لا شيء يماثل في سعادته تلك اللحظة التي يخرج فيها السجين من محبسه ليجد أحباءه في انتظاره؛ أبناء، زوجة، أم، أب، أصدقاء عمر. شيء ما يسري، رعشة، رجفة من أعلى الرأس إلى أَخْمَص القدمين، فيضان من المشاعر. أحضان وراءها أحضان، ثم مزيد من الأحضان ودموع فرح أو حزن على طول الفراق، وتأمل دقيق لتفاصيل الوجه والهيئة لمعرفة ما طرأ من تغيرات بفعل سنوات السجن والعزلة.
الابن، الزوج، الحبيب، الصديق، أو الابنة، الزوجة، الحبيبة، الصديقة، هل ازدادوا نحافة من الهم والعزلة والضغوط أم اكتسبوا الكثير من الوزن نتيجة الاستلقاء لساعات طويلة على الأرض أو الأسرَّة الصاج في زنازين ضيقة لا يمارسون أي نشاط سوى أن يلوكوا الطعام من الملل؟ هل اكتسى باللون الأبيض شعرُهم؟ هل اتسعت صلعاتُ الرجال؟
إمكانية المشي بحرية دون شاويشية ومخبرين يراقبون تحركاتك ويأمرونك بالعودة إلى زنزانتك الضيقة بعد نصف ساعة أو ساعة على أقصى تقدير فرحة كبيرة جدًا. الأقدام ليست قوية بما يكفي وتسأل مع كل خطوة؛ هل أسير فعلًا بحرية، أم في ساحة التريض أقوم بدورات لا تنتهي من المشي في مساحة مغلقة تحيطني أسوار وأبراج يصيح عساكرها "اصحى وصحصح للتمام" ليرد زميله في الخدمة "صاحي صاحي صاحي ومش حنام"؟
هناك مصادر سعادة أخرى قد تبدو صغيرة لكنها كبيرة لمن نالَ حريته حديثًا. النوم على سرير مريح، استخدام الحمام بحريةٍ دون خجل من زملاء الزنزانة، شرب القهوة في كوب من الزجاج، السماء الزرقاء، الشمس الساطعة، الشوارع مزدحمة بالناس والسيارات، القمر، النيل، المقهى، مشاهدة مباريات كرة القدم في التلفزيون، ومتابعة الأفلام والبرامج جميعها من دون إطلاق العنان لخيالك وأنت تكتفي بالاستماع الى جهاز راديو ترانزيستور، وأشياء أخرى كثيرة.
لكن هذه هي البداية السعيدة، ستستمر أيامًا ولو كنت محظوظًا لأسابيع قليلة، ثم تأتي الحقيقة المرة لكثيرين. أستاذ جامعي يود العودة لعملة في جامعة حكومية بعد أن قضى ثلاث سنوات ويزيد قيد الحبس الاحتياطي، لكن الجامعة تنتظر خطابًا من النائب العام يؤكد أن الدكتور المعنيَّ كان محبوسًا وليس منقطعًا عن العمل طوال فترة غيابه.
عادة يحصل المحامي على ذلك الخطاب، لكن النيابة هذه المرة طلبت أن تخاطبها الجامعة بطلب رسمي. الجامعة لا ترسل الخطاب، غالبًا في انتظار تعليمات من جهة ما، أبانا الذي في السماء، توضح إذا ما كان المذكور مسموحًا له باستئناف العمل بعد أن أُطلق سراحه.
وفي الأثناء، انتهت صلاحية بطاقة الرقم القومي للأستاذ الجامعي. وهو لم يستأنف عمله بعد رسميًا، بالتالي ترفض الجامعة ختم الأوراق المطلوبة لتجديد البطاقة القومية. والنتيجة أن الأستاذ الجامعي الذي يقترب من نهاية العقد الخامس يسير بلا بطاقة، والأهم أنه لا يستطيع إجراء أي معاملات بنكية ولا استخراج جواز السفر، بالتالي السفر.
وفي حالات أخرى، ترفض جهات العمل، خاصة وحكومية، عودة المفرج عنه لعمله، بزعم أن قرار إخلاء سبيل من النائب العام جاء بـ"ضمان محل الإقامة" دون إغلاق القضية التي حُبس على ذمتها. وهذا يعني أنه من الممكن في أي وقت أن تحيل النيابةُ المخلي سبيله وكل من معه في القضية إلى المحاكمة.
ومهما حاولت أن تشرح لمدير الشؤون القانونية في الجهة المعنية أنه لم يجر العرف أن يُحال من يخلى سبيلهم من الحبس الاحتياطي بعد فترات تطول مؤخرًا في الأغلب، إلى المحاكمة، فإن هذه الحُجة لا تغني ولا تُسمن من جوع للمحامي الموظف الذي يعترف بالأوراق فقط، والورق أمامه يقول إن القضية لا تزال مفتوحة، واحتمال الإحالة للمحاكمة قائم، بالتالي لا استئناف للعمل ولا مستحقات ولا أختام تسمح للمفرج عنه باستخراج الأوراق الرسمية.
ثم نأتي إلى مأساة أخرى تتمثل في تجميد الأرصدة والممتلكات. في مرحلة ما بعد 30 يونيو/ حزيران 2013 والمواجهة القائمة مع جماعة الإخوان، كان إجراء تجميد الأرصدة يقتصر على أعضاء الجماعة بشكل أساسي، فهم أصحاب الأموال والشركات والاستثمارات الضخمة التي مكنتهم من الانتشار والمنافسة منذ أن سمح الرئيس الراحل أنور السادات بخروج قادتهم وعودتهم للعمل السياسي على نطاق واسع.
لكن قرارات تجميد الأرصدة اتسعت لاحقًا لتشمل نشطاء في التيار المدني أيضًا، وكان السفير معصوم مرزوق ورائد سلامة ويحيى القزاز من أوائل من تعرضوا لذلك الإجراء.
اقترحت على الجهات المعنية، وأكرر اقتراحي هنا للمجلس القومي لحقوق الإنسان برئاسة السفيرة مشيرة خطاب، أن تُشكل لجنة خاصة للتعامل مع مشاكل المفرج عنهم بعد سنوات من الحبس الاحتياطي
ضحكنا كثيرًا حين صدر قرار بتجميد أرصدة الزميل والصديق العزيز هيثم محمدين الاشتراكي الثوري المناضل حتى النخاع الذي ما زال يقبع رهن الحبس الاحتياطي منذ أكثر من ثلاث سنوات. ماذا سيأخذون من هيثم محمدين يا ترى؟ كوفيته الفلسطينية؟ من المؤكد أنهم يطمعون في البووت الجلد طويل الرقبة الذي يضع فيه سرواله المتسع، وربما علبة سجائر كليوباترا التي يدخنها بشراهة.
ثم جاءت قضية "الأمل" الشهيرة التي صاحبها قرارات بتجميد أرصدة زياد العليمي وحسام مؤنس وهشام فؤاد، بصحبة مجموعة الإخوان التي ضمت للقضية دون أي مبرر أو صلة سوى الرغبة في إتاحة الفرصة للصحف التي تحب الوطن أن تخرج بعناوين من نوع "الزواج الحرام بين الحركة المدنية وجماعة الإخوان". وأصبح هذا الإجراء متبعًا نسبيًا مع الكثير ممن ألقي القبض عليهم في نهاية 2019 أو فترة ما يعرف بـ "هوجة المقاول محمد علي".
لا يعرف أحد لماذا يصدر قرار بتجميد أرصدة هذا الشخص وعدم تجميد أرصدة آخر. لكن الخلاصة أن كثيرين ممن أخلي سبيلهم بعد فترة حبس احتياطي يعيشون في مشكلة حقيقية بعد خروجهم من السجن لأنهم لا يستطيعون الوصول أو الاستفادة من مدخراتهم الضئيلة التي كسبوها على مدار سنين طويلة.
عدم قدرة من كانوا يمتلكون شركات خاصة أيًا كان نوع النشاط الذي تمارسه؛ تجارة أو إنتاج فني، على التعامل مع بنوك، يعني عمليًا الإحالة لصفوف العاطلين عن العمل. وأحيانًا لا توجد حسابات في بنوك من الأساس، وتقتصر "الأرصدة" المصادرة على سيارة شخصية، قال لي أحد المفرج عنهم حديثًا إنه يريد استخدامها كسيارة أجرة (أوبر) بعد أن لم يعد له أي مصدر آخر للرزق.
وبجانب مصاعب العودة للعمل، هناك مشكلة المنع من السفر، أو استمرار الإجراءات الاستثنائية بحق الراغبين في السفر بعد نيلهم لحريتهم. فكثيرون ممن مروا بتجربة الحبس الاحتياطي، وبعد أن يختم جواز السفر بالمغادرة، لا يغادرون إلى قاعة السوق الحرة والكافيهات والمطاعم كما بقية المسافرين، بل يتوجهون إلى مكتب الأمن الوطني في المطار. ومن هناك يجري اصطحابهم لشركة الطيران التي وزن حقائبه لديها، ثم تسحب هذه الحقائب وتفتش تفتيشًا دقيقًا جدًا على يد موظفي الجمارك الخبراء في التعامل مع المهربين، وليس المعارضين السياسين، وهؤلاء ينفذون الأوامر.
يخرجون الملابس قطعة قطعة، ويفتشون حتى معجون الأسنان والحلاقة. وبعد تفتيش الحقائب، يأتي التفتيش الذاتي الدقيق إلى حد التفعيص في كل مناطق الجسد. ثم العودة لمكتب الأمن الوطني بعد إنهاء كل هذه الإجراءات للتوقيع على أن الشخص المعني لم يعثر معه على أي ممنوعات.
غالبًا يكون موعد إقلاع الطائرة قد اقترب جدًا عندما يأتي الفرج من عند الله وتسمع من الضابط المعني كلمة: اتفضل. الإجراءات نفسها تُتبع عند العودة، انتظار في الأمن، تفتيش حقائب دقيق ثم تفتيش ذاتي ثم انتظار فخروج من المطار بعد ساعات عدّة من الوصول.
اقترحت على الجهات المعنية، وأكرر اقتراحي هنا للمجلس القومي لحقوق الإنسان برئاسة السفيرة مشيرة خطاب، أن تُشكل لجنة خاصة للتعامل مع مشاكل المفرج عنهم بعد سنوات من الحبس الاحتياطي.
الرئيس عبد الفتاح السيسي، وبعد إطلاق الحوار الوطني، أصدر توجيهات للجامعات بعودة الطلبة لدراستهم بعد خروجهم من السجون. نريد توجيهات مماثلة برفع أسماء المفرج عنهم من التيار المدني من قوائم الارهاب، ورفع الحظر المفروض على أرصدتهم المالية والمادية، وتسهيل عودتهم إلى وظائفهم وإنهاء قرارات المنع من السفر والبهدلة في المطارات.
ونتمنى لو تبدأ النيابة في إغلاق القضايا المتعددة التي تفرج عن معظم من اتهموا على ذمتها، أو على الأقل إسقاط التهم على نحو نهائي، وذلك كي تبطل كلُّ الحجج التي تمنع عودتهم للعمل.
الحرية لا تتحقق بخروج السجين من محبسه فقط، حتى وإن طالت كثيرًا، لكنها تتحقق بتمكن السجين من استئناف حياته الطبيعية كاملة، كما كان الحال قبل تجربة السجن المريرة، دون إجراءات استثنائية أو تعطيل في لجان الشرطة في الشوراع لو كان المفرج عنهم ممن صدرت بحقهم أحكام، أو إجبار على زيارات دورية لمكاتب الأمن من دون أن يكون الافراج مرتبطًا بأي شروط أو إجراءات مراقبة. يكفي ويزيد ما مر به السجين، وليس من المطلوب مطلقًا أن تتواصل المعاناة بعد نيل الحرية.