في الحلقة الأخيرة من الموسم الخامس لبرنامج Rupaul's Drag Race يسأل روبول تشارلز مقدم البرنامج، مونيكا بيفرلي هيلز إحدى المتسابقات العابرات جنسيًا، عما إذا كان ممكنًا لفتاة أن تكون عابرة جنسيًا ودراج كوين في الوقت نفسه، لترد "نعم الدراج هو عملي، وهويتي امرأة عابرة جنسيًا".
مونيكا لم تكن المتسابقة الأولى ولن تكون الأخيرة التي تعلن عن عبورها الجنسي عبر البرنامج الأشهر في عالم الدراج كوين Drag queen، وهو مصطلح يصف قيام ذكر بتقمص أداء ومظهر أنثى في مجموعة من المنافسات والاستعراضات، لكن كيف ساعد روبول وبرنامجه مونيكا وغيرها في التعبير عن ذواتهم الحقيقية؟
دراج vs عبور
الدراج ليس مرتبطًا بالعبور الجنسي، أي أن ممارسيه ليسوا بالضرورة ممن يشعرون باغتراب عن هويتهم الجنسية ويرغبون في التحول لأنثى، بل هو ر جل يعشق التبرج والتأنق، يختلق شخصيةً نسائيةً مركبةً تُبرِز أجمل ما فيه شكلًا وموضوعًا. يسحره عالم الاستعراض، ويتخذ من شخصيات استعراضية نسائية شهيرة مثل شير ومادونا وتينا ترنر وديانا روس مثلًا أعلى.
ولكن رغم أن الارتباط بين الدراج والعبور ليس لازمًا، فقد أتاحت ممارسة الدراج مساحةً للكثيرين من مضطربي الهوية للعثور على ذواتهم.
ظهر مصطلح الدارج أواخر القرن التاسع عشر، ويُعرف بأنه "فن التجسيد الأنثوي"، والآن تشعبَّ الأمر ليشمل نساءً تؤدين أدوار ذكور، وعابرين من الجنسين يؤدون الأدوار التي يفضلونها.
أما العبور الجنسي فهو أمر مختلف تمامًا، ويعني اختيار الشخص سواء كان ذكرًا أو أنثى تغيير الجنس المحدد له عند الولادة إلى النوع الذي يرغب فيه ويشعر بالتماهي معه، وتشمل رحلة العبور طريقين أولهما العلاج الهرموني، وثانيهما العمليات الجراحية التي تضمن وصول العابرين للنتائج المرغوبة.
روبول يكتب التاريخ
أغلب مؤدي الدراج حريصون على التأكيد أنهم ذكور لا يرغبون في العبور الجنسي، لكنهم يحبون أداء ذلك النوع من الاستعراض، ضاربين بعرض الحائط الأعراف المجتمعية، ومتخطين الحدود الواهية والأدوار الاجتماعية بين الجنسين.
روبول هو الشخصية الأشهر والأنجح في عالم الدراج، جاءت بدايته الحقيقية في ثمانينيات القرن الماضي، حين تلمس طريقه في عالم محفوف بالمخاطر والرفض المجتمعي؛ خصوصًا وأنه رجل مثلي من أصول أفريقية "يتشبه بالنساء"، لكن إصراره دفعه للاستمرار حتى صنع التاريخ في عام 1994 بكونه أول دراج كوين يمثل الواجهة الإعلانية لبراند مساحيق تجميل.
نجاح روبول توالى بانتشار في هوليوود بين تمثيل وغناء، وفي عام 2009 ومع الصحوة التي شهدتها الولايات المتحدة بانتخاب باراك أوباما أول رئيس من أصل أفريقي، قرر الفنان إعادة كتابة التاريخ بتقديم أول برنامج مسابقات متخصص للدراج كوين.
جملته الشهيرة "إذا لم تحب نفسك، كيف بحق الجحيم ستحب شخصًا آخر؟" هي علامته المميزة، يدرك الدراج كوين الأشهر أن قبول الذات هو الخطوة الأولى على طريق النجاح، يعرف أن وظيفته تنطوي على التخبط وأحيانًا كراهية الذات بسبب الاختلاف، لكنه يسعى لنشر دعوة للتقبل وعدم إصدار الأحكام، لذلك كان برنامجه سببًا كبيرًا في انفتاح بعض المشاركين، وكشفهم أسرارًا لم يخبروها لأحد من قبل.
صراع الهوية
في البرنامج المذكور أعلاه، يتسابق العشرات من مؤدي الدراج كل عام للحصول على لقب دراج أمريكا القادم، وبعيدًا عن أجواء المنافسة، كشف البرنامج صراع 13 متسابقًا في نسخ مختلفة، مع هويتهم الجنسية، حتى وصولهم لقرار مصيري كالعبور.
كايلي سونيك لاف، تنافست في الموسم الثاني من البرنامج تحت اسم سونيك، هي أول من أعلنت عن عبورها خلال حلقة العودة في نهاية الموسم الثاني.
في البداية واجهت سونيك صعوبة في الإعلان عن الأمر، انهمرت دموعها وتركت التصوير، لم تعرف كيف تشرح الأمر، بمعاونة روبول وصديقها مورجان، فتحت مونيك قلبها أخيرًا، كاشفة عن تعاستها وحيرتها وشعورها بأنها إمرأة محبوسة في جسد رجل.
تعي مونيك جيدًا الحد الفاصل بين رجل يقوم بالدراج كاستعراض ووسيلة لكسب العيش، وبين كونها امرأة عابرة تُمارس الدراج الذي فتح لها الباب على مصراعيه لتُطلق العنان للمرأة التي بداخلها. لا يغيب عن بالها أن أغلب العابرين يرفضون العمل كدراج ويرونه مرحلة لاكتشاف الذات لا غير، لكنها ترغب في الاثنين معًا.
حققت سونيك حلمها في الموسم السادس من برنامج Rupaul's drag race all stars، الذي يتسابق فيه أبرز نجوم البرنامج الأول Rupaul's drag race، لتكتب التاريخ كونها أول امرأة عابرة تفوز بنسخة البرنامج.
مواجهة العالم
في الموسم الثالث من البرنامج، جاء الدور على كارمن كاريرا التي وصلت لمرحلة متقدمة في المسابقة، الجمهور والحكام معًا أثنوا على جمالها الأنثوي وجسدها الساحر. اعتادت المتسابقة الظهور شبه عارية أغلب الأوقات في البرنامج، ما منحها شعورًا بالحرية والانطلاق، ودفعها للتأكد من أنها امرأة في الأساس، لكنها لم تُولد على هذه الشاكلة وعليها إجراء بعض التعديلات.
أعلنت كارمن عبورها الجنسي في حلقة خاصة من برنامج الواقع الشهير What Would I Do، جسدت خلالها شخصيتها الحقيقية للعالم، كارمن التي كانت كريس في الماضي، صارت في مرحلة العبور وعليها مواجهة العالم.
يهدف البرنامج الذي يعتمد على إخفاء كاميرات التصوير، لاكتشاف ردود أفعال الجمهور العادي في الشارع الأمريكي في مواقف مصيرية. على عكس المتوقع، لاقت كارمن التي أدت في الحلقة دور نادلة عابرة جنسيًا ردود أفعال إيجابية من أشخاص لا تعرفهم قرروا مساعدتها والوقوف إلى جانبها لحمايتها من شخص هاجمها بعد معرفة حقيقية عبورها.
ورغم أن الموقف تمثيلي بالكامل لكنه أدخل الرعب إلى قلب كارمن بعد مواجهتها وجهًا لوجه مع الآراء السلبية التي تتحضر لسماعها مستقبلًا، وحذرها منها أصدقاؤها الذين سبقوها في رحلة العبور.
شقة على الأرض
في حوار مع موقع Chicago tribune كشفت كارمن أنها كانت تفكر في العبور قبل التحاقها بالبرنامج لكنها أجلت الأمر بعد قبولها، وأنها ترفض أي أفكار دينية تُدينها، وتعتبر جسدها بمثابة شقة تقطنها خلال رحلتها الدنيوية على الأرض وفي حال رغبت في تجديدها أو تغيير أي شيء وكان الأمر متاحًا، فلماذا لا تفعل ذلك؟ ولماذا يحاكمها أي شخص على قرارها؟
أسئلة كارمن ليست بجديدة، هي مخاوف كل شخص يؤدي الدراج أو يقرر العبور الجنسي، هناك دائمًا من يعترض على خيارات الآخرين الشخصية في عيش حياة مختلفة أو مخالفة للمتوقع والسائد.
استحواذ ثقافي
رغم أن برامج الدراج لديها قاعدة كبيرة من المشاهدين حول العالم خصوصًا من المراهقات ممن يرينَ في عروض الدراج دافعًا لهنَّ لحب أنفسهنَّ وأجسادهنَّ على اختلافها، لكن ذلك لا ينفي وجود اتهامات كبيرة لذلك العالم منها الاستحواذ الثقافي للمرأة، أي تبني عناصر ثقافة معينة من قبل ثقافة أخرى.
يرى المنتقدون وأغلبهم من النسويات أن مؤدي الدراج لا يعيش ما تعيشه النساء من تهميش وسلطة أبوية وتمييز ضدهن واضطرابات الدورة الشهرية وتبعات الحمل والرضاعة وغيرها من الأمور التي تعاني منها المرأة كل يوم، فيما تقتصر عروض الدراج على التأنق والتبرج والتركيز على الشكل الخارجي على حساب الجوهر والمعاناة، كما أن مؤديه عادةً ما يستخدمون أوصافًا تحط من قدر المرأة على سبيل المزاح، ولا يقف النقد عند النسويات فقط، بعض المثليين يرون أن هذه الاستعراضات قد تعمم صورة نمطية مخالفة للواقع عن حياتهم، إذ أن الدراج كوين أحد البرامج التي خرجت من وسط مجتمع الميم.
في مقال عبر موقع The Herald الإسكتلندي، ينفي الكاتب مارك سميث هذه الاتهامات، ويؤكد أنها تنم عن عدم فهم لطبيعة الدراج الذي يعد شكل من أشكال مقاومة الكراهية عند البعض (أناس من مختلف الأصول العرقية والتوجهات الجنسية لكن أغلبهم رجال مثليين)، فهم لا يسخرون من النساء بل يضعون المكياج والشعر المستعار لإظهار جانب من أنفسهم لا يرغبون في إخفائه.
كيف يتفاعل العالم العربي؟
مؤخرًا، أتاحت منصة نتفليكس الإلكترونية نافذة للعالم العربي على هذه العوالم عبر إتاحة جميع مواسم Rupaul's drag race والمواسم الثلاثة الأخيرة من Rupaul's drag race all stars وعدد من البرامج المشتقة عنها مترجمة إلى اللغة العربية، إلى جانب مسلسلات تروي قصص عن العابرين والدراج وأشهرها مسلسل pose، والمسلسل البولندي queen.
قبل ذلك، لم تكن برامج الدراج تستقطب جمهورًا عربيًا يذكرـ رغم أنها نُسخت في العديد من الدول حول العالم ولم تقف عند الأراضي الأمريكية، ولا زالت ردود الفعل محدودة والالتفات لها عربيًا خافتًا.
دراما الدراج
تقدم الأعمال الدرامية جوانب أخرى من تلك الحياة الخفية، في مسلسل AJ and the queen، إنتاج المنصة الأمريكية عام 2020، يجسد روبول بطل العمل شخصية روبي، وهو دراج كوين يسافر في رحلة عبر الولايات المتحدة الأمريكية لتقديم عروض استعراضية بمرافقة AJ طفلة في العاشرة من عمرها.
في بداية أحداث المسلسل تسخر AJ من روبي لأنه رجل يرتدي الفساتين ويضع المكياج، لكن روبي أو روبرت دائمًا يُصر على شرح الفارق، وكيف كان الدراج أداته لتعزيز ثقته بنفسه والحصول على المديح والنجاح والمال، لكنه لم يرغب بالعبور الجنسي مطلقًا، هو يحب جانبيه الاثنين؛ الأنثى والذكر ويعتز بهما كل منهما في وقته ومكانه المناسب.
وعلى عكس روبول سواء في الواقع أو شخصية روبي، هناك الكثيرون ممن كان الدراج بداية تعرفهم على أنفسهم الحقيقية، وخطوة في طريق تحرير أجسادهم ومواجهة أنفسهم والعالم، وصولًا إلى العبور الجنسي، وهذا فضل يرجع له، سواء قبل به أو أنكره، فالدراج وروبول كان بوابة لعبور الكثيرين.