في أغسطس/ آب من العام 2020، أعلنت المديرة السابقة للمركز القومي للترجمة علا عادل، "الشروط الجديدة للتعاقد" على ترجمة الكتب ضمن إصدارات المركز، التي حوت "ألا يتعارض (الإصدار) مع الأديان والقيم الاجتماعية والأخلاق والأعراف". وبعد غضب المتابعين قراء وكتاب ومترجمين، عادت مبررة الشرط السابق بـ"الحفاظ على القيم"، خاصة من أفكار "الشذوذ الجنسي".
وأردفت بيان الشروط ببيان آخر توضيحي قالت فيه "وضع شرط عدم التعارض مع الأديان أو الأعراف والمُثل، جاء بعد أن ورد إلى المركز مقترحات بكتب تتضمن التطاول على رموز ومؤسسات دينية دون أن يكون هناك فكر حقيقى مطروح. بل هناك من الأعمال ما يروج للمثلية والشذوذ والإلحاد وهو ما لا نقبل وضع اسم المركز عليه. إلا أن الأفكار التي لا تتماشى مع قناعاتنا لكنها لا تتضمن إساءة أو تطاول لا نفرض عليها حجرًا؛ بل نطرحها في إصدارتنا التى تهدف إلى التنوير والتعريف بثقافة الآخر وفكره، بل نأمل كذلك أن يقرأها المفكرون تحثهم على الرد على الأفكار المغلوطة فى كتاباتهم"، بحسب البيان.
في الشهر ذاته رحلت علا عن إدارة "القومي للترجمة"، لتتولى منصب مستشارة ثقافية للسفارة المصرية لدى النمسا، وبقيت لائحة الشروط التي أعلنت عنها ومضامينها "التطاول على رموز ومؤسسات دينية"، و"يروج للمثلية والشذوذ والإلحاد"، و"الأفكار التي لا تتماشى مع قناعاتنا"، وبعيدًا عن سؤال قناعة من؟ تبدو تلك المفردات والأوصاف منافية لأي قواعد أكاديمية.
توصيف أي نقد باعتباره تطاولًا أو إساءة، توصيف سلفي متحجر. مثلما يعتقد بعض الكهنة والشيوخ أن أي نقد لمعتقدهم "شبهات" و"بذاءات" و"تطاول" يجب الرد عليها وليست مناقشتها، الأمر لاكه بيان علا "الرد عليها"، فالفكر عند الأصوليين عمومًا، دينيين وغير دينيين، "خناقة" ومعركة، سمًٌ في العسل، وهي العبارة التي رددها البيان أيضًا.
وبعد مرور نحو عامين من "أزمة علا"، تحديدًا نهاية ديسمبر/ كانون الأول الماضي، أصدر المركز ترجمة عربية من كتاب دليل القارئ إلى النظرية الأدبية المعاصرة، الذي شارك في تأليفه رامان سيلدن وبيتر ويدوسون وبيتر بروك، من ترجمة المفكر الراحل جابر عصفور وأستاذ الأدب المساعد في أكاديمية الفنون حسام نايل، وتقديم المترجم الراحل محمد عناني.
وعلى الرغم من أن الظاهر أن الكتاب يبدو بعيدًا عن البيان المشار إليه، فإنّه، أي الكتاب، مثّل نموذجًا تطبيقيًا لـ "الشروط" التي قطعها المركز على نفسه.
"مجافاة الأخلاق والدين"
يتألف الكتاب من أربعة عشر فصلًا، حمل الفصل الحادي عشر عنوان "نظريات الكوير". وبمجرد أن تقرأ العنوان، ستحيلك إشارة مرجعية حملت توقيع من حرفين "ع" و"ن"، أي عناني ونايل، تضمنت نصًا "ننوه إلى أن محتوى هذا الفصل غريب على فكرنا العربي الحديث والمعاصر؛ بل يجافي الحس الأخلاقي والديني السليم، ولكننا رأينا تقديمه كما هو، بوصفه ممثلًا لثقافة مختلفة"(ص359).
التنويه الذي يبدو تبرئة من المثلية الجنسية، جاء تطوعًا من رجلين أحدهما أستاذ أجيال في مجال الأدب الإنجليزي والترجمة، والآخر ناقد ومترجم مهم ارتبط اسمه في مجال كتابات التفكيك/deconstruction، أحد تجليات ما بعد الحداثة التي ارتبطت باسم الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا. وهي رؤية فلسفية تنفي فكرة وجود مركز ثابت، ورؤية صحيحة واحدة، أو "سليمة" بتعبير التنويه سواء في الفكر أو الأخلاق أو الدين.
تبني نايل لنحو عشرين سنةً رؤى وطروحات تُتهم من المحافظين والتقليديين بنشر العدمية والتبشير بها لم يمنعه بصحبة أستاذه عناني أن "يرتدا" محافظين ويفرضان على القارئ تصورًا مسبقًا؛ بل يقرران له ما هو المتماثل المناقض للغريب، وما يوافق الحس الأخلاق وما يخالفه، بل ما يتفق مع "سليم الدين" وصحيحه وبالطبع ما يخالفه. وهما هنا يشطبان أو يكشطان النصّ الأصلي، بتعبر دريدا، إذ يمكن قراءة تنويههما بوصفه كشطًا يحاول أن يلغي تأثير النص الأصلي. والسؤال هنا: إن أرادا ذلك فلماذا ترجما الكتاب؟
بجانب الوصاية العنانية/ النايلية، تحتوي العبارة مغالطة. فالمثلية وغيرها من النزعات الجنسية موجودة وقائمة في العالم، وفي الدول العربية. وإن ظلّ قبولها منخفضًا، لكنها موجودة، ليست في الفكر العربي الحديث فحسب، إنّما في التراث أيضًا، وكذلك في مصر القديمة التي عرفت حكامًا مثليّ الجنس. ناهيك طبعًا عن تناولها في أعمال أدبية وروائية كثيرة، كتناول نجيب محفوظ، الذي حصل نايل على الدكتوراه من خلال دراسة رواياته، وأبرزها شخصية المعلم كرشة في زقاق المدق، ورضوان ياسين وعبد الرحيم عيسى في السكرية.
رُهاب المثلية، الذي أوقع المترجم ومقدم الكتاب في وصاية وخطأ منطقي، أوقع عناني أيضًا في خطأ علمي. ففي المقدمة يرى المثلية "ظاهرة معتلة من ظواهر مجتمع الترف أو مجتمع الوفرة"(ص18)، الأمر الذي يقوده فيما بعد إلى "من الطبيعي أن ننفر نحن من هذا المذهب"(ص25).
فعناني، الأستاذ الذي تعلمنا منه الدقة والمنهجية، يرى في المثلية اعتلالًا/morbidity، والعلّة مرض، في حين تراجعت منظمة الصحة العالمية عام 1990 عن تصنيف المثلية الجنسية كنوع من الاضطراب العقلي، كما كان يُنظر إليها من قبل. وفي 2019 عدلت عن تصنيف المشكلات الصحية الخاصة بالمتحولين جنسيًا، عن أنها اضطرابات عقلية وسلوكية، وهي قرارات مبنية على العلم والمعرفة، التي عاداها عناني ومن ورائه نايل.
الإخلاص للغتين "خانه" المترجم باستعمال مفردات تحمل حكمًا قيميًا لم يرده النصّ الأصلي أو مؤلفوه
خيانة المترجم
التنويه السابق، سواء في بداية الفصل الحادي عشر أو مقدمة عناني، ليس أقل مخالفة علمية من ترجمة نايل للفصل ذاته، الذي يترجم homosexual كما استعملها المؤلف في نص الكتاب الأصلي بدءًا من الصفحة 243، مرة بالمثلية وأخرى بـ"الشذوذ" (ص359 بالنسخة العربية)، وكأنهما مترادفتان. وفي صفحة 360 يترجم the homophobic prejudices بـ"تحيزات رُهاب الشذوذ" بدلًا من التحيزات المعادية للمثليين.
لا أعتقد أنّه يخفى على نايل وخبرته في الترجمة الفارق بين المثلية والشذوذ abnormality، إذ تتضمن الأخيرة دلالات الانحراف وعدم التوازن والغرابة، في حين تكتفي homosexuality بالتوصيف. الأمر ذاته يكرره مع مفردة gay التي يترجمها "اللواطين" كمرادف لكلمة sodomy، وهي لم ترد في النصّ الأصلي، والكلمتان "شذوذ ولوط" تحملان قدرًا من الإدانة.
أؤمن، وربما نايل معي، أن الترجمة محاولة الإمساك بالشبح والطيف، والأخير غائب مختفٍ، ولا تحيل إلى الأشياء وإنما تحيل إلى اللغة نفسها. إنّها بعبارة الأمريكية باربرا جونسون "أشبه بالزواج من ضرتين؛ وتفرض كل علاقة حب حبًا آخر"، مع تجنيب إقحام نوازع ذاتية للمترجم قد تدفعه إلى الإبهام في موضع الوضوح، أو الإخفاء والالتواء في موضع الصراحة.
الإخلاص للغتين "خانه" نايل باستعمال مفردات تحمل حكمًا قيميًا لم يرده النصّ الأصلي أو مؤلفوه، وتدخل في توجيه تلقي الكتاب، الأمر الذي يخالف التفكيك. فكيف لناقد يتبنى رؤى ما بعد الحداثة أن يحمل تصورات محافظة أو قيمية حيال المختلف جندريًا، وليعذرني حسام: ألا يدعو ذلك إلى الشك في تبنيك للتفكيك بالأصل؟
الشك السابق يدعمه موقف حضرته في مناقشة نايل أطروحته للدكتوراه التي تضمنت مناقشة لفكرة العائلة في أدب نجيب محفوظ. أذكر أنه اختتم كلمته في بدء المناقشة بترديد "تحيا العائلة" ثلاث مرات، وهو ما دفع مناقشه وقتها الراحل شاكر عبد الحميد إلى وضع علامة تعجب؛ إذ يقف التفكيك ومعه دريدا موضع الريبة من العائلة وتصوراتها، بالتالي الانحياز للعائلة "خيانة" ولو بسيطة للرؤى التي نتبناها.
حتّى لا أحمّل نايل وحده المسؤولية، التي أراها ثلاثية الأطراف، عناني ونايل طرفان، والمركز القومي الذي لم يتوان عن تنفيذ شروطه ولو بعلامة تنويه مرة، مثلت شطبًا للنص الأصلي، أو بقبول ترجمة غير دقيقة لبعض المفردات، سعيًا وراء "الرد على المثلية". فيما يمكن استبعاد اسم عصفور، خاصة أنه ترجم نحو نصف الكتاب في التسعينيات، وطُرحت الطبعة الكاملة الجديدة بعد وفاته بعام كامل.
كأن التنويه أو تغيير الدلالات رسالة تسعى للاحتماء بالرؤى الشعبوية ضد أي تصورات تقدمية، تعلمنا الدفاع عنها من عصفور، وتكشف عن أن الذين قد يعترضوا على ممارسة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر دينيًا، يمارسون الفعل ذاته ثقافيًا ونقديًا، وتطوعًا دون إجبار أو ضرورة.
أغفل المترجم وعناني والمركز أن الترجمة تنطوي على الاعتراف بالقصور الذاتيّ في الثقافة المترجم إليها "المستهدفة". وإن لم يكن الأمر كذلك، فما الدافع إلى الترجمة؟! هذا القصور يدفعنا إلى استقبال "الآخر" في لغتنا وبالتالي في ثقافتا، وهي عملية تشير دومًا إلى الخارج، الآخر، فضلًا عن توسيع دوائر الحوار والفعالية، ومن ثم حرية الإنسان والمجتمع.
رحلت علا عن المركز وجاءت أستاذة الدراما بقسم اللغة الإنجليزية في كلية الألسن جامعة عين شمس كرمة سامي مديرة، لكن الشروط واحدة، والأهداف يبدو لم تعد "تقديم الاتجاهات والمذاهب الفكرية"، بلّ الرد عليها ودحضها أو على الأقل كشطها.