لم تكن زيارة محصلي الكهرباء مُرحَّبًا بها في أي وقت مضى، لكنها مؤخرًا تحولت إلى كابوس للمواطن والمحصل أيضًا.
"قبل 2014 غيير بعدها"، يقول وائل حسان، محصل كهرباء في شركة شمال القاهرة للمنصة، واصفًا ما يتعرض له وزملائه من مواقف أثناء قيامهم بعملهم بعد الزيادات المتكررة في أسعار الكهرباء.
رغم أن خطة تحرير دعم الكهرباء كان مفترضًا أن ينتهي تنفيذها في 2019، إلا أن تطبيقها شهد عددًا من التأجيلات كان آخرها ما قررته الحكومة في يوليو الماضي.
تسوّق الحكومة قراراتها بالتأجيل كـ "تضحية" مالية كبيرة لا تبخل بها في مقابل إسعاد المواطن، لكن حديث محصلي الكهرباء عن ردود أفعال الأسر على الرقم الوارد في "الفاتورة"، تعكس حالة الضغط المستمرة التي بات فيها الكثيرون لدرجة جعلت مهمة التحصيل أحد المهن الخطرة.
يتفق أربعة محصلي فواتير كهرباء تحدثت إليهم المنصة على أن المواطنين بشكل عام يتعاملون مع المحصل وكأنه من يضع تسعيرة الكهرباء، مشيرين إلى أنهم يتعرضون لمشاكل كثيرة تصل في أحيان إلى الاعتداء بالضرب، بل وصلت إلى القتل، مثلما حدث في مركز بلقاس التابع لمحافظة الدقهلية، في 2016، عندما اعتدى مواطن بالضرب على محصّل، ما أدى إلى وفاته.
"تعالى أول الشهر"
يقول وائل حسان إنه يعمل في وظيفة المحصل منذ نحو 15 عامًا، وكانت السنوات التالية لتحرير الدعم مختلفة عن السابقة عليها، حيث أصبحت العديد من الأسر تتلقى خبر الفاتورة بشيء من الانفعال "فيه ناس تقولي أول الشهر، وناس تقولي مش دافعين وناس تقفل الباب في وشي".
ويختلف تعبير "الفواتير المرتفعة" من شخص لآخر، بحسب حسان "فيه ناس ربنا موسعها عليهم، يعني لما تجيله الفاتورة 800 جنيه آه بيضايق بس في الآخر بيدفع، لكن في ناس تانية فعلًا مش معاها فبيحصلهم صدمة".
ويحكي حسان كيف تتسبب وظيفته في تعريضه لمواقف محرجة مع المواطنين، نتيجة اضطراره للتعامل المباشر مع العملاء "أول ما الست شافت الفاتورة، وكانت 450 جنيه، صرخت في وشي والناس اتلموا علينا، فكروا إني عملتلها حاجة كده ولا كده، ولولا أنهم عارفيني كنت رحت في مشكلة".
احتجاز وتهديد بالكلاب
ويأتي تحرير دعم الكهرباء على خلفية رغبة الحكومة في الحد من العجز المالي بالموازنة العامة، وما ترى أنه إنفاق مهدر على دعم الأغنياء باعتبار أنهم يستهلكون أكثر من ثلث هذا الدعم على أغراضهم الخاصة مثل أجهزة التكييف عالية القدرة، وعلى أساس هذه التصورات خُفِّض بند دعم الكهرباء إلى (صفر) بدءًا من العام المالي 2019-2020.
مش عارف ليه الراجل أتضايق من الكلمة دي.. شدني جوه الشقة وقالي لأ أنت بقى مش هتمشي من هنا لحد ما أروح الشركة وأجي وأشوفكم بتنصبوا عليَّ ليه؟
وإن كانت بعض الأسر الغنية اتجهت لتركيب ألواح شمسية فوق فيلاتها بحثًا عن مصدر أوفر للطاقة من الطبيعة، كان هذا البديل مرتفع التكلفة على أسر الطبقة الوسطى، الذين لا تتاح لديها المساحة الكافية لتركيبه فوق أسطح العمارات الضيقة، لذا لم يكن أمامها مفر سوى ضغط نفقاتها ومحاولة التعايش مع الأسعار الجديدة للطاقة التقليدية.
يحكي المحصّل جمال عبد الله للمنصة أنه تعرض لأصعب موقف في حياته في 2017 "ضربت الجرس زي ما بعمل كل مرة، طلعلي راجل ضخم، أول ما شاف الفاتورة وكانت 670 جنيه، قالي لأ دي مش فاتورتي دي فيها غلطه، قلتله ماشي خد الكعب وأبقى روح أدفع في الشركة وشوف لو فيه غلطة تتصلح"ـ
"مش عارف ليه الراجل أتضايق من الكلمة دي. شدني جوه الشقة وقالي لأ أنت بقى مش هتمشي من هنا لحد ما أروح الشركة وآجي وأشوفكم بتنصبوا عليَّ ليه؟". يضيف جمال "الحقيقة الراجل كان عفي عليّ، ومقدرتش أقاومه، بس بدأت أزعق لحد ما الجيران اتلموا وخلصوني منه، مش عارف كان ممكن يعمل فيَّ إيه".
يشير عبد الله إلى أن الجيران توسلوا إليه حتى لا يُصعِّد المشكلة، وتصالح مع المعتدي عليه، بعدما عرف أنه (المعتدي) يمر بظروف نفسية صعبة بسبب مشاكل أسرية بعد تسريحه من عمله.
وإن كان الجيران أنقذوا عبد الله من الاحتجاز، فإنهم لم يتمكنوا من إنقاذ إبراهيم شحاته، المحصل الذي يحكي للمنصة موقفًا غريبًا تعرض له أثناء محاولة تحصيله فاتورة في منطقة الوايلي بالقاهرة، فيقول إنه عندما لتحصيل فاتورة بقيمة 790 جنيهًا من أحد السكان، طالبه بالانتظار لدقائق، فظن أنه ذهب لإحضار النقود إلا أنه فوجئ به يعود ومعه كلبين.
"شكلهم وحوش مش كلاب، طلقهم عليَّ، جريت على السلم وهما بيجروا ورايا والشنطة والفواتير والفلوس وقعت على الأرض، واتصبت في قدمي، واختبأت في غرفة البواب لحد ما الراجل المجنون دا نزل ومسك الكلاب، وقالي لو جيت هنا تاني هخليهم يتغدوا بيك"، يحكي إبراهيم الذي حرر محضرًا بالواقعة، وتم القبض على المواطن بالفعل، لكنه تصالح معه، بعد "تدخل ناس كبيرة في المنطقة".
ولا توجد إحصائيات معلنة ترصد الاعتداء على محصلي الكهرباء أو أي من الخدمات الأخرى، واكتفى مصدر بوزارة الكهرباء تحدث للمنصة، بالتأكيد على أن الوزارة تدعم المحصلين وتقف إلى جانبهم إذا قرروا اللجوء إلى القضاء في حال تعرضهم لأي اعتداء.
وأشار المصدر، الذي طلب عدم ذكر اسمه لأنه غير مخول له بالتصريح للإعلام، إلى أن الوزارة أقامت ورشًا تدريبية للمحصلين لكيفية التعامل مع المواطنين والتي من بينها تعرضهم لمشاكل أثناء التحصيل، وهو ما يؤكد وائل حسان أنه لم يحدث عمليًا "الوزارة يهمها التحصيل ومش مهم المحصل".
ادعاء الوفاة
ويمثل الاستهلاك المنزلي للكهرباء نحو نصف استهلاك الطاقة، وفقًا لبيانات الشركة القابضة للكهرباء، لذا تُركز الدولة على أهمية تحرير سعر الفاتورة للمواطنين كواحدة من وسائل الحد من الإنفاق العام.
ويحكي المحصل وائل حسان أن رجلًا عندما رأى فاتورته وكانت بـ400 جنيه، أغلق الباب في وجهه دون أي كلمة، وعندما رن الجرس مرة أخرى فتح له طفل وقال له "بابا بيقولك إنه مش موجود".
تضاعف سعر بيع الطاقة للمنازل، من 74 قرشًا للكيلو وات ساعة في 2014 إلى 145 قرشًا في 2021، ويضاف إلى إجمالي الفاتورة 40 جنيهًا مقابل خدمة عملاء، وذلك للشريحة الأعلى استهلاكًا (أكثر من 1000 كيلو وات ساعة). وفي مواجهة هذه الزيادة يلجأ البعض للتحايل أو التهرب ورشوة المحصل.
يقول إبراهيم شحاتة إنه ذهب لتحصيل فاتورة من مواطن بقيمة 1100 جنيه، وبعدما أخبر الرجل بقيمة الفاتورة، ظل يضحك كثيرًا ثم طلب منه أن يدخل شقته، "رفضت ولكن بعد إلحاحه دخلت، وكانت المفاجأة أن طلب مني أن أعيد الفاتورة إلى الشركة وأقول لهم أن صاحب الشقة توفى، وعندما أخبرته باستحالة ما يطلبه، عرض علي تخفيض الفاتورة مقابل 100 جنيه يدفعها لي كل شهر".
ويشير شحاتة إلى موقف آخر حدث له مع مطعم كبابجي كانت فاتورته أربعة آلاف جنيه، قال لي لو نزلت الفاتورة للنص ليك عندي كيلو كباب كل شهر ولو نزلتها ¾ هيبقوا 2 كيلو".
ويحكي المحصل وائل حسان أن رجلًا عندما رأى فاتورته وكانت بـ400 جنيه، أغلق الباب في وجهه دون أي كلمة، وعندما رن الجرس مرة أخرى فتح له طفل وقال له "بابا بيقولك إنه مش موجود".
أما المحصل محمد عمر فيشير إلى أن هناك مواطنين يتهربون من دفع الفواتير أكثر من شهر فتتراكم عليهم المبالغ، حتى تتراكم المديونيات عليهم، مشيرًا إلى أن "مواطنًا كان يرفض دفع فاتورته وأصبح إجمالي ما عليه 2400 جنيه، وعندنا أبلغته أنه سيتم تحرير محضر ضده ورفع العداد طلب تقسيط قيمة الفاتورة".
ويلفت عمر إلى أن شركة الكهرباء لديها حاليًا نظام لتقسيط المديونيات على 12 أو 24 شهرًا بدون فوائد، لكنها تشترط دفع 30% من قيمة المديونية، والحقيقة إن "دا كتير برضه"، بحسب قوله.
تعاطف ولكن..
أبدي المحصلون الذين تحدثوا مع المنصة تعاطفهم مع المواطنين بشكل عام، "إحنا زينا زيهم.. بس ما باليد حيلة إحنا في الآخر موظفين وبنعمل شغلنا"، يقول جمال عبد الله، ويضيف "أنا كمان بيجيلي محصل البيت، وبكون متضايق من الفاتورة اللي زادت بشكل كبير طبعًا، لكن هعمل إيه في الآخر بدفع برضه"، ويشير إلى أن المحصلين بشكل عام هم الحلقة الأضعف في المنظومة كلها، "احنا دايمًا في وش المدفع.. المواطن فاكر إني بحط الفلوس دي في جيبي، ودا طبعًا مش حقيقي، أنا ملزم بعدد معين من تحصيل الفواتير شهريًا، وبستلم الفواتير برقم (مبلغ مالي) وبورد إلى الشركة الفلوس وباقي الفواتير".
ويرى محمد عمر أن "الأوضاع صعبة على الناس كلها، لكن أنا في الآخر مليش دعوة، الناس تزعل من اللي رفع تسعيرة الكهرباء مش من الموظف الغلبان اللي طول النهار بيلف على رجليه".
وفي 17 يوليو/ تموز 2014 نشرت الجريدة الرسمية قرار رئيس مجلس الوزراء (إبراهيم محلب وقتها) بقانون رقم 1257 لسنة 2014، من مادة واحدة نصت على أن تزاد أسعار بيع الطاقة الكهربائية تدريجيًا اعتبارًا من أول يوليو 2014، وحتى أول يوليو 2018.
وبعد قرار تعويم سعر صرف الجنيه في نوفمبر/ تشرين الثاني 2016 وانخفاض سعر الجنيه مقابل الدولار، قررت الحكومة مد برنامج إعادة هيكلة أسعار بيع الكهرباء لمدة ثلاث سنوات إضافية تنتهي في العام المالي 2021/2022 "لاستيعاب الزيادة في التكلفة التي طرأت نتيجة لتحرير سعر الصرف ولتخفيف العبء عن المواطنين"، بحسب ما أعلنت الحكومة وقتها.
ومع نهاية 2019 وانتشار وباء كورونا قررت الحكومة مد أجل جديد للخطة، لتنتهي في العام المالي 2024/ 2025 بدلا من 2021/ 2022، لكن يبدو أن هذا المد وهذه التأجيلات كان تأثيرها ضعيفًا، وأن الضغوط الاقتصادية تأثيرها أكبر مما تتخيل الحكومة.