دعم رابح لمجتمع الميم: محاولة لفهم سلوك "ديزني" وسابقيها
لم تتراجع منصة ديزني العالمية أمام دعوات المقاطعة، عقب إعلان كيري بورك، رئيسة الترفيه العام للشركة عن حملة Reimagine Tomorrow، التي تهدف إلى زيادة تمثيل الفئات غير الممثلة في الأعمال الفنية، وعلى رأسهم مجتمع الميم، إلى 50% بنهاية عام 2022.
وفيما واجهت الشركة اتهامات بمحاولة التأثير على الأطفال وغرس أفكار المثلية في عقولهم، بالتوازي مع الحديث عن نظريات المؤامرة والكيانات الخفية التي تريد تدمير العرق البشري وتقليل عدد سكانه عبر نشر المثلية، أعلنت الشركة في أغسطس/ آب الماضي عن زيادة عدد مشتركيها حول العالم.
ووصل عدد المشتركين الإجمالي إلى 221.1 مليون مشترك، متفوقة بذلك على منصة نتفلكس، كما حققت أيضًا زيادة غير متوقعة في أرباح هذا العام بنسبة 26% عن العام الماضي وبمبلغ 21.5 مليار دولارـ
يطرح ذلك تساؤلات على شاكلة هل تخاطر ديزني، وغيرها من الشركات الهادفة للربح، عند دعم مجتمع الميم، أم على العكس تربح من ذلك؟ وهل سلوك ديزني جديدًا؟
تاريخ موجز عن صراع مجتمع الميم
ليست ديزني أول شركة تعلن دعم مجتمع الميم، كما أن أول كيان تحرك لدعمهم لم يكن شركة من الأساس، بل مافيا، في ظروف مختلفة، ومنها بدأ كل شيء.
في 28 يونيو/ حزيران عام 1969، اقتحمت الشرطة الأمريكية نادٍ ليلي يُدعى ستون وول إن، يقع في حي مانهاتن بنيويورك، وبدأت في تحطيم الزجاج والطاولات والاعتداء على الأشخاص والقبض عليهم. اندلعت مواجهة بين الشرطة وزوار النادي وأهالي الحي، وتطورت إلى اشتباكات انتشرت في كل الشوارع المجاورة واستمرت ستة أيام.
أصدرت الشرطة الأمريكية بيانًا توضح فيه أسباب الهجوم وتفاصيله للرأي العام، وجاء فيه أن هذا النادي الليلي ملك لأعضاء من المافيا، وأن ضيوفه من مجتمع الميم، ويقوم بتقديم مشروبات كحولية دون ترخيص، كما يسهل ممارسة أعمال تتنافى مع القانون.
وبررت تطور الأحداث بأنه عند معاينة المكان لإجراء تفتيش دوري، حدث شجار تطور إلى اشتباكات بين مجموعة من المثليين والشرطة. وعلى الجانب الآخر اتهم أفراد مجتمع الميم الشرطة بالعنصرية ومعاداة المثلية واستخدام القوة المفرطة.
في ذلك الوقت، لم تكن حقوق المثلية الجنسية مطروحة بشكل واسع في المجتمع الأمريكي، على العكس، كانت الأمور معقدة وتحدث في سرية شديدة، وحتى فترة قريبة كان من الممنوع على أي ناد أو بار تقديم مشروبات كحولية لأي مثلي، حتى عام 1966 حين ألغت بعض الولايات الأمريكية هذا القانون.
وعلى الرغم من أن واقعة ستون وول إن حدثت بعد 3 سنوات من إلغاء ذلك القانون، وبعد صراع طويل بين منظمات حقوق المثليين وهيئة المشروبات الكحولية الأمريكية، لم تكن لممارسات الشرطة مبررات قانونية. كان بإمكان الشرطة فرض الحجج المناسبة لمثل تلك المداهمات وقت الحاجة، كتقديم كحول من دون ترخيص، تعري، تسهيل دعارة، وغيرها، لكنها لم تفعل ذلك.
لكن هذا التضيق هو ما جعل المافيا تدرك حجم شريحة مجتمع الميم المتنامي منذ الخمسينات، وتوجه نظرها نحو الجانب الربحي في الموضوع.
استغلت المافيا القضية جيدًا، وبينما يتم منع المثليين من النوادي والبارات، قامت المافيا بتأسيس نواد ليلية وبارات خاصة بالمثليين، بتذكرة دخول تضمن حدًا أدنى لعائد ثابت، إلى جانب الأموال التي ينفقها المثليون في استهلاك المشروبات والنشاطات داخل النوادي، وقامت بالعمل سرًا دون ضجيج، مع رشوة أفراد الشرطة والهيئات التي تشرف على النوادي.
وعلى مدار سنوات، وقع مجتمع الميم تحت استغلال المافيا التي ابتزتهم وهددت بفضح حياتهم الجنسية عند الحاجة. وفي الوقت نفسه، سارت الأمور التجارية بشكل ممتاز، إلى أن اتخذت الأمور منحى آخر مع هجوم الشرطة على نادي ستون وول.
أخرجت الاشتباكات القضية من سطوة استغلال المافيا حين نشأت حركة ستون وول، وخرجت مسيرات تأييد حقوق مجتمع الميم، وتكررت كل عام في ذكرى يوم الاعتداءات تحت شعار تحرير شارع كريستوفر، وهو الشارع الذي يقع به النادي.
سميت المسيرات بعد ذلك بمسيرات الفخر الأمريكية، وتعد نقطة فاصلة في الصراع بين مجتمع الميم والقوى الرجعية. وفى الوقت الحالى تنتشر مسيرات الفخر حول العالم.
لم تكن أحداث تحرير شارع كريستوفر نقطة فارقة في تاريخ حقوق مجتمع الميم فقط، بل أيضًا لأصحاب رأس المال والشركات الكبرى، فالكل لاحظ الربح الذي حققته المافيا جرّاء تقديم خدمات ومنتجات لتلك الشريحة، التي اتضح أنها قوة شرائية يعتد بها.
دعاية مستترة
مع بداية السبعينات، وخلال النصف الأول من ثمانينات القرن الماضي، لم يكن هناك تمثيل واضح لمجتمع الميم في الإعلانات التجارية على اعتبارها قضية حساسة. ومع ذلك، تمكنت بعض الشركات من التغلب على ممارسات اضطهاد المثلية من خلال اللغة المشفرة والرسائل الدقيقة الموجهة في إعلاناتها التي تدعم مجتمع الميم وتروج له.
تلك الإعلانات لم تكن تليفزيونية، إنما مطبوعة توزع باليد أو من خلال إعلانات المجلات، مثل حملة شركة الكحول الشهيرة Absolut Vodka، التي كانت أول علامة تجارية تنشر إعلانات للمثليين على صفحات المجلات عام 1981.
ومع نهاية الثمانينات من القرن الماضي، أدت مجموعة من الدراسات والأبحاث واستطلاعات الرأي غير الدقيقة في الولايات المتحدة الأمريكية إلى ظهور أسطورة "ثراء المثليين"، وفيها قدر المسوقون إجمالي الدخل السنوي لمجتمع الميم بأكثر من 500 مليار دولار سنويًا.
ورغم أن الاستطلاعات لم تكن جيدة التمثيل والتحليل والنتائج، لكنها ساعدت في بدء دراسات جدية لحجم السوق الاستهلاكي لشريحة المثليين حول العالم، كما أدت أيضًا لظهور ما يمكن وصفه ببداية تاريخ الترويج لمجتمع الميم في الإعلانات التجارية.
قوة شرائية مستهدفة
في العام 1990 ظهرت حملة شركة سوبارو الأمريكية للسيارات وكانت حملة موجهة للمثليات، ثم ظهرت حملة شركة United Colors of Benetton الإيطالية في عام 1991.
لكن النقلة الأكبر حدثت في عام 1994 من خلال شركة أيكيا التي خرجت بأول إعلان تليفزيوني تجاري يعرض زوجين مثليين بشكل علني يتسوقان لشراء الأثاث من أحد الفروع في أمريكا، وبعدها قدمت شركة السيارات الشهيرة فولكس فاجن إعلان مشابه عام 1997.
زاد عدد الشركات التي تدعم مجتمع الميم في التسويق لمنتجاتها مع بداية القرن الـ21، خصوصًا بعد إلغاء كافة القوانين المعادية لمجتمع الميم بحلول عام 2003 في جميع الولايات الأمريكية، وشمل تمثيل واستهداف مجتمع الميم كل المنتجات والخدمات تقريبًا وأغلب العلامات التجارية العالمية.
في العقد الأخير، ظهرت عشرات الدراسات والأبحاث والمقالات التى تؤكد على أن العلامات التجارية التي تتمتع بشمولية أكبر في إعلاناتها التسويقية، وتضم أفراد من مجتمع الميم بتلك الإعلانات، تضمن زيادة المبيعات بدرجة تزيد عن غيرها من الشركات التي لا تشملهم، ووصلت نسبة تلك الزيادة في إحدى الدراسات إلى 40% تقريبًا.
وعلى الجانب الآخر، أظهرت إحصائيات حجم شريحة مجتمع الميم وقوته الشرائية. وفقا لمنظمة LGBT Capital، بلغ متوسط قوة الإنفاق السنوية العالمية لشريحة المستهلكين من مجتمع الميم حوالي 3 تريليون دولار كل عام، وكان المبلغ بالتحديد 3.9 تريليون دولار أمريكي عام 2019.
وقدر عدد الأفراد المنتمين لمجتمع الميم وتزيد أعمارهم عن 15 عامًا بحوالى 371 مليون شخص على مستوى العالم، وقدرت حجم الثروة الشخصية لهؤلاء بنحو 23 تريليون دولار أمريكي.
وتراوحت أعداد المشاركين في مسيرة الفخر بمدينة نيويورك وحدها بحوالي 2 مليون شخص عام 2016، وحوالي 5 مليون في مسيرة الفخر عام 2019، وهناك ولايات أمريكية ودول أخرى تحتفل بشهر الفخر سنويًا ويبلغ أعداد المشاركين فيه بالملايين.
كما تشير الأرقام أن تأثير إجمالي الناتج المحلي السياحي فقط لمجتمع الميم يتجاوز 1% من إجمالي الناتج المحلي لبعض البلدان السياحية مثل تايلاند والبرتغال واليونان وهونج كونج وغيرها.
ووفقًا لبيانات التعداد السكاني للحكومة الأمريكية عام 2021، يعد مجتمع الميم هو شريحة الأقليات الأسرع نموًا في الولايات المتحدة، بقوة شرائية قدرت بمبلغ 1.4 تريليون دولار داخل الولايات المتحدة الأمريكية فقط وفي عام واحد.
تلك الأرقام والإحصائيات كفيلة بأن تجعل أي شركة تسعى للتواجد في احتفالات مجتمع الميم، ومحاولة كسب ولائهم الشرائي واعتبارهم شريحة استهلاكية مستهدفة.
دعم أم استغلال
ما فعلته ديزنى مؤخرًا إذن ليس غريبًا، بل مألوفًا جدًا في عالم البيزنس والنظام الرأسمالي العالمي. ويمكن وصفه بمحاولة مغازلة القوة الشرائية لمجتمع معتبر، وسبقتها في إعلان دعم مجتمع الميم بشكل أكبر شركات ترفيهيه أخرى مثل نتفلكس ومارفل، التى أعلنت عام 2020 عن شروعها في إنتاج سلسلة أفلام أبطال خارقين مثليين.
وبالتالي، تؤكد الأرقام أن الشركات والعلامات التجارية العالمية، لا تخاطر بالأرباح حين تدعم قضايا حريات وتمثيل المثليين، وإن كنا لا نستطيع الجزم إذا ما كان هذا الدعم إيمانًا بحقوقهم، أم تستغل قضيتهم لهثًا وراء الربح.
في غضون ذلك، تحاول بعض الشركات إثبات إيمانها بدعم الاختلاف بدافع احترام حقوق الإنسان، مثل شركة ديزنى، التى ألغت الضمائر الجنسانية بين موظفيها، لا يوجد هناك سيدة أو سيد، فالجميع هناك حالمين، كما تقوم غيرها من الشركات مثل آبل وكوكاولا وغيرهم بتعيين موظفين من مجتمع الميم والذين يحرمون من فرص عمل كثيرة حتى وقتنا الحالى.
كما تتبرع بعض تلك الشركات مثل مايكروسوفت وايكيا وآبل للمنظمات المدافعة عن حقوق المثليين، لمساعدتها على مواصلة كفاحها ضد القوانين والعراقيل الاجتماعية التي تضطهدهم وتقديم المساعدات عند الحاجة للأفراد.
وتساعد الشركات نفسها على الجانب السياسي من خلال الضغط المباشر على المشرعين لمحاولة تغيير القوانين كما يحدث الآن من شركة ديزني مع مشرعي ولاية كاليفورنيا لوقف قانون (لا تقل مثلي). ولا يجب إهمال أثر تلك الحملات من دعم حقيقي لأقلية مجتمع الميم التى تتعرض للاضطهاد، ومساهمتها في تغيير نظرة المجتمع لهم وتقبلهم دون شروط.
يتزايد إعلان المثليين عن أنفسهم في العالم كل يوم، وتتزايد نسبة الدعم والتعاطف معهم عامًا بعد عام، وهو ما جعلهم شريحة لا يمكن إغفال قوتها على الجانب السياسي والاقتصادي، لكن الصراع لازال طويلًا وممتدًا، حتى تتغير الأفكار تجاههم وتتلاشى الكراهية، ويعيشون جميعًا بلا خوف أو سرية.