هكذا ودون أي مقدمات. أصدرت المحكمة الجزائية المتخصصة في المملكة العربية السعودية حكمًا بالسجن لمدة 45 سنة على نورة بنت سعيد القحطاني، بعد إدانتها بـ"استخدام الإنترنت من أجل تمزيق النسيج الاجتماعي" و"خرق النظام العام عن طريق استخدام وسائل التواصل الاجتماعي"، وفقًا لقوانين مكافحة الإرهاب وجرائم العالم السيبراني.
لم أصدق عيني عندما رأيت هذا الخبر. خمس وأربعون سنة سجنًا لمجرد نشر تغريدات تراها الدولة مسيئة؟ ظننت أن هناك خطأ ما. فمعاداة الأنظمة السلطوية العربية للسوشيال ميديا باتت معروفة، وتهمة نشر آراء هدامة تحدث البلبلة وتهدد التماسك الاجتماعي وتشوه سمعة الوطن في الخارج هي المبرر الرئيسي في معظم الدول العربية للقبض على المعارضين.
أصبح هناك عقيدة راسخة لدى أجهزة الأمن في العديد من الدول العربية، أن السوشيال ميديا هي المطبخ الحقيقي للثورة والوسيلة الرئيسية لدفع المواطنين للنزول للشارع لقلب أنظمة الحكم. لا يخطر في بال هذه الأجهزة أن الأسباب الحقيقية للثورات الشعبية لا تكمن في وسائل التواصل، التي قد تكون في أفضل الأحوال وسيلة للحشد. ولكن الجذور الحقيقية للغضب الشعبي تعود للفساد المستشري أو الانتخابات المزورة أو التفاوت الطبقي الحاد، وهي أمور لا تخلقها وسائل التواصل.
ولكن هل الخوف من وسائل التواصل يبلغ حد الحكم بسجن معارضة سعودية ما يقارب الخمسة عقود؟ لا تنافس السعودية بهذا الحكم القاسي سوى الصين، وكوريا الشمالية، وربما إيران، ويتذيلون جميعًا قوائم تقييم سجل حقوق الإنسان على مستوى العالم.
كنت أشعر بغضب بالغ حين صدرت أحكامًا بالسجن أربع وخمس سنوات ضد معارضين من محاكم جنح طوارئ في مصر، بسبب مقالات كتبوها أو مقابلات تلفزيونية قاموا بإجرائها، كما هو حال زياد العليمي، وهشام فؤاد، وحسام مؤنس، وعلاء عبد الفتاح، ومحمد الباقر، ومحمد أكسجين.
ولكن بعد الحكم الصادر بحق نورة القحطاني بخمسة وأربعين سنة، أدركت صحة مقولة كنا نرددها في السجن أن "الجحيم درجات"؛ السجن خمسة وأربعين سنة بسبب تغريدات على تويتر هو لا شك الدرك الأسفل من النار.
ولكن إدانة نورة لم تكن المفاجأة الأولى. ففي مطلع أغسطس/ آب الماضي في السعودية، قضت نفس المحكمة الجزائية بسجن سلمى الشهاب، وهي أم لطفلين وطالبة دكتوراه في جامعة ليدز ببريطانيا، 35 سنة لمتابعتها حسابات معارضين ونشطاء سعوديين على تويتر وإعادة نشر تغريداتهم.
والأنكى أن المحكمة قضت بمنع الشهاب من السفر 34 سنة بعد انتهاء فترة الحبس. زعمت سلمى تعرضها للتعذيب والضغوط أثناء فترة احتجازها، بسبب انتماءها للأقلية الشيعية في المملكة. وكانت محكمة أخرى قضت بسجن سلمى ثماني سنوات، ولكن المحكمة الجزائية قضت في حكمها الأخير بالتشديد لأن "الحكم السابق لم يحقق الردع".
وعلى عكس سلمى، التي نالت قضيتها اهتمامًا عالميًا منذ اختفاءها في يناير/ كانون الأول 2021 حتى صدور الحكم القاسي بحقها في مطلع الشهر الماضي، فإن نورة ليست من الأسماء المعروفة في عالم المعارضة السعودية، ولم يُكشف عن الحكم المذهل الذي صدر بحقها سوى من خلال منظمة الديمقراطية من أجل العالم العربي الآن، والمعروفة بـ DAWN وتتخذ من واشنطن مقرًا لها.
وأسس DAWN المعارض السعودي الراحل الصحفي جمال خاشقجي، الذي تولى قتله وتقطيع جسده بمنشار في مقر القنصلية السعودية في إسطنبول في أكتوبر/ تشرين الأول 2018 فريق رفيع المستوى من رجال الأمن السعوديين، من بينهم كبير الأطباء الشرعيين والحارس الشخصي المقرب من ولي العهد السعودي والحاكم الفعلي للمملكة، محمد بن سلمان.
واللافت للانتباه أن تلك الأحكام التي تفغر لها الأفواه جاءت بعد ثلاثة أسابيع فقط من "قمة جدة"، التي جمعت في منتصف يوليو/ تموز الماضي الرئيس الأمريكي جو بايدن للمرة الأولى مع تسعة من الحكام العرب، الذين سبق وتعهد أثناء حملته الانتخابية في نهاية 2020 بعزل غالبيتهم والتعامل معهم على أنهم "منبوذين" بسبب سجلهم في مجال حقوق الإنسان. وعلى رأس هؤلاء ولي العهد السعودي بسبب ما أكدته المخابرات الأمريكية من أنه أصدر شخصيًا قرار اغتيال خاشقجي وتولى التنفيذ مستشاره الإعلامي الشهير سعود القحطاني.
وبذلت إدارة بايدن الجهد لتبرير الزيارة والقول بأن اللقاء لم يكن شخصي مع بن سلمان، بل قمة إقليمية ضمت حكامَ دول الخليج الست، ومعهم رئيس مصر وملك الأردن ورئيس وزراء العراق، والدفع بأن الرئيس العجوز أثار قضية خاشقجي مع ولي العهد السعودي، الذي اكتفى بنفي تورطه شخصيًا في جريمة القتل.
لكن الإصلاحات تقف عند هذا الحد، ولا تشمل الحق في إبداء أية معارضة لأسلوب بن سلمان في الحكم
ابن سلمان حاول تقديم توليفة عجيبة للعالم الغربي كان يصعب تقبلها حتى وقت قريب؛ أنه حاكم إصلاحي شاب يسعى لتغيير العديد من الأوضاع التي تتسبب في توجيه انتقادات حادة للمملكة، خاصة فيما يتعلق بحقوق المرأة، مثل حرمانها من القيادة والسفر والتنقل بمفردها، وتولي مناصب رفيعة المستوى، وكذلك إنهاء نفوذ جماعة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، التي كانت تضرب الناس في الشوارع لدفعهم للصلاة وتمنع حفلات الغناء، وأمور أخرى كثيرة قد تبدو مذهلة عندما نقارن بما كان عليه الوضع في المملكة قبل سنوات قليلة.
ولكن الإصلاحات تقف عند هذا الحد، ولا تشمل الحق في إبداء أية معارضة لأسلوب بن سلمان في الحكم أو التساؤل بشأن إنفاق المال العام في أحد أغنى بلاد العالم، وتقسيمه على عدة آلاف من أمراء أسرة آل سعود الحاكمة، أو حق المواطن السعودي في انتخاب حكامه، وألا يقتصر الأمر على مجلس للشورى يترأسه الملك ويعين معظم أعضائه ويملك حق رفض قراراته. فهذه أمور تستوجب العقاب الرادع الصارم.
ومن المعروف أن المواطنين السعوديين يتصدرون قائمة مستخدمي موقع تويتر في العالم العربي. ولهذا السبب، تولي الحكومة السعودية اهتمامًا كبيرًا بمتابعة ومراقبة تويتر، وزرع لجانها الإلكترونية به، بل وتوظيف عملاء داخل شركة تويتر نفسها لمراقبة حسابات المعارضين وتوفير المعلومات الخاصة بهم للحكومة السعودية مقابل هدايا مالية وعينية سخية. وأدانت محكمة في سان فرانسيسكو في 10 أغسطس أحد الموظفين بالتجسس لصالح السعودية بينما تمكن المتهم الثاني من الهرب إلى المملكة.
كانت هناك توقعات أن وصول إدارة بايدن للحكم، وفضيحة جريمة قتل خاشقجي يكفيان لإجبار ولي العهد الشاب على التخلي عن القمع القاسي لمعارضيه، والتوقف عن إصدار أحكام بالسجن لسنوات طويلة ضد نشطاء كانوا في مقدمة من طالبوا بحق المرأة السعودية، وكذلك وقف الإعدامات بالجملة ضد من تتهمهم السلطات بالتورط في الإرهاب.
ولكن في مارس/ آذار من هذا العام، أعلنت السعودية أنها أعدمت 81 شخصًا في يوم واحد، بعد إدانتهم بارتكاب جرائم إرهابية متنوعة، وهو رقم يفوق من أُعدموا في العام السابق 2021، بأكمله، الذي بلغ 69 شخصًا.
ولكن اندلاع الحرب الروسية-الأوكرانية قلب الموازين. تراجعت الولايات المتحدة والدول الغربية عن ممارسة الضغوط على الدول العربية التي كانت تواجه انتقادات حادة بسبب سجلها في مجال حقوق الإنسان، وعلى رأسها السعودية الغنية بالنفط.
ومع بروز إمدادات الغاز والنفط كقضية أمن قومي للدول الكبرى، بما في ذلك ألمانيا وفرنسا، فإن آخر ما يمكن توقعه هو افتعال أي أزمات مع المملكة بسبب حقوق الإنسان. تدفع الدول الأوروبية الولايات المتحدة لقبول تفعيل الاتفاق النووي مع إيران، الذي سبق وانسحب منه دونالد ترامب، والبحث عن أي مصادر أخرى محتملة للغاز، ولو خلال سنوات، كما هو الحال مع مصر على سبيل المثال.
وبينما تسعى واشنطن إلى اقناع الرياض بزيادة ضخ إنتاجها من النفط، وعدم خسارة الأنظمة العربية الصديقة لصالح الحلف الروسي-الصيني الذي يحظى بإعجاب الأنظمة السلطوية العربية، فإن الكثير من تلك الأنظمة، والتي لم ترحب أساسًا بتولي الديمقراطي بايدن الرئاسة، تشعر الآن بحرية أكبر في قمع معارضيها، دون خشية رد فعل واشنطن، التي تحتاج النفط الخليجي، والسعودي تحديدًا.
وأشار أحد الباحثين في مؤسسة DAWN إلى أنه "حتى ولي العهد لم يكن ليسمح بتلك الأحكام الانتقامية والمبالغ بها لو شعر أن مثل هذه التصرفات سيقابلها عقوبات مناسبة من قبل الولايات المتحدة والحكومات الغربية الأخرى. ومن الواضح أن هذه الدول لن تقوم بذلك".