في الليلة الأولى لمهرجان القاهرة، الذي انتهت فعاليات دورته الـ44 قبل أسبوعين، كنت في طابور التذاكر الطويل، أحصي ما أنوي مشاهدته من أفلام وأثرثر عنها ريثما يحين دوري على الشباك، عندما جاءتني رسالة من صديقة تعبر عن انزعاجها الشديد، لأنها لن تتمكن من حجز سبعة أفلام تضمنهم برنامج العرض، بعد أن اشترت بطاقة محبي السينما التي تسمح لها بحضور خمسة عشر فيلمًا.
كانت رسالة أخرى وصلت من إدارة المهرجان إلى العاملين في شباك التذاكر، عبر واتساب، تتضمن أسماء سبعة أفلام لن تكن متاحة للجمهور العام، وإنما لحاملي تصاريح الصحافة فقط، وبعد مشادة طويلة، لم يستطع عاملو التذاكر مساعدة صديقتي في الوصول لحل عادل، يعوضها عن الأفلام التي دفعت ثمنها مسبقًا ولن تتمكن من مشاهدتها لأنها ليست صحفية.
لم تكن صديقتي الوحيدة التي واجهت المنع، حيث فوجئ العشرات من رواد المهرجان في يومه الأول، سواء من الجمهور العام أو المتخصص، أنهم لن يتمكنوا من مشاهدة سبعة أفلام بدعوى عدم امتلاكهم شارة الصحافة، رغم أن تلك الأعمال متاحة حسب التصنيف الرقابي لـ"حاملي البطاقات" (وإن لم يحمل ذلك التصنيف أي سبب منطقي معلن) أي كل من يحمل بطاقة ناقد أو دارس للسينما أو عامل بالمجال أو صحفي.
المدهش في الأمر أن فيلمين من السبعة "الممنوعين من العرض العام" كانا ينافسان على جوائز المسابقة الدولية في المهرجان، هما: Something you said last night وThings unsaid، فيما نافس ثلاثة آخرون على جوائز مسابقة أفلام النقاد (Joyland وI have electric dreams وThe young arsonists) قبل أن يفوز Joyland بجائزة لجنة التحكيم في تلك المسابقة.
ليس ثمة مجال للمنع على أرض الواقع، فالجمهور يفتش عن الممنوع ويقتنصه حتى لو بالطرق غير الشرعية. المنع يقابل بالفضول والرغبة في الاقتناء، خاصة إذا كان منع الأفلام مقصورًا على فئات معينة دون غيرها، فإن دوافع مشاهدتها تكون أكبر. قبل انطلاق المهرجان كنت متحمسة لمشاهدة فيلمين فقط من تلك الأفلام، وبسبب المنع تبدلت خطتي وقررت توفيق جدولي لأشاهد الأفلام السبعة بدافع الفضول.
قيود في كل مكان
لم تعد المشاهد الحميمة والقبلات في الأفلام وحدها هاجسًا رقابيًا، بل باتت العلاقات المثلية والشخصيات العابرة جنسيًا في موضع الدائرة الحمراء غير المرحب بها، وذلك الرابط المشترك بين أغلب الأفلام التي حددت الرقابة دوائر عرضها على حاملي البطاقات، أو الصحفيين حصرًا كما انتهى الأمر، وهو منع يتضافر مع سياقات رفض وجود تلك الشخصيات في المجتمع ودمجها فيه.
في السينما نرفض أن نشاهد حكاياتهم ونسمع أصواتهم لأن إجازة عرضها للجمهور يعني ضمنيًا الاعتراف بوجودهم والتصالح مع ممارساتهم المغايرة.
تعاني بطلة الفيلم الباكستاني Joyland العابرة جنسيًا من مضايقات مجتمعها المحافظ وضياع حقوقها في مجتمع الرجال، الذي لا يزال يشغله شكل جسمها وعضوها التناسلي أسفل ملابسها النسائية، ومن جهة أخرى يعاني بطل الفيلم من أفكار وعادات مجتمعه الذكوري المتشدد، فهو لا يجرؤ على مصارحة أبيه بعمله راقصًا في فرقة استعراضية، أو مصارحة أصدقائه بأنه وقع في غرام الراقصة العابرة جنسيًا، كل ذلك الكبت والتشوهات النفسية يزيدان من ارتباكه كرجل بشأن أفكاره وعلاقته بذاته التي لا تتماشى مع ذكورية مجتمعه، فيبدو لنا تصالحه مع الفتاة العابرة جنسيًا متماشيًا مع تصالحه مع الأنثى بداخله، لكن ما يعوقه هو المجتمع الذي يصل به وبزوجته إلى نهاية مأساوية.
هذه القيود تكبل الأبطال والفيلم نفسه، الذي كتبت عنه الأصوات الإسلامية الباكستانية الرافضة أنه "عمل حربي ضد قيمنا الاجتماعية". مطالب بمنع عرض الفيلم في باكستان، لكن الاحتفاء الدولي به في مهرجان كان وتمثيله لبلده في مسابقة الأوسكار لأفضل فيلم غير ناطق بالإنجليزية، دفع رئيس الرقابة على الأفلام الباكستانية لإجازة عرضه في النهاية، المفارقة أن الفيلم يعرض في القاهرة لكن بقيود رقابية ووسط مجتمع لا يختلف كثيرًا عن أفكار المجتمع الباكستاني الأبوي المحافظ.
وعلى العكس في فيلم Something you said last night، نشاهد البطلة العابرة جنسيًا بين أسرتها المتصالحة والداعمة لها ظاهريًا، لكن مشكلة البطلة تكمن في لحظات الغضب التي تتفجر فيها مشاعر الأهل المكتومة تجاهها باعتبارها "خيبت أمالهم"، فتعود الفتاة إلى قوقعتها من جديد، تنغمس في عزلتها وتغرق في علاقتها بهاتفها المحمول الذي يشكل مساحة أمان لها تفتقدها في العالم الخارجي، فبينما تملك أختها حياة اجتماعية وصداقات وحبيب، لا تزال البطلة منغلقة على جسدها الذكر في ظاهره، تعاني من نظرات الرجال المرتبكة لها، ومن وضعها المادي المضطرب بعد أن فقدت وظيفتها، التي ربما لن تعثر على غيرها بسهولة.
شاهدتُ الفيلم بحضور واحد من منتجيه الذي حدَّث الجمهور عن مخرجته لويس دي فيليبس، وهي عابرة جنسيًا، استوحت قصته من أحداث حياتها الشخصية، فهي تحظى بأسرة وأهل داعمين لعبورها الجنسي، وهو أمر نادر لا يجده بسهولة العابرون جنسيًا، وتحققه في الدراما يمنحهم إلهامًا وقدرًا من الأمل.
كيف نكون؟
تثير فكرة وجود نساء في أجساد رجال حفيظة المجتمع دون التفكير في أنهن يحاولن اكتشاف ذواتهن وهوياتهن، لا يجد الأغلبية عيبًا أن تكتشف المرأة أنها تميل للرجل بداخلها أكثر من كونها امرأة، لكن العيب أن يكتشف الرجال الأنثى بداخلهم، وتلك الترجمة الأكثر وضوحًا لاحتقار المجتمع للنساء وتشبه الرجال بهن.
في كتابها "علينا جميعًا أن نصبح نسويين" تستفيض الكاتبة تشيماماندا نجوزي أديشي في الحديث عن التنشئة الاجتماعية التي تضخم الفروق بين الصبية والفتيات، موضحة أن "المشكلة في التمييز بين الجنسين هو أنه يصف لنا كيف يجب علينا أن نكون، عوضًا عن إدراكنا لحقيقة أنفسنا. تخيلوا كيف سنشعر بسعادة أكبر، وبكمية الحرية الأكبر التي ستكون عليها ذواتنا الحقيقية المتفردة إن لم تثقل كاهلنا تلك التوقعات النابعة من الجنوسة".
https://www.youtube.com/watch?v=GfB89qF4gJM
يمكننا استعارة جملة تشيماماندا السابقة عند الحديث عن أفلام The young arsonists وThings unsaid وI have electric dream، التي تختلف قصصها الدرامية لكنها تشترك في وجود أبطال مراهقات في مرحلة استكشاف أجسادهن ورغباتهن الجنسية. اكتشاف الرغبات المغايرة يعني نغمة حرة تختلف عن اللحن المعزوف السائد، ومعه تصبح رحلة اكتشاف الذات وما تريده محرمًة، لا يجب الخوض فيها.
تقول الفتاة المراهقة في Things unsaid إن الكبار يحبون التلاعب بالصغار والتحكم فيهم بإيثار الصمت وعدم الحديث في الأمور التي يجب التحدث عنها، وكأن تعتيم الحقيقة جزء من عالم الكبار المراوغ الذي يدفع الصغار ثمنه. وتقول إحدى الفتيات في فيلم The young arsonists إنها لا تعرف شيئًا عن دورتها الشهرية أو عن جسدها عمومًا، فأمها لا تتحدث معها عن تلك الأمور؛ لا تزال جغرافيا الأجساد مجهولة ومحظورة، ومحاولات اكتشافها تشكل عيبًا يجب أن يغلفه الصمت.
مشاهد الملامسات الجسدية في الأفلام هي في جوهرها جزء من اكتشاف حقيقة أجسادنا والبحث عن رغباتها الحقيقية، لكنها على الجانب الأخر من الحكاية المحرمة تتعارض مع الثوابت المجتمعية التي لا تنظر للعلاقات إلا من زاوية أحادية، ولا تسعى للتعمق نحو فهم حقيقي للرغبات الجنسية.
يضعنا الفن أمام أسئلة الحياة الكبرى التي لا نجد لها متسعًا في الحياة الواقعية، لعل سؤال الهوية واحد من تلك الأسئلة التي تدفعنا إلى إعادة التفكير لفهم أنفسنا وفهم الأخر المختلف عنا دون تمييز جنسي.
في ختام حفل جوائز المهرجان ألقت رئيسة لجنة تحكيم المسابقة الدولية ناعومي كاواسي كلمة تشير فيها إلى سعادتها لكونها أول مخرجة امرأة ترأس لجنة تحكيم في المهرجان، في إشارة لسعادتها لوجود توازنات جندرية بين الرجال والنساء في لجان تحكيم القاهرة السينمائي، لكنها لم تغفل الإشارة رغم ذلك، إلى أن ثلاثة مخرجات فقط كن مرشحات بأفلامهن في المسابقة الدولية من ضمنهن مخرجة عابرة جنسيًا، وهو ما جعل ناعومي تظن أنه تجب إعادة التفكير مستقبلًا في عدم التفرقة الجندرية في الجوائز مثل تخصيص جائزة لأحسن ممثل وأحسن ممثلة، وتكون الجوائز لأحسن أداء تمثيلي أيًا كان جنس صاحب الدور.