من التلاعب أو الغش عند شراء أجهزة التكييف والأجهزة الكهربائية، إذ إن هذه البطاقة تكشف للمستهلك مستوى كفاءة استهلاك الجهاز للطاقة".
لكنه اعتبر أن دور الأجهزة الرقابية لن يكون كافيًا لمحاصرة أعمال الغش المختلفة، إذا لم يساهم المستهلك من خلال مراقبة معايير الأجهزة المباعة وامتناعه عن شراء التكييفات المخالفة للمواصفات.
الجدير بالذكر أن مصر كانت أطلقت في مايو/أيار 2022 "الاستراتيجية الوطنية لتغير المناخ في مصر 2050"، التي تستهدف تحقيق تنمية منخفضة الانبعاثات في مختلف القطاعات، لذا فإن غياب الرقابة على بيع الأجهزة الكهربائية المخالفة للمواصفات المصرية يثير تساؤلات حول إمكانية إنجاح الاستراتيجية، في ظل ما يتسبب فيه إنتاج الكهرباء من انبعاثات كربونية.
على أثر حادث الحريق في منزل ريم، اضطرت المهاجرة السودانية للتخلص من كل أجهزة التكييف التي اشترتها، وتحملت تكلفة شراء عداد كهربائي جديد للشقة بديلًا عن الذي أكلته النيران، ما جعلها تتكبد خسائر كبيرة بسبب نصائح جاراتها بشراء "المستعمل".
(*)هذا التحقيق أُنجز بالتعاون مع منصة المناخ بالعربي ضمن زمالة الصحافة الاستقصائية للمناخ.