خلال السنوات الأخيرة أصبحت الاستحواذات الإماراتية أخبارًا شبه يومية في الصحف والمواقع المصرية، في الشهر الماضي وحده عقدت صفقات مهمة في قطاعات مثل الأغذية والطاقة والخدمات اللوجستية والنشاط المالي، وبحسب تقرير شركة بيكر آند ماكنزي فإن الإمارات هي المستحوذ الأكبر في السوق المصري خلال 2021 عبر 20 صفقة أُبرمت في ذلك العام.
هذا الحضور المهيمن آثار جدلًا واسعًا في أوساط المتابعين للاقتصاد، ما بين مدافع عن "الاستثمار الطيب" الذي يدعم الاقتصاد المصري بتدفقات دولارية في أوقات صعبة، ومتخوف من مساعٍ احتكارية للبلد الخليجي.
ولأن الاقتصاد امتداد للسياسة، يرى البعض أن طموحات الإمارات برفع استثماراتها في مصر من نحو 20 مليار دولار إلى 35 مليارًا بحلول 2027 قد يفتح الباب إلى المزيد من السيطرة والتحكم في الاقتصاد المصري.
وتتلخص الأسباب وراء المخاوف من التوسع الاستثماري للإمارات في مصر، في إمكانية أن تتجه مجموعات إماراتية للاندماج والقيام بممارسات احتكارية، أو أن يتسبب سوء إداراتها للمرافق العامة في التأثير على الاقتصاد المصري، أو استغلال استثمارات في مجالات مثل التعليم كمدخل للهيمنة الثقافية.
مسألة أخرى مهمة، هي رد الفعل المصري تجاه تلك الاستثمارات، إذ عكست تجربة بيع أصول القطاع العام خلال الأشهر الأخيرة الميل القوي للدولة لاستغلال الاستثمارات الخليجية كوسيلة لتخفيف ضغوط أزمة إيرادات النقد الأجنبي، وهو الميل الذي يرى خبراء أنه يجب ترشيده.
حجم الاستثمار الإماراتي في مصر
المتتبع للمؤشرات الإجمالية للاستثمار الإماراتي يلاحظ ارتفاعها المتسارع خلال العقد الأخير، حيث زادت الاستثمارات المباشرة من 4.3 مليار دولار في 2010 إلى أكثر من 18 مليار دولار في 2022، أي تضاعفت أربع مرات تقريبًا خلال الفترة من 2014 إلى 2022، بحسب مصدر مطلع على ملف استثمارات الإمارات في مصر.
وعلى مدار العقود الماضية كان للإماراتيين حضور مؤثر، عنوانه الأبرز شركة اتصالات.
وخلال الأشهر الأخيرة فقط تردد اسم الإمارات في عدد من الصفقات المؤثرة. ففي قطاع العقارات، استحوذ تحالف "الدار" العقارية الإماراتية وشركة ADQ القابضة على 85.5% من شركة سوديك في ديسمبر/ كانون الأول 2021.
وإلى جانب "الدار"، تعمل في قطاع العقارات شركات إماراتية مثل الفطيم، وإعمار، وأبو ظبي المالية، والعروبة، والاتحاد العقارية. وتتجه أغلب هذه الشركات للاستثمار في التجمعات السكانية الفخمة والمولات التجارية.
وفي القطاع المالي، شهدت الفترة الأخيرة أيضًا إبرام صفقة شراء "شيميرا" الإماراتية حصة في بنك الاستثمار المصري بلتون، واستحواذ صندوق الثروة السيادي في أبو ظبي "ADQ" على 18% من البنك التجاري الدولي.
هذه الاستحواذات ليست الأولى في القطاع المالي، إذ سبقتها صفقة ضخمة لبنك أبو ظبي الأول، الذي اتجه للاستحواذ على فروع بنك عودة اللبناني في مصر ليصبح أحد أكبر البنوك الأجنبية داخل البلاد بأصول تجاوزت 100 مليار جنيه.
وفي فبراير/ شباط الماضي سعى بنك أبو ظبي الأول للاستحواذ على إي إف جي هيرميس، لكن الصفقة لم تتم.
وفي أواخر يوليو الماضي تابع قطاع الطاقة إبرام "أدنوك للتوزيع" اتفاقية مع "توتال إنرجيز ماركتينج أفريك"، للاستحواذ على 50% من شركة "توتال إنرجيز للتسويق مصر"، بقيمة تقارب المئتي مليون دولار.
وفي قطاع الأغذية أيضًا، الذي يحمل أسماء تجارية مصرية، تنشط الأموال الإماراتية، ومن آخر الصفقات استحواذ مجموعة أغذية الإماراتية، التابعة لصندوق أبوظبي السيادي على 60% من مجموعة "أبو عوف" المصرية للأغذية الصحية مقابل 2.9 مليار جنيه في يوليو 2022.
وفي النصف الثاني من 2021، أتمت "أغذية" صفقة الاستحواذ على 75% من شركة الإسماعيلية للاستثمار الزراعي "أطياب" العاملة في مجال إنتاج اللحوم والدواجن المجمدة. وتمتلك شركة الإسماعيلية أربع علامات تجارية هي "أطياب"، و"ميتلاند"، و"شيكيتيتا"، و"فرات". وفي 2020 قامت شركة "أديبتيو إيه دي إنفستمنتس" الإماراتية من الاستحواذ على حصة الأقلية البالغة 9.6% في "أمريكانا مصر".
لكن كل هذه الاستحواذات على رغم ضخامتها لا تعني أن الإمارات هي المستثمر الأكبر في مصر، فلا تزال بعض دول الغرب تتفوق عليها، كما تنافسها دول خليجية أخرى.
لذا فإن ما يحرك الاهتمام بشأن الاستثمار الإماراتي ليس حجم الأموال المدفوعة فيه، ولكن لأنها من أكثر الدول الشغوفة بالاستحواذ على أصول، ما يثير المخاوف من أن يتسبب هذا الاستحواذ في ممارسات احتكارية أو سياسات مؤثرة على قطاعات مهمة في الاقتصاد المصري، وهو ما نستعرضه هنا.
القطاع الصحي.. لماذا؟
إذا كنت تبحث عن سرير في مستشفى خاص في القاهرة، فأنت محاصر بين الاستثمارات الإماراتية والسعودية، حيث تستحوذ الإمارات وحدها على 12 مستشفى من أبرزها مجموعة كليوباترا والسلام الدولي ودار الفؤاد، إلى جانب "شركة التشخيص المتكاملة القابضة"، وهي تجسد اندماج لمعملي "البرج" و"المختبر"، والتي تستحوذ 10% من سوق التحاليل الطبية.
وبحسب البيانات، فإن عدد الأسرَّة في القطاع الطبي الخاص تجاوز 35 ألف سرير، وتعد مستشفيات مجموعة كليوباترا صاحبة أكبر حصة سوقية منفردة تصل إلى 8%، تليها مستشفيات ألاميدا بنسبة 7% من الأسرّة العلاجية للقطاع الخاص في القاهرة، وهما المجموعتان تساهم فيهما الأموال الإماراتية بقوة.
"تتسابق الكيانات الإماراتية على الاستثمار في القطاع الصحي، لأنه قطاع مضمون المكسب في بلد تجاوز تعداده السكاني المائة مليون نسمة، بالإضافة الى تدهور الخدمات الصحية في القطاع الحكومي، كما أن الرعاية الصحية من الاحتياجات غير المرنة بطبيعتها"، بحسب منى مينا، عضوة مجلس نقابة الأطباء السابقة.
واستحوذت "ألاميدا" الإماراتية، على مستشفيات دار الفؤاد والسلام الدولي، والتي تتبعهما عددًا من المستشفيات في مناطق مختلفة، وكذلك امتلكت"أبراج كابيتال" حصة أغلبية في مجموعة مستشفيات كليوبترا، و52% من أسهم مستشفى القاهرة التخصصي و100% من مستشفى النيل بدراوي.
وبدورها، توسعت مجموعة كليوبترا في السوق المصري بضم مستشفى كوينز للولادة، والاستحواذ على مستشفى الكاتب ومستشفى الشروق، ثم وقّعت الشركة اتفاقية مع مستشفى بداية العامل في مجال التخصيب والإنجاب، لنقل أصولها إلى شركة مشتركة.
لكن المساهمة الإماراتية في مجموعة كليوبترا تراجعت في الوقت الراهن، بسبب انهيار مجموعة أبراج في 2018، بحيث أصبحت تقتصر على 29%.
واستطاع بنك أبو ظبي التجاري الاستحواذ على أكثر من 50% من أسهم المركز الطبي، وهو أكبر كيان طبي خاص في الإسكندرية، ضمن عملية تسوية ديون شركة "إن إم سي" للرعاية الصحية، وهي شركة إماراتية مملوكة للملياردير الهندي بى آر شيتى، الذي اتهم في 2019 بتقليل الديون في الميزانية العامة للشركة.
أما في مجال معامل التحاليل، بدأت أبراج نشاطها في مصر عن طريق الاستحواذ على معامل البرج في 2009، ثم قامت في 2012 بالاستحواذ على معامل المختبر مؤمنة كامل قبل أن تقوم بدمج الكيانين في كيان جديد باسم شركة "التشخيص المتكاملة القابضة"، في العام نفسه.
وترى منى مينا أن الحضور الإماراتي في قطاع المستشفيات ليس مقلقًا بقدر المخاوف بشأن قطاع التحاليل
ولم يغض الإماراتيون بصرهم عن قطاع الأدوية أيضًا، ففي 2021 اتمت "ADQ" القابضة صفقة الاستحواذ على شركة "آمون فارما" للصناعات الدوائية. وهي ليست أول سابقة للإماراتيين في هذا القطاع، فمن استثماراتهم البارزة أيضًا تجربة شركة "فارميد" التي تأسست في 2011 بشراكة هندية إماراتية.
وترى منى مينا أن الحضور الإماراتي في قطاع المستشفيات ليس مقلقًا بقدر المخاوف بشأن قطاع التحاليل "الإمارات استحوذت على عدد كبير من مستشفيات القطاع الخاص (الدرجة الأولى) في القاهرة الكبرى غير أن هناك العديد من المستشفيات الأخرى التي لا تقع تحت سيطرة الكيانات الإماراتية. ما يثير القلق حقًا هو سيطرة الشركات الإماراتية على جانب كبير من معامل التحاليل في القاهرة والجيزة".
ومع إعلان مجموعتي كليوبترا وألاميدا التفكير في الاندماج، بدا أن مخاوف السيطرة الإماراتية لها ما يبررها، قبل أن يقوم جهاز حماية المنافسة ومنع الممارسات الاحتكارية في ديسمبر 2020 بإصدار قراره المبدئي بمنع هذا الاندماج، معللًا ذلك بأن الصفقة ستؤدي إلى خلق كيان احتكاري في سوق الرعاية الصحية.
التعليم.. البحث عن نفوذ المستقبل
أما عن الحضور الإماراتي في قطاع التعليم فيقول الباحث السياسي، عمر سمير خلف، إن "الاستثمار الإماراتي في المدارس الدولية لا يهدف فقط للربح، بل صناعة نفوذ في أوساط صناعة القرار بمصر في المستقبل عبر طريق خريجي هذه المدارس".
وتستثمر الإمارات فيما يزيد عن 30 مدرسة دولية في مصر، وهو ما يمثل وزنًا ثقيلًا بهذا القطاع النخبوي محدود العدد من المدارس. وكانت واحدة من أبرز خطوات التوسع في هذا القطاع الشراكة التي أبرمتها مجموعة "جيمس" التعليمية الإماراتية سنة 2018 مع المجموعة المالية المصرية "هيرميس" للاستثمار في قطاع التعليم، التي استهدفت الاستحواذ على منشآت تعليمية قائمة، وشراء أراضي مخصصة لإنشاء مدارس ومشروعات تعليمية جديدة. وأثمرت حتى الآن على امتلاك أربع مدارس دولية من مدارس الصفوة، ومنها المدرسة البريطانية الدولية (مدينتي) ومدرسة مدينتي بفرعيها.
"وقت إبرام شراكة جيمس - هيرميس لم يكن التشريع المصري يسمح للأجانب أو مزدوجي الجنسية بتملك حصة تزيد عن 20% في المدارس الخاصة، لكن جيمس تملكت 50% من أسهم تلك المدارس. وعُدِّل هذا التشريع في 2021 بحيث تمت المساواة بين المصريين والأجانب" كما يقول خلف.
ويشير خلف إلى أن طموحات شراكة جيمس - هيرميس لا تتوقف عند هذا الحد، إذ أعلنا عن خططهما للاستحواذ على 30 مدرسة.
الموانئ.. سياسة أم اقتصاد؟
الجدل حول السيطرة الإماراتية أصبح يدور حتى من قبل إعلان نوايا الاستحواذ، فبمجرد أن أعلن رئيس الوزراء مصطفى مدبولي في مايو الماضي عن دمج أكبر سبع موانئ تحت مظلة شركة واحدة وطرحها في البورصة، دارت أحاديث عن أن القرار سيمهد للهيمنة الإماراتية على هذا القطاع الاستراتيجي.
"من الطبيعي أن تهتم الامارات بإدارة الموانئ في مصر، فلديهم خبرة كبيرة في هذا القطاع على مستوى العالم، ومصر لديها عدد كبير من الموانئ في مواقع متميزة للغاية"، كما يقول الخبير الاقتصادي هاني توفيق، والذي يعتبر أن التحكم في أي ميول احتكارية مرهون برقابة الإدارة المصرية على هذا القطاع وضبطها لسلوكيات المستثمرين فيه.
التجربة الإماراتية لإدارة الموانئ المصرية تعود إلى عالم 2008، حين سيطرت موانئ دبي على ميناء السخنة، ولم تخل التجربة من بعض المظاهر السلبية، إذ شهد الميناء أواخر العام الماضي أزمة تتعلق بتكدس الحاويات بسبب انخفاض سعر النولون مقارنة بميناء بورسعيد.
ولم يتوقف الطموح الإماراتي تجاه البحر الأحمر عند هذا الحد، إذ وقّعت موانئ أبو ظبي مع الهيئة العامة لموانئ البحر الأحمر اتفاقية في مايو 2022، لتطوير وتشغيل وإدارة محطة متعددة الأغراض في ميناء سفاجا البحري. بالإضافة إلى اتفاقية مبدئية خاصة بأعمال تطوير وتشغيل وإدارة أرصفة ومحطات للسفن السياحية في موانئ شرم الشيخ والغردقة وسفاجا.
ويتطلع الإماراتيون أيضًا لنشاط الموانئ الجافة، وهناك تحركات إماراتية مهمة في مجال الخدمات اللوجيستية
كذلك وضعت مجموعة موانئ أبو ظبي خطط تشغيل خط بحري للسفن السياحية يربط أبوظبي والغردقة وشرم الشيخ والعقبة.
وستدخل موانئ أبو ظبي كذلك في أعمال ميناء السخنة، من خلال اتفاقية وقعتها العام الجاري مع وزارة النقل بشأن إدارة وتشغيل محطة متعددة الأغراض بميناء العين السخنة، وشملت الاتفاقية مشروعات إضافية في مناطق أخرى بمصر.
ويتطلع الإماراتيون أيضًا لنشاط الموانئ الجافة، إذ أن تحالف موانئ أبوظبي وأوراسكوم للانشاءات، يقع ضمن أربع تحالفات متأهلة لتنفيذ ميناء العاشر من رمضان الجاف على مساحة 250 فدان، ومن المزمع أن تقوم هيئة الموانئ البرية والجافة طرح مناقصة نهائية خلال شهر أغسطس/ آب لتحديد التحالف الفائز.
وهناك تحركات إماراتية مهمة في مجال الخدمات اللوجيستية، إذ سيطرت مجموعة موانئ أبوظبي في يوليو 2022 على 70% من شركة "انترناشيونال أسوسيتد كارجو" المتخصصة بالشحن والخدمات اللوجستية.
كذلك باعت الهيئة العامة لميناء الإسكندرية غالبية حصتها في شركة الإسكندرية لتداول الحاويات والبضائع إلى شركة تابعة لصندوق أبو ظبي السيادي (ADQ).
الصفقة التي تمت في أبريل/ نيسان الماضي، جاءت في عز تفاقم أزمة ضعف التدفقات الدولارية لمصر، لذا كانت ضمن حزمة من عمليات طرح للأصول الحكومية المصرية للبيع بهدف توفير حلول سريعة لمواجهة أزمة مالية خانقة.
وكان للإمارات، ممثلة في صندوق أبو ظبي، نصيب الأسد من هذه الصفقات الحرجة، إذ باع بنك الاستثمار القومي حصته في أبو قير للأسمدة لشركة تابعة لصندوق أبو ظبي، وباعت وزارة المالية 20% من حصتها بشركة موبكو لنفس الشركة، كذلك باع البنك الأهلي وبنك مصر حصصا لهما في البنك التجاري الدولي وشركة فوري.
وهو ما يراه هاني توفيق قرار ذكي "اشتروا في وقت مناسب من حيث انخفاض أسعار الأسهم في البورصة المصرية، وهذه قرارات استثمارية سليمة".
وفي الوقت ذاته يرى توفيق أن "من الأفضل للاقتصاد المصري أن يزيد التركيز الإماراتي على الاستثمار المباشر بدلًا من شراء الأصول".
في النهاية، لا تقتصر تلك المخاوف على الإمارات وحدها، ولكن تشمل أي بلد يتوسع بقوة في الاستثمار بمصر، حيث يطرح أسئلة حول كون تلك الاستثمارات مدخلًا للنفوذ السياسي والثقافي، فضلًا عن الاقتصادي.