حرب العراق عام 2003 كانت الأولى في تاريخنا الحديث التي تُنقل مباشرةً على الهواء، وتسابقت القنوات الفضائية الإخبارية يومها لإرسال مراسليها إلى بغداد برفقة الجيش الأمريكي الذي سمح بذلك للمرة الأولى. كانت حربًا لايف؛ نتحلَّق حول شاشات التلفزيون نقلِّب بين القنوات لنبحث عن أي جديد بها. وكنا قبلها بسنتين شاهدنا اختراق الطائرتين برجي التجارة في نيويورك لحظةً بلحظة، وغيرها الكثير من الأحداث الكبرى.
في العشرين سنةٍ الماضية أو ما يزيد قليلًا، انتشرت القنوات الإخبارية التي تقدِّم على مدار الساعة النشرات والتغطيات الإخبارية والبرامج الحوارية. تتفاوت مهنيتها ومدى نجاحها ومصداقيتها لدى الجمهور. ومن خلال ملاحظتي بعد سنوات طويلة في العمل الصحفي والإعلامي؛ أدركت أن الناس أغلبهم يتابعون هذه الفضائية أو تلك فقط لأنها تتلائم مع معتقداتهم أو ولاءاتهم السياسية، مع أننا نتحدث عن الأخبار، الحدث واحدٌ والخبر واحدٌ ولكنْ تختلف وجهة الكاميرا وزاوية البث.
دراسات كثيرة حول تفضيلات المشاهدين، أكدت أيضًا أنَّ الناس يتمسكون بما يطمئنهم أنهم على حقٍّ وأنهم غير مضطرين لمراجعة أفكارهم ويتابعون القنوات التي تكفل لهم ذلك. في تجربةٍ بحثيةٍ حديثةٍ نشرت الجارديان تفاصيلها في أبريل/نيسان الماضي، دفع أكاديميان يُدرِّسان العلوم السياسية من جامعة كاليفورنيا مالًا لمجموعةٍ من متابعي قناة فوكس نيوز الأمريكية مقابل متابعة الـ سي إن إن لمدة شهر لمعرفة تأثير ذلك عليهم.
جاءت النتيجة مفاجئة لهما؛ فعددٌ ممن شاركوا بالتجربة غيَّروا آراءهم بشأن قضايا جوهرية بالنسبة إليهم، كموقفهم من الحزب الديمقراطي أو كيفية تعامل الحكومة مع جائحة كورونا. وتوصّل الباحثان إلى أن أفكار الناس يمكن أن تتغير إذا تابعوا قنوات مختلفة، لكن المشكلة هي في الانقسام الأيديولوجي الحاد الذي يحدثه الإعلام في المجتمع.
ولا يوجد أفضل منَّا في العالم العربي للحديث عن الاستقطاب الذي تقوم به بعض القنوات الإخبارية الفضائية أو حتى المحلية. على المستوى الدولي والخلافات الدولية، صبَّت بعض تلك القنوات الزيت على النار لتأجيج الخلافات وجعل جذوتها لا تنطفئ، تلبيةً لمصالح الدولة أو الجهة التي يتحدثون باسمها. كلُّ جهةٍ تدَّعي الحق وامتلاك الحقيقة الكاملة. ومع تغيِّر المصالح وتصالحها، تدير دفَّتها مئةً وثمانين درجة في الاتجاه الآخر.
في حالة العداء يكرسون طاقاتهم لتشويه الآخر، ولمحاربة هذا وتخوين ذاك حتى ولو من خلال نشر الأخبار المضللة وغير الصحيحة. أما في حالة الوئام والود يتظاهرون كأنَّ شيئًا لم يكُن وتتغير الأجندة تمامًا. والأمثلة على ذلك كثيرة لا داعي لذكر تفاصيلها.
أيًّا كانت الطريقة التي يُقدَّم بها الإعلام علينا أن نأخذه على محمل الجد أكثر، أن نعي دوره ومدى تأثيره على حياتنا وقدرته على تشكليها.
أما على المستوى المحلي، يستحضرني نموذج الصحافة والإعلام في لبنان ومصر. فلبنان لديه فائض من القنوات والصحف المحلية تغنيه عن متابعة الفضائيات، واللبنانيون مشغولون بحروبهم الصغيرة والكبيرة ولكل حزب وطائفة منبرها، يديرون من خلاله حروبهم الإعلامية بكل الأسلحة المتاحة. ويمكنك أن تشاهد بعينيك حالة الانقسام المجتمعي داخل البيت الواحد بين من يتابع هذه الجهة أو يتبنى خطاب الأخرى.
أما في الحالة المصرية، حيث يغيب التنوع الإعلامي أصلًا ويسود إعلام الدولة الموجَّه، حتى في القنوات الخاصة، ترى التغييب المجتمعي في حالةٍ تشبه الغسيل الدماغي لإسكات أيِّ كلام أو أفكار لا تتماشى مع الخطاب المسموح به من الجهات الرسمية.
ولا أدلّ على ذلك من سعي السلطة لاحتكار الإعلام وحظر عشرات المواقع الإخبارية والصحف المحلية، في مشهدٍ يختلف كثيرًا عن السنوات الأولى للثورة المصرية حتى أواخر عام 2016، عندما شهدت مصر طفرةً في القنوات الإخبارية التي تبنت أجندات مختلفة بحسب توجهات أصحابها؛ من الدولة العميقة وصولًا للأحزاب التي كانت وليدةً حينها إضافة إلى القنوات المستقلة. تلك الطفرة إذا جاز التعبير، سمحت بتنوع مصادر المعرفة وتعددها، لكنَّها أيضًا خلقت حالة استقطابٍ واسعة تركت أثرها على المجتمع.
تتنافس القنوات على زيادة عدد المشاهدين فيما بينها، غير أنها أيضًا صارت في منافسةٍ كبيرةٍ مع ما يُعرف بالإعلام المستقل، ومع أفرادٍ يقدمون محتوىً إخباريًا أو تحليليًا للوقائع السياسية والأحداث العالمية، يستقطبون به عدد مشاهدين أكثر من مشاهدي بعض القنوات التي تملك إمكانيات إنتاجية وفنية هائلة.
وبشكل عام، يتوقع الخبراء أن يتغيَّر مستقبل التلفزيون برمته في السنوات العشر المقبلة، مع انتشار منصات البث الخاصة، التي وصلت لحوالي 300 منصة في الولايات المتحدة وحدها. كما يتوقعون أن يتفاعل المشاهد مع ما يعرض أمامه على الشاشة بحيث يغيِّر مجرى الأحداث والنهايات، هذا على مستوى الدراما.
أما بالنسبة للأخبار فإن الجيل الجديد بات يتوجه إلى مصادر أخرى للحصول عليها؛ المنصات الاجتماعية والتطبيقات الذكية.
القنوات التي تنشط من خلال طرقٍ غير تقليدية؛ كالبثِّ المباشر على الإنترنت مثلًا أو تقديم المحتوى السريع، هي التي قد يُكتب لها الاستمرار لكن ليس دون تعديلات جوهرية. استمرارها يعني أن تغيَّر الطريقة التي تقدَّم بها المحتوى، فالجيل الجديد لن يتسمَّر أمام الشاشة ليشاهد نشرةً إخباريةً لساعتين أو برنامجًا حواريًّا يتجادل فيه الناس بلا نهاية. نحن في عصر سريع، عصر الكبسولات.
لكن هل ستعي الدرس؟ علمتنا التجربة أن الإعلام يمكن أن يبني أممًا أو يهدمها. وأيًّا كانت الطريقة التي يُقدَّم بها علينا أن نأخذه على محمل الجد أكثر، أن نعي دوره ومدى تأثيره على حياتنا وقدرته على تشكليها. الفيصل هو الحفاظ على المصداقية التي يمكن أن نعوَّل عليها لإنقاذ مستقبل الصحافة والإعلام بشكله التقليدي أو الحديث. أن يكون المعيار الأساس هو الالتزام المهني ونقل الحقيقة دون زيادةٍ أو نقصان، ربما نعيد الاعتبار للمهنة قبل فوات الأوان.
الأجدر أن يتحرر الإعلام من تحكِّم رأسمال ومصالح "أولياء النعمة" الذين يتحكمون في الفضاء العام وما يُبثُّ فيه، فالإمكانيات الحديثة التي تُمكِّن أيَّ فردٍ في العالم من خلق منصته، بإمكانها أن تكون منطلقًا لمشروعٍ إعلاميٍّ يجمع شتات من لا زالوا يؤمنون أن بإمكانهم أن يملاؤا الفراغ بالمحتوى المناسب لكل من يبحث عن الحقيقة.