فقد الجنيه المصري نحو 70% من قيمته في مواجهة الدولار الأمريكي عندما انخفض سعره من 18 سنتًا في منتصف مارس/ آذار 2016 إلى خمسة سنتات في منتصف الشهر الجاري، رغم التعافي الذي أبداه الاقتصاد المصري وانعكس في ارتفاع معدلات النمو والتشغيل وتراجع معدلات التضخم واستقرار في سعر الصرف منذ 2017، وذلك بعد تلقيه الصدمة الأولى التي لحقت بتبني برنامج صندوق النقد الدولي في نهاية 2016.
واليوم، يجد المصريون أنفسهم في مواجهة انخفاض جديد للجنيه، ويتوقعون واحدًا آخر في المستقبل المنظور، وما يواكبه هذا عادة من ارتفاع في معدلات التضخم، ومن ثَمَّ انخفاض في الدخول الحقيقية لأغلب الناس.
يرجع هذا في الأساس إلى أن الاختلالات المالية الكبيرة التي يواجهها الاقتصاد المصري في علاقته بالعالم الخارجي لم تتحسن إلا بشكل مؤقت في السنوات الماضية، ما جعل الاقتصاد عرضة لتراجع في قيمة العملة الوطنية مرة أخرى، في مواجهة التقلبات المالية والاقتصادية والسياسية في الشهور القليلة الفائتة.
ظل الاقتصاد المصري يعاني من فجوة تمويلية ضخمة، رغم التوسع في الاقتراض الخارجي من أجل إعادة بناء احتياطيات النقد الأجنبي وتحقيق قدر من الاستقرار في سعر الصرف، بعد التخفيض الكبير في 2016/2017، وذلك بالأساس نتيجة العجز الهائل في الميزان التجاري السلعي، الذي انكمش مع تخفيض الجنيه بعض الشيء من خلال انخفاض الواردات، وزيادة أكثر تواضعًا في الصادرات.
ولكن عندما بدأ الاقتصاد في معاودة النمو، عاودت الواردات النمو أيضًا، وأضيف إلى عبئها على النقد الأجنبي عبء إضافي متمثل في التزامات خدمة الدين الخارجي من أقساط وفوائد. لا يزال جذر المشكلة كامنًا في اختلالات القطاع الخارجي الذي يربط مصر بالاقتصاد العالمي فيما يمكن اعتبار حجم وهيكل الدين الخارجي مشكلة فرعية ناتجة عن المشكلة الأصلية.
يطرح هذا المقال سؤالًا واحدًا: هل يمكن تجنب المزيد من الانخفاضات في قيمة الجنيه المصري في المستقبل؟
إن الإجابة المختصرة هي نعم، يمكن هذا شريطة اتخاذ إجراءات وتبني سياسات لا تدير فحسب أزمة مصر النقدية والمالية الجارية، بل تنتقل من إدارة الأزمة في المدى المباشر إلى محاولة حلها في المدى المتوسط إلى البعيد. ولنناقش أولًا كيف يمكن إدارة الأزمة لتخفيف وقع انخفاض الجنيه في المدى القصير، أي في بحر الشهور القليلة القادمة.
يقع على عاتق القيادة الجديدة للبنك المركزي على وجه الخصوص، بالتعاون مع وزارة المالية، مهمة إدارة أزمة سعر الصرف وتوابعها النقدية والمالية على المدى المباشر. وذلك من خلال عدد محدود من الأدوات تدور حول إعادة هيكلة الدين الخارجي بتقليص نصيب المديونيات قصيرة الأجل أو ما يسمى بالأموال الساخنة، التي وضعت ضغطًا شديدًا على الاحتياطي النقدي الأجنبي في مصر على وقع خروج رؤوس الأموال الأجنبية من الأسواق الناشئة نتيجة رفع سعر الفائدة على الدولار الأمريكي من ناحية، والحرب الروسية على أوكرانيا من ناحية أخرى.
هذه المشكلة اعترف بها وزير المالية حمدي معيط، عندما قال "تعلمنا الدرس خلاص". وتكون إعادة الهيكلة عادة من خلال استبدال ديون طويلة المدى بالديون قصيرة الأجل، وهو بالفعل ما شرعت فيه الحكومة بالعودة للتفاوض مع صندوق النقد الدولي ومن ورائه مؤسسات التمويل الدولية، ومن خلال التحرك صوب دول مجلس التعاون الخليجي، للحصول على أشكال متنوعة من التمويل من طريق الاستدانة أو الاستثمار.
وسيؤدي هذا إلى تخفيف الضغوط في الشهور القليلة القادمة على النقد الأجنبي المتاح في الاقتصاد المصري، ومن ثم على سعر صرف الجنيه مقابل الدولار. وبالتوازي مع إعادة الهيكلة سيتاح للبنك المركزي استخدام أدوات أخرى تقليدية في ترسانة سياساته مثل سعر الفائدة بما يقاوم الدولرة واستخدام صلاحياته التنظيمية على الجهاز المصرفي، بما يتيح كبس الواردات بتحديد أولويات تمويل سلع دون أخرى.
ولكن هذا كله، على أهميته في المدى المباشر، يعدُّ إدارةً للأزمة لا بحثًا عن سبل لحلها في السنوات الخمس إلى العشر القادمة، وبدون هذا سيتكرر سيناريو السنوات الخمس الماضية من استقرار مؤقت ثم أزمة يعقبها تخفيض آخر للجنيه وهلم جرا.
تكشف أرقام البنك المركزي أن العجز في الميزان الجاري، وهو مقياس حسابي لتعاملات الاقتصاد المصري ككل مع العالم الخارجي خلال سنة، انخفض بعد تطبيق برنامج صندوق النقد الدولي، ولكنه أخذ في التدهور تدريجيًا حتى وصل في 2020/ 2021 نفس النقطة التي بدأ منها قبل اعتماد البرنامج.
عمّا يعبر الميزان الجاري تحديدًا؟ هو ببساطة شديدة كل ما يدخل الاقتصاد المصري من عملة صعبة (دولار أمريكي للتبسيط) مقابل كل ما يتم دفعه. يتلقى الاقتصاد المصري مدخولات بالدولار من الصادرات السلعية والخدمية (كعوائد قناة السويس والسياحة) علاوة على تحويلات العاملين بالخارج وصافي تدفقات الاستثمار الأجنبي بأنواعه.
وفي المقابل علينا التزامات بالعملة الصعبة تتمثل في الواردات السلعية والخدمية (كسفر المصريين للخارج من أجل السياحة أو التعليم إلخ) والتزامات مالية ممثلة في خدمة الديون الخارجية بأقساطها وفوائدها السنوية وهكذا. تحتل مدفوعات الواردات السلعية أي كل ما نستورده من سلع الجزء الأكبر ولا شك من المدفوعات الخارجية.
ورغم أن انخفاض الجنيه الشديد في 2016 أسهم في تجميد العجز في الميزان التجاري السلعي عند ذات المستوى تقريبًا، فإن العجز (ما يعني تراجع وزنه النسبي للناتج المحلي الإجمالي) أخذ في الارتفاع منذ 2019 كما يظهر الرسم التالي ليعود إلى ما كان عليه تقريبًا قبل برنامج الصندوق.
ونسجًا على المنوال نفسه، تكشف بيانات المركزي للسنوات بين 2015 و2020/ 2021 أن الواردات السلعية كانت أهم بند من بنود المدفوعات بالدولار الأمريكي، وبما لا يضاهي أي بنود أخرى، إذ شكل متوسطها (باستخدام العدد الأوسط Median كمقياس لتجنب التقلبات الكبيرة في القيم السنوية خاصة بعد التخفيض الكبير للجنيه في 2016) نحو 75% من إجمالي مدفوعات مصر السنوية بالدولار، فيما شكلت التزامات الواردات الخدمية 14% مقابل 11% لمدفوعات دخل الاستثمار، وهو الوصف المفضل حكوميًا فيما يبدو لمدفوعات الديون الخارجية من أقساط وفوائد بجانب التزامات أخرى لصالح المستثمرين الأجانب بأنواعهم المختلفة، بمن فيهم بالطبع المستثمرون في الدين الخارجي المصري.
ورغم أن مدفوعات الاستثمار هذه زادت بمتوسط سنوي بلغ نحو 24%، وهي نسبة بالغة الارتفاع تعكس النمو في حجم الدين الخارجي وبالتالي خدمته، وخاصة الجزء قصير الأجل منه، فإن مدفوعات الواردات السلعية ارتفعت هي الأخرى بمعدل سنوي يداني 20%.
إن تضخم التزامات مصر المالية، خاصة في ضوء حجم الديون قصيرة الأجل، هو عرضٌ لمرضٍ أساسه يكمن في الاقتصاد الحقيقي، وعلاقة مصر بالعالم الخارجي.
أثبتت تجارب سابقة في مصر وغيرها أن إدارة الأزمة قد تتيح فرصًا للاستقرار المؤقت في المؤشرات الاقتصادية الكلية، وربما متنفسًا للنمو والتنمية، ولكن عادة ما تكون هذه فترات راحة قصيرة يعقبها موجات من تخفيض العملات الوطنية، وارتفاع التضخم وتآكل الدخول الحقيقية.
إذن، إدارة الأزمة ليست بديلًا عن محاولة حل الأزمة بمهاجمة جذورها في الاقتصاد الحقيقي من خلال إستراتيجيات في المدى المتوسط، بما يعالج اعتمادية الاقتصاد المفرطة على الواردات من خلال تعميق الصناعة. وهذا هو ما أنوي مناقشته ببعض التفصيل في المقال القادم.