تستطيع دولة الإمارات "العربية" المتحدة ومعها البحرين والمغرب والسودان أن يوقعوا عشرات الاتفاقيات الإبراهيمية مع العدو الاسرائيلي، وأن تفخر أبو ظبي، وأميرها الجديد/ القديم محمد بن زايد، بإنتاج أول أغنية عربية-عبرية مشتركة، واستيراد حاخام من إسرائيل لقيادة الصلوات للجالية اليهودية المتنامية، وأن تتجاهل القيود التي فرضتها الدول الأوروبية نفسها رفضًا للاحتلال، وتستورد منتجات المستوطنات غير الشرعية في الضفة الغربية المحتلة من نبيذ وجبن، لكي يتناولها هنيئًا مريئًا الشعب الإماراتي الشقيق.
كما قد تنتفخ أوداج رئيس الوزراء الإسرائيلي المؤقت، يائير لابيد، لتوقيع اتفاقيات عسكرية مشتركة مع نفس الدول "العربية" أطراف المعاهدات الإبراهيمية بزعم مواجهة الخطر الإيراني، وأن تنسى المغرب اسم فلسطين مقابل اعتراف أمريكا بسيادتها على الصحراء الغربية التي تحتلها منذ 1974، وأن تسمح البحرين، نيابة عن راعيها محمد بن سلمان الشهير بـ"المنشار"، الأداة التي استخدمت في تقطيع جسد الصحفي جمال خاشقجي داخل مقر القنصلية السعودية في إسطنبول، بوجود ضابط اتصال إسرائيلي على أراضيها في إطار اتفاقية تعاون عسكري مشترك.
ولا يستبعد العديد من المراقبين الغربيين فتح سفارة إسرائيلية في الرياض حال وفاة الملك الكهل سلمان وتولي "المنشار" رسميا شؤون الحكم، خاصة بعد القرار الأخير بفتح المجال الجوي السعودي أمام الطائرات الإسرائيلية في إطار مراسم الترحيب بالرئيس الأمريكي جو بايدن.
وحتى السودان، الذي استضافت عاصمته الخرطوم قمة "اللاءات الثلاثة" الشهيرة في أعقاب هزيمة 1967 المذلة "هاص في الهيصة"، وقبل التطبيع مع العدو الصهيوني لكي يتم الاعتراف بنظام البرهان العسكري الحاكم ورفع اسم السودان من قائمة الإرهاب.
كل هذه الاتفاقيات المشينة جاءت على حساب الشعب الفلسطيني المحتل، ومسايرة لدولة الاحتلال في الزعم أن قضية فلسطين لم تعد قضية العرب المركزية، وأن الأهم هو مواجهة الخطر الإيراني الذي يهدد نفطهم، الذي لم يجلب على منطقتنا سوى المصائب.
فبسبب النفط، والقرار الأخرق لصدام حسين بغزو واحتلال الكويت، فتح الأردن والسعودية حدودهما لكي تغزو الولايات المتحدة العراق عام 2003 وتحتل أراضيها وتفكك أواصر شعبها وتطلق حربًا مذهبية طائفية لا يعلم أحد كيف ستنتهي.
ووافق الرئيس المخلوع مبارك على استخدام المجال الجوي المصري أمام الطائرات الأمريكية وهي في طريقها لقصف العراق. كان المهم أن تتخلص دول النفط من التهديد العراقي، ولاحقا إيران. وفي سبيل هذا الهدف والحفاظ على بترولهم، لا بأس أن يتم تدمير وخنق كل الدول العربية الفقيرة غير النفطية، أو حتى احتلالها من قبل الولايات المتحدة.
ستبقى دماء آلاء معلقة في رقاب الإبراهيميين العرب، أو من يرون أن أقصى ما نستطيع هو إصدار بيانات ركيكة جوفاء تدعو للتهدئة
ونفط الخليج أعاد مواطنين ومواطنات من كل الجنسيات العربية من الدول غير النفطية يحملون أفكارًا سلفية رجعية تحتقر النساء وترى أن الدين يسبق كل انتماء آخر حتى في البلاد العربية متعددة الأديان والطوائف، كما هو حال مصر والعراق ولبنان. وبعد أن كنا نتغنى "مصر للمصريين" أصبحت مصر "إسلامية إسلامية".
أما المغرب الشقيق، وحاله حال دول الخليج النفطية التي لا حدود مشتركة لها مع فلسطين المحتلة، فاستخدم ملكه الراحل الحسن الثاني، ولاحقًا نجله محمد السادس، الورقة الفلسطينية لتحقيق مكاسب تضمن مصالحهم المباشرة، سواء فيما يتعلق بقضية الصحراء الغربية، أو في إطار المواجهة الأوسع مع الجارة الجزائر، وكلا الملفين مترابط منذ تحقيق البلدان للاستقلال عن الاحتلال الفرنسي.
لم يتعلم حكام الخليج والمغرب والسودان من مصر والأردن، أول من وقع اتفاقيات سلام مع العدو الصهيوني. كانت مصر تريد إنهاء الاحتلال الإسرائيلي لأرضنا في سيناء، واتفاقية وادي عربة كانت هامة لعمان للاعتراف بوجود الأردن كدولة من الأساس، بدلًا من الشعار الشاروني الشهير "الأردن هي فلسطين".
ولكن الشعبين المصري والأردني لم يقبلًا يوما التطبيع مع دولة الاحتلال. ورغم مرور عقود على اتفاقيات السلام المصرية والأردنية، فإن من قبلوا التطبيع بقوا قلة منبوذة تمارس التطبيع سرًا كما الدعارة.
أما الاتفاقيات الإبراهيمية، وحالة الفوضى والتفكك التي سادت العديد من الدول العربية في أعقاب ثورات الربيع العربي، فقد رسخت لدى دولة الاحتلال أن قضية فلسطين انتهت للأبد، وأنهم يستطيعون الاستفراد بالشعب الفلسطيني، وأن يفعلوا به ما يشاؤون من قتل وتهجير وبناء مستوطنات، وحتى الاستيلاء التدريجي على المسجد الأقصى.
كل هذه الأوهام انتهت بالعدوان الإسرائيلي الأخير على غزة، وعملية القتل المتواصلة بدم بارد لسكان القطاع المحاصر المعزول منذ أكثر من 15 عامًا.
ليست المرة الأولى التي تدمر فيها إسرائيل مباني القطاع وتهدمها فوق رؤوس ساكنيها. ولكن عملية الاعتداء الأخيرة كانت شديدة الفجر والاستهتار بأرواح البشر. أراد لابيد قتل قيادي في تنظيم الجهاد، اختبأ في شقة في عمارة سكنية في قطاع غزة المخنوق المحاصر. ورغم معرفة لابيد، "المعتدل" مقارنة باليميني العنصري بنيامين نتانياهو، بأن الصاروخ الموجه لقتل القيادي الفلسطيني سيصيب ويقتل مدنيين يقيمون في نفس المبنى، قرر بعنصريته البغيضة أنه لا بأس من القيام بالعملية التي قتلت 44 فلسطينيًا، بينهم 15 طفلًا حتى الآن.
ولكن فضحته الطفلة الفلسطينية الشهيدة آلاء ذات الخمسة أعوام، والتي رآها العالم مضرجة في دمائها بعد أن أصابها الصاروخ الإسرائيلي. لم ولن يتمكن الإبراهيميون العرب من مداراة فضيحة لابيد. ومن المؤكد أن الشعوب العربية في الإمارات والبحرين والسعودية والمغرب والسودان دماؤها تغلي كما كل الشعوب العربية من آخر الجرائم الإسرائيلية العنصرية.
ولكن ستبقى دماء آلاء معلقة في رقاب الإبراهيميين العرب، أو من يرون أن أقصى ما نستطيع هو إصدار بيانات ركيكة جوفاء تدعو للتهدئة. سينتصر الشعب الفلسطيني بمفرده وبنضاله مدعومًا بكل أحرار العالم، بعيدًا عن الإبراهيميين الذين باعوا فلسطين خدمة لمصالحهم الضيقة، وضمانًا لبقاءهم على كراسيهم، وحفاظًا على نفطهم أولا وقبل كل شيء.