بهدوء وتركيز تام، يُمسك حسين درويش بوصة من الغاب، يتأملها، ويقطع منها بدقة متناهية تسع عُقل صالحات لصنع ناي من درجة معينة، ثم يحفر الثقوب، يصنفرها بعناية، ويسلِّك الناي بالفرشاة، قبل أن يحمله "تخيل كدا إن أنا دلوقتي ماسك في إيدي خلاصة عشرين سنة خبرة" ثم ينظر إلى أحد العُقل "دول العشرين سنة".
ولد درويش عام 1981 بالجبل الأصفر، إحدى قرى القليوبية، وحتى عمر العاشرة لم يكن عرف من عالم الموسيقى سوى شرائط أم كلثوم ورائعة محمد عبد الوهاب "من غير ليه"، التي ظلت عالقة بذهنه فترة طويلة، فاكتشف قدرة أذنه على تمييز الآلات، وولعه بصولوهات الناي المميزة.
سيطرت الموسيقى على درويش "كنت أنام أحلم بالمزيكا.. أحلم بجُمل"، ثم راوده حلم سادت فيه أغنية يا حلو صبح؛ لم يكن صوت محمد قنديل هو المسيطر في الحلم، ولا الفرقة، لكنه صولو الناي الذي ظل ينخر في رأسه لأيام "فضل يحفر في وعيي كدا بتاع أسبوع، بنام أحلم بيه".
https://www.youtube.com/watch?v=R7ZPvsmOSeIأغنية يا حلو صبح
ذات صباح، دخل درويش ليستحم، وصفر لحنًا بشفتيه، فاندهش من قدرته على التصفير "معقولة أنا بصفر كويس قوي كدا؟" حاول أن يأتي بنغمات أكثر حدة، لكنه لم يستطع، ومن هنا، قرر اتخاذ خطوة استباقية، وبدأت معها رحلة بحثه عن الناي.
الرحلة الأولى: البحث
كان لعم درويش صاحبٌ يعزف الناي اسمه فؤاد العجمي، وعندما ذهب ليتتلمذ على يديه منحه بطاقة تعريف صغيرة مكتوب عليها "عبده بيومي، شبين القناطر، عقلة جهاركاه". أخذها درويش وركب أول قطار، ولكنه فوجئ "لما نزلت شبين، ببص على الكارت، اكتشفت إن مفيش عنوان".
كان ذلك يوم الخميس 14 فبراير/ شباط 2002، الموافق عيد الحب، ولكن لم يكن لدرويش حبيبة يألم لضياع اليوم دون قضاءه معها، "فقررت إنه يعني مفيش حب يبقى فيه مزيكا".
كان الوصول لعمه صعبًا، ولكنه لم يستسلم. فكر في البحث عن أقرب حلاق، فمجتمع الموسيقيين ضيق والحلاقين لديهم علاقات كثيرة. وبالفعل، ساعده الحلاق في أول صالون قابله، أمر صبيّه باصطحابه خلفه على العجلة إلى بيت بيومي.
طلب درويش من عبده بيومي عقلة جهاركاه (ناي من درجة "فا")، فقطع بيومي أمامه غابة من عودها، سواها على النار وعدلها بقماشة مبلولة، علّم بالبرجل مكان الفتحات، ثقبها، زيَّته ونظَّفه، وأعطاه لدرويش قائلًا "سمعنا حاجة يا أستاذ".
أمسك درويش بالناي مخدوعًا، ولم يفلح في استخراج أي صوت، فقال لبيومي "يعني الناي مش شغال يعني؟" لكن حين أمسك بيومي نفس الناي عزف صولو مقدمة أغنية بحلم بيك لعبد الحليم حافظ، "عزفه ولا أتخن تخين في كوكب الأرض يعزف الصولو ده".
لطم صولو الناي درويش على وجهه، "عرفت إن الناي مش عطلان.. أنا اللي عطلان". ومنذ تلك اللحظة قرر خوض حربٍ لا هوادة فيها لتعلم العزف "أنا كائن عنيد، وأعز المعارك زي عينيا. في اللحظة دي أنا قلت لنفسي Challenge has been accepted" (قبلت التحدي).
الرحلة الثانية: العزف
أخذ درويش الناي ملفوفًا في ورقة، واتصل بفؤاد العجمي طالبًا منه أن يعلمه العزف، فاندهش العجمي قائلًا "يا ابني أنا لسه مدي لعمك الكارت، لحقت؟" رد درويش بالإيجاب، فقال العجمي "إنت مفيش منك، اركب لسرياقوس وهتلاقيني مستنيك".
تعلّم النفَس، زاوية النفخ، وضع الأصابع، وكان صوت القرار أول ما أخرجه، وبالتجربة والخطأ أخرج مقام الحجاز، "انبهرت بيه جدًا، ولقيته شبه الأدان بتاع النقشبندي".
بعدها بشهرين، التحق حسين درويش بالجيش، وأخذ الناي معه، بات عازفًا مبتدئًا "كنت بعرف أمسك الناي وأكيِّف اللي سامعني". ولكن في معسكر التدريب، حدثت واقعة مؤسفة، إذ جاءه صول من الكتيبة قائلًا "بتضرب ع الغاب يا دفعة؟ بتضرب ع الغاب؟ بتُجعُد بالليل وتضرب ع الغاب"؟، يقول حسين مقلدًا لهجة الصول "وريني، هات وريني الغابة دي. وكسرها قدامي ع الأسفلت. أخدت جِزا أسبوعين فيها، ضربت الراجل".
في الإجازة اشترى درويش من عبده بيومي ناي دوكاه (ناي من درجة "ري")، فُقد في ظروف غامضة، وناي بوسليك (ناي من درجة "مي")، انتقل به لوحدة تجنيده في رأس غارب، وهناك أحب القادة الاستماع إليه على شاطئ البحر الأحمر، لكنه عندما انتقل إلى الخدمة بالإسكندرية، انشرخ الناي، ما فجَّر لديه فكرة صناعة واحد بنفسه.
أحضر درويش بوصة طويلة، قطع منها ما يشبه ماسورة الناي، "ورحت داخل بقى جايب أي مفك صليبة وعلى بوتاجاز الوحدة وحاطط أي خروم randomly كدا.. وأهي صفرت" سألته عن شعوره حينها، فقال بسعادة وفخر "اتبسطت بيها جدًا.. عملت ناي بنفسي".
الرحلة الثالثة: الصنعة
انتهت الخدمة العسكرية، وذهب درويش لشراء الناي الرابع، استقل القطار، وفي الطريق إلى شبين القناطر دارت في رأسه ذكريات المدينة، بحثه عن عبده بيومي، ورشة صناعة الناي، ورائحة احتراق الغاب بالسيخ المحمي. "وصلت. الحاج عبده تعيش أنت".
لما عاد، اشترى ناي دوكاه من الدكتور قدري سرور، "من أهم عازفي وأساتذة وتجار النايات"، ثم قطع من إحدى الترع أربع غابات يشبهون دوكاه قدري، ونسخ أماكن الفتحات، فكان أول زبون لديه هو الدكتور قدري شخصيًا "وأنا رايح الصراحة مش واثق إن دي نايات، بس بعتهم العقلة بـ25 جنيه".
أراد درويش تعلم صناعة الناي، فتعرف إلى كتاب دراسة الناي بالطريقة العلمية، للدكتور عبد الحميد مشعل. ثم تعرف على نظرية الفارابي في الموسيقى، وحاول صناعة الناي بنفسه لبضع سنوات، لكنه مع الوقت، اكتشف أن هناك "خلل في النظريتين"، كما يقول.
الناي آلة أصلها ضائع في بطون التاريخ "ماينفعش تتأكد مين أول واحد عمل ناي 9 عقل زي ده؟"، فلكل حضارة نظريتها الخاصة "هتلاقي القصبة الأمازيغية 5 عقل"، ولم تكن هناك نظرية محكمة لصنع الناي الـ9 عقل. أصحاب النظريات اعتمدوا على وجود ناي دوكاه كان موجودًا دائمًا، ومن ثم ينسخون مثله، حتى يحصلون على ناي مُدَوْزَن، نستنبط منه النظرية.
في عام 2008 تعرض درويش لحادث قوي أقعده، لكنه ساعده في الوقت نفسه على التفرغ لدراسة الموسيقى وقراءة عشرات الكتب عنها لمدة سنتين، يقول "بدأت نظريتي الخاصة تظهر، وبدأت أدور في مصارين الآلة"، واكتشف مع مرور السنين، أنه بالتأكيد هناك سر ما، "لو طبقت كلام الفارابي ده مش هايطلع الناي مظبوط، الـ(فا) في أغلب النايات عالية، والفضيحة في الجواب فضيحة زفة".
يتحدث درويش عن فروقات طفيفة في الناي لا يلحظها سوى العازفين المحترفين، فلكل عازف نَفَس خاص به، ونايات الصيف غير نايات الشتاء، فالنبات ينكمش ويتمدد، والفروقات بين النايات التي تصلح لكل عازف على حدة هي كسور من المليمتر، وبتطبيق النظريات القديمة يمكننا الحصول على ناي جيد ولكن ليس للعازفين المحترفين.
الرحلة الرابعة: النظرية
ظل درويش يحلم طيلة عشر سنين، من 2002 إلى 2012 بالعثور على النظرية المحكمة لصناعة الناي، "أكيد فيه قانون، أكيد فيه قاعدة.. الفكرة بقى، القاعدة دي فين؟ ما كانتش موجودة.. جه بقى العبد لله وصنعها".
لم يكتف درويش من التعلم من أساتذة الموسيقى، بل أي إنسان في رأيه يمكن أن يعلمه جديدًا، "شغلانة الباحث إنه يشتغل سفنجة، بتاخد أي سائل ييجي عليها"، بل قد يتعلم من تلاميذه "علّمت ناس كتير تعزف، واتعلمت منهم تفاصيل كتير في العزف".
قد يُفاجأ درويش بمعلومات جديدة، يقولها الأستاذ في سياق حديثه بعفوية، تُغيِّر مصير بحثه العلمي، فيختبرها "الأستاذ تتعلم منه بتاعة صغيرة خالص قد كدا، تقلب كوكبك".
لم يعتمد درويش على مُعلم خاص يشرح له صناعة الناي، وإنما مشاهداته الأولى التي رآها مع عبده بيومي، كانت كفيلة لأن يشق طريق بحثه بنفسه، حتى توصل إلى نظريته الخاصة، الأحجية التي اكتشف حلها، ليست مكتوبة في الكتب، السر الذي يخلق نايًا نموذجيًا، "الجزء الحقيقي اللي هايظل سر واحتمال يموت معايا، هو الجزء اللي عملته بنفسي".
أنشأ درويش "قاعدة هندسية مرسومة على ورقة، مكتوبة فزيائيًا بعناية"، مكَّنته من صنع ناي جواب الدوكاه، وهذه عقلة فريدة من نوعها إذ تستطيع أن تصفر بها نغمه صول 7، وهي نغمة حادة جدًا، "وجود الناي ده حاجة طبعًا قد لا يصدقها عازف ناي".
"صانع الناي في رأيي، عليه عبء كبير جدًا" يقول درويش "لأنه بيكمِّل من حيث انتهى صنع الله والطبيعة" فالصانع عليه مسؤولية جسيمة، هناك غابات جميلة جدًا، "ربنا باعتها وقايلها روحي وإنتي ناي دوكاه محترم" هذه الغابة ينبغي الاعتناء بها، صناعتها بطريقة غير صحيحة إهانة لها.
إذا جاء عازف ناي مهم للصانع، حسبما يقول درويش، ففي العادة يُفَصِّل الصانع 100 عقلة وينتخب منهم أفضل 10، أما هو فيصنع 5 نايات، ويعطيهم للعازف كي يختار الملمس الصوتي الأنسب له، "أنا حاجتي كلها مظبوطة"، يتكلم بثقة "وأنا هاعمل 100 ناي، وأتحاسب ع الكلام ده، احتمال يطلع فيهم 3 مش حلوين قوي. يعني أدي لنفسي 97%".
لما سألتُ درويش لماذا لا يسوِّق لنفسه، قال "الدهب ما بيحتاجش يسوّق نفسه". كبار عازفي الناي في مصر والعالم يستعملون ناي درويش، ورغم إنتاجه ألف ناي في السنة، لكنها تنفد كلها "دي ناس عارفة كويس قوي هي بتاخد إيه".
"مش مصدقني، صح؟"
يصنف درويش ناياته إلى second grade وهي نايات للهواه والطلاب، وmaster grade وهي نايات للعازفين المحترفين، يبيع الواحد منها بأسعار غالية لأنها ثمن خبرته، يقول "لو عايز صفوة هذه المعرفة، خلاصة الموضوع، هتاخد الماستر ناي، حاجة كدا خالصة".
من العازفين الذين عزفوا على نايات درويش الراحل محمد وجدي برجاس، وعازف الكولة عبد الله حلمي، وأيمن برجاس، وهاني البدري الذي قدم صولو موكب المومياوات، بجوار أحمد منيب عازف الربابة التي كانت من صنع درويش كذلك.
إضافة إلى عازف الناي والموسيقار محمد عنتر، الذي يقول عنه درويش "أكتر واحد في مصر مصدقني. لما بيقولي أنا عايز ناي مواصفاته كذا، عايز ناي مظبوط، عايز (لا) 432Hz، مش 440Hz.. ويحصل". أندهش من الفرق الضئيل العجيب المقدر بالهرتز، فيضحك درويش "يا أستاذ إنت مش مصدقني صح؟".