مع التراجعات المتلاحقة للجنيه أمام الدولار خلال السنوات الأخيرة، واستمرار الضغوط التضخمية، صارت الرواتب الدولارية تجسد حلمًا في نظر الكثيرين براتب مستقر لا تتغير قيمته الحقيقية مع مرور الوقت.
نستعرض هنا جوانب من حياة عدد ممن عافروا للوصول لوظائف برواتب خضراء، وهل مكنتهم العملة الصعبة من مواجهة ضغوط التضخم المتوالية، كما سألنا خبراء كيف نستعيد ثقة هؤلاء في عملتنا المحلية؟
"تقاضي أجرك بالدولار أمر مختلف تمامًا في ظل هبوط القيمة الشرائية للجنيه" تقول الثلاثينية أسماء سعيد، وهي تتحدث عن إحساسها بالفارق الكبير بين قيمة راتبها القديم بالعملة المحلية، وراتبها الدولاري الحالي في شركة أمريكية تعمل بها منذ شهرين.
خلال السنوات الست الماضية تراجعت قيمة الجنيه، وارتفع سعر صرف العملة الأمريكية من نحو 9 جنيهات في 2016 إلى ما يقارب الـ 19 جنيهًا في الوقت الراهن، مع أزمات متلاحقة ساهمت في تآكل احتياطي النقد الأجنبي كانت آخرها أزمة وباء كورونا ثم حرب روسيا وأوكرانيا، وارتفاع سعر الفائدة في الولايات المتحدة.
أسماء، أم لطفلين، تمتلك خبرة سبع سنوات في مجال الإعلانات والتسويق الإلكتروني، بدأت تجربتها مع شركة أمريكية لديها فرع في مصر، وتعتبر أن هذه الفرصة أتت في الوقت المناسب لإيقاف نزيف مدخراتها البنكية وتغطية نفقات معيشتها، خاصة وأن زوجها يعمل براتب متواضع في هيئة حكومية.
"راتبي الدولاري أضاف ما يزيد عن 40% من قيمة راتبي السابق بالمصري" كما تقول، مشيرة إلى أنها وجهت هذه الزيادة لتغطية جزء من تكاليف إيجار شقتها بمنطقة حدائق الأهرام التابعة لمحافظة الجيزة، ومصاريف التعليم السنوية لنجلها الأكبر، الذي انتقل للمرحلة الإعدادية العام الماضي، كما تسدد منهم قسطًا شهريًا لسيارة تعاقدت عليها قبل عامين.
تأمل أسماء أن يضمن لها انتقالها لصفوف المتقاضين للرواتب بالعملة الصعبة أن تتمكن من الحفاظ على موقع أسرتها في الطبقة الوسطى، وعدم الانزلاق إلى شريحة محدودي الدخل، فهي تكافح مع زوجها لضمان مستوى تعليم جيد إلى حد ما لطفلين، و تطمح في الادخار من أجل الانتقال إلى شقة تمليك في أقرب فرصة.
لا أمان من التضخم
وإن كان الدولار يؤمّن بقاءك في جانب العملة القوية، فهو لا يحميك بأي حال من معدلات التضخم المستمرة، فخلال السنوات الخمسة الماضية مرّ الرقم القياسي لأسعار المستهلكين بقفزات كبيرة كانت آخر تلك التي بدأت منذ مارس/آذار الماضي بتأثير من انعكاس الحرب الروسية الأمريكية على أسعار السلع العالمية.
ولكن محمد ربيع، المترجم الذي وجد منفذًا للدخل الأخضر من خلال عمله مع وكالات أنباء أجنبية، شعر خلال الفترة الأخيرة أن الدولارات لا تكفي لمواجهة الزيادات المتوالية في الأسعار.
انخرط ربيع في وظائف عدة في مجال الإعلام والترجمة منذ تخرجه في كلية الألسن عام 2011، إلى أن باتت الكتابة الصحفية حرفته في آخر سبع سنوات.
أدرك ربيع منذ سنواته الأولى في الصحافة أن عمله التقليدي، مترجمًا في الصحف المصرية، لن يمنحه ما يريد من استقرار مادي. ولذلك لم ينخرط في صالات التحرير ولم يسلك مسار الساعين للالتحاق بنقابة الصحفيين، وآثر مزاولة المهنة مع الجهات الأجنبية بنظام العمل الحر.
خلال السنوات الماضية كان الدولار عملة الدخل الأساسية لربيع، وعند تحويل دخله للجنيه المصري، كانت قيمته ترتفع مع كل تعويم للعملة، لكن زيادات الأسعار كانت أكبر.
يشير ربيع إلى أن إنفاقه اليومي زاد في الفترة الأخيرة على نحو غير مسبوق، فقبل أشهر قليلة كان بإمكانه أن يُسيّر يومه بـمبلغ 150 جنيهًا، شاملة 3 وجبات أساسية ومواصلاته لمقر عمله، مع تحمل ميزانيته ثمن علبة سجائر، "الآن تزيد مصاريفي اليومية عن 200 جنيه، ما يعني حاجتي إلى 10 آلاف شهريًا إذا أضفت إليها قيمة الإيجار الشهري وفواتير الكهرباء والمياه، وإذا استمر الغلاء بهذه الوتيرة قد لا أقدر على ادخار أي شيء والاستفادة بفرق العملة"، يقول ربيع.
مثل ربيع، يدخر عماد رضا، جانبًا مهمًا من راتبه الدولاري، بعدما استطاع أن يؤمن لنفسه عملًا مستقرًا كمترجم لدى شركات دولية منذ بضع سنوات، لأن الدولار هو أقدر عملة على الثبات أمام الارتفاعات السريعة للأسعار في مصر من وجهة نظره.
لم يزد دخلي لكن بالطبع لم يتأثر وضعي مثل من يتقاضون راتبًا بالمصري، م الآخر فلوسي مخستش زي غيري
لا يشعر رضا بالأمان رغم أنه يتقاضى راتبًا شهريًا بقيمة 1500 دولار، قيمتهم الحالية بحسب آخر سعر للصرف تتجاوز 28 ألف جنيه، بسبب الغلاء "احتياجاتي الشهرية من غذاء ودواء لي ولأمي التي أعولها زادت في الأشهر الماضية، أنفق ما لا يقل عن ثلاثة آلاف جنيه شهريًا فقط كعلاج ثابت لأمي التي تعالج من ألم الأعصاب إلى جانب الأمراض المزمنة"، ورضا أعزب يقطن شقة إيجار بمنطقة وسط البلد.
ويعد بند الرعاية الصحية ثالث أعلى بند إنفاق لدى الأسرة المصرية بعد الغذاء واحتياجات المسكن، ويستحوذ هذا البند على نحو 10% من حجم النفقات السنوية، وفقًا لنتائج بحث الدخل والإنفاق لعام 2017/ 2018 التي أعلنها الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء.
الادخار بالدولار
الخوف من المستقبل دفع بعض المتقاضين للرواتب الدولارية للتشبث بالحفاظ على مدخرات بالعملة الصعبة، رغم العوائد المغرية التي تقدمها البنوك على ودائع العملة المحلية التي تقترب من مستوى 20% في بعض أوقات التضخم المرتفع.
عبد الرحمن المصري، الذي يعمل لدى مكتب قناة عربية في القاهرة، يتقاضى ألف دولار شهريًا، ثم يحول المبلغ الذي يحتاجه لتغطية نفقات الأسرة ويدخر النسبة الباقية في البنك.
"الجنيه خسر 20% من قيمته نتيجة التعويم الأخير، ما يعني أن الدولار عامل أمان لي في ظل ظروف اقتصاد البلد، كمن يمتلك ذهبًا أو عقارًا"، كما يقول المصري.
وبحسب بيانات البنك المركزي فإن إجمالي قيمة ودائع القطاع العائلي بالعملات الأجنبية لدى البنوك تقدر بنحو 514 مليار جنيه في مارس الماضي.
وزادت قيمة هذه الودائع خلال مارس بنحو 70 مليار جنيه عن الشهر السابق، وإن كانت بيانات المركزي لا توضح إذا كان وراء هذه الزيادة إقبالًا أكبر على الادخار بالعملة الصعبة أم أن الرقم مجرد انعكاس لانخفاض سعر صرف الجنيه في هذا الشهر.
لكن المؤكد أن المصري لم يغير عاداته لادخار الدولار بعد تعويم مارس الماضي، رغم أن التحريك الأخير لسعر الصرف كان يعني زيادة قيمة مدخراته بنحو 20% إذا حولها إلى العملة المحلية، لكن مثل هذه الانخفاضات المتوالية كانت تُشعره بعدم الأمان.
يقول المصري "كنت أعمل في مكتب القناة بالإمارات، ومع انتقالي في وقت لاحق لمكتب القاهرة شعرت بالفرق بين العملتين، إنفاقي على تعليم وإطعام أسرتي لم يكن ممكنًا أن يتحمله راتبي بالمصري مع التغير السريع في سعر العملة، ثلث الراتب أصبح يذهب إلى بند التعليم وحده".
كيف نستعيد ثقتهم في الجنيه؟
رغم الدور المهيمن للدولار على حياتنا كما يبدو من القصص السابقة، يرى الخبير الاقتصادي مدحت نافع أن الجنيه لا يزال محتفظًا بمكانته كعملة محلية "لم تفلت الأمور كما حدث في لبنان فما زالت كل التعاملات تجري بالجنيه المصري حتى وإن تراجعت قيمته".
ويشير نافع إلى أن فئة المتقاضين للرواتب الخضراء تمثل أحد العناصر الداعمة للاقتصاد المحلي "هذه الفئة تخدم بالتأكيد الاقتصاد بإسهامها في توفير العملة الصعبة، خصوصًا في حالة المتعاملين عبر البنوك"، لذا يجب عدم إعاقتهم ولكن تطبيق سياسات تدفعهم للتعامل بالعملة المحلية، "الدولة مطالبة بالتصدي للدولرة بمنع التعامل الإجباري بالدولار في بعض المؤسسات، مثل المدارس التي تفرض على أولياء الأمور تسديد الرسوم السنوية بالدولار".
من جهة أخرى فإن إعادة الثقة الغائبة عند البعض في القدرة الشرائية للجنيه لن تحدث إلا بكبح جماح التضخم الذي يلتهم الرواتب بوتيرة متسارعة، وترى الباحثة الاقتصادية سلمي حسين أن أصحاب الدخول الدولارية حتى وإن بدا أنهم بعيدون عن مخاطر انخفاض قيمة الجنيه يشعرون بخطر دائم إذا كانوا من الفئة التي تعمل بنظام الفريلانس.
وتقول حسين "الأزمة الاقتصادية التي خلفتها جائحة كورونا ومن بعدها تداعيات الحرب الروسية الأوكرانية أرخت بظلالها على دخول الأفراد في ظل الضغوط على العملات، وأصحاب الدخول الدولارية ليسوا بمنأى عن دائرة الخطر".