"تحققت العدالة"، عبارة يرددها كل رئيس أمريكي، على مدى عشرين سنة منذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001، انتقامًا ممن ساهموا في هجمات ذلك اليوم!
حين بدأ بوش الابن قولها في حربه على أفغانستان والعراق، مستعيرًا لغة الكاوبوي في السينما الأمريكية، كانت حماسية ومتسقة آنذاك مع عمليات التعبئة ومشاهد الحرب وتحركات الحشود العسكرية، وحزن أسر الضحايا في نيويورك وواشنطن على قتلاهم ومصابيهم.
لكن حين قالها جو بايدن، الرئيس #46 في التاريخ الأمريكي، ورابع رئيس أمريكي منذ أحداث 11 سبتمبر التي بهتت مشاهدها في الذاكرة وحل محلها مشاهد هرولة من تبقى من الجنود الأمريكيين في أفغانستان، بدا إعلان بايدن عن قتل أيمن الظواهري، خليفة زعيم القاعدة أسامة بن لادن، وكأنه يمثل شخصية دون كيشوت الذي جاء متأخرًا فلم يجد ما يحاربه كفارس إلا طواحين الهواء!
يبدو المشهد باهتًا وفاترًا لو جردناهما من ألقابهما، ومن صفتي القاتل والمقتول: رجل مسن في التاسعة والسبعين من عمره يعلن من شرفة البيت الأبيض، لعدم اكتمال تعافيه من الكورونا، تنفيذ قراره بقتل رجل مسن في الحادية والسبعين من عمره، بينما كان المقتول في بلكونته بالعاصمة كابول.
اهتم بايدن بأربع نقاط في حديثه عن عملية قتل الظواهري، وكأنه يميز أسلوب إدارته في القتل عن بُعد باستخدام الدرونز (الطائرات المُسيّرة) المحملة بصواريخ "نار جهنم" عن الإدارات السابقة التي سبق واستخدمت نفس الدرونز والصواريخ في عمليات اغتيال بموجب قرارات رئاسية منذ عام 2001. تمثلت نقاط بايدن الأربعة في شخصية المقتول، ومكان القتل، وعدم وجود جنود أمريكيين على الأرض، والأهم عدم المساس بالمدنيين هذه المرة!
المقتول عمدًا مع سبق الإصرار والترصد هذه المرة هو زعيم القاعدة ورجلها الثاني. وحين كان بايدن الرجل الثاني في إدارة أوباما، قَتل الرجل الأول في البيت الأبيض، آنذاك أوباما، الرجل الأول في القاعدة أسامة بن لادن، ولكن بعد القبض عليه في منزل بباكستان في مايو/أيار 2011، أي "كل برغوث على قد دمه"!
كان بيد أوباما أن يعتقل بن لادن، الذي فتح عينيه ليجد فرقة كوماندوز فوق رأسه، ويستجوبه ويحاكمه، كما فعل بوش مع صدام حسين أو مع خالد شيخ محمد من تنظيم القاعدة، ولكنه قرر قتل بن لادن وهو أسير وإلقاء جثته في المحيط، حتى لا يصبح قبره مزارًا!
أما المكان بالنسبة لبايدن، فيقتصر نطاق المعركة ضد القاعدة على أفغانستان وباكستان. وإن أثار ذلك مشكلة أخرى مع معارضيه الجمهوريين: كيف تخرج بجنودك من أفغانستان وتقول الحرب انتهت وها هي طالبان تعيد استضافة زعيم القاعدة في العاصمة ليقيم مع أسرته على بُعد بضعة كيلومترات من السفارة الأمريكية؟!
يتفاخر بايدن بأن المهمة تحققت دون جنود أمريكيين على الأرض، ودون تعريض حياة أمريكي واحد للخطر، فلماذا نُبقي على جنودنا هناك، بينما يُمكن لطائرات قناصة المخابرات تنفيذ الاغتيالات عن بعد وبدقة بالغة!
والأهم في نقاط بايدن الأربعة، هو إتمام العملية دون مقتل أو إصابة مدنيين! بل إن المخابرات رصدت مكان إقامة الظواهري منذ عدة أشهر، وانتظروا عليه حتى يبتعد عن عائلته داخل المسكن، فاغتالته بمجرد خروجه للبلكونة وحده.
طبعا المقارنة مهمة، لأن آخر عملية قتل عن بعد بالدرونز في العاصمة الأفغانية كانت يوم 29 أغسطس/ آب من العام الماضي ونجم عنها مقتل عشرة مدنيين، منهم سبعة أطفال. وسمحت الإدارة وقتها بنشر فيديو العملية لصحيفة نيويورك تايمز، لأول مرة باستخدام قانون حرية الحصول على المعلومات، لتوضيح أن تصوير الهدف كان مشوشًا ولم يوضح مدنيين في الصورة عند إطلاق الصواريخ!
في يوم تنصيب بايدن، أصدر مستشاره للأمن القومي جيك سوليفان قرارًا بالحد من السلطات المفتوحة التي سبق وأعطتها إدارة ترامب للبنتاجون والمخابرات في عمليات القتل عن بعد لمن تصنفهم أي جهة أمنية رسمية كإرهابيين، دون الاكتراث بالمدنيين من عائلاتهم أو المحيطين بهم وقت الضربة الصاروخية.
لكن هذا القرار لم يمنع استخدام السلطات الممنوحة منذ الحادي عشر من سبتمبر، في تعقب وقتل قاتلي الأمريكيين. بل كانت المعضلة بالنسبة للديمقراطيين بعد رحيل بوش الابن، هي ازدياد استخدامهم للقتل عن بعد عوضًا عن إبقاء جنودهم في الخارج.
بالتالي، في ثماني سنوات من عهد بوش، تم تنفيذ حوالي خمسين عملية قتل عن بعد بالدرونز لمن وصفوا بإرهابيين. بينما في عهد أوباما، وصلت عمليات القتل في سنواته الثماني إلى خمسمئة عملية، أي عشرة أضعاف بوش، ووصل عدد الضحايا من المدنيين نحو 470 لا علاقة لهم بالشخص المستهدف، و12% منهم من الأطفال. وهو ما واصله ترامب في عهده، لتعوضه تلك الاغتيالات عن بُعد عن سحب جنوده من الخارج، مع فارق إعطائه تصريحًا بعدم التريث في القتل لوجود مدنيين، لأنه اعتبر تلك العائلات تساهم في معيشة "الإرهابيين"، وبالتالي هم شركاء!
يجد الرؤساء الأمريكيون أنه من الأسهل تنفيذ الاغتيالات عن بعد مثل الظواهري، أو عن قرب مثل ابن لادن، بعيدًا عن العدالة التقليدية مكتفين بعدالة الغابة!
كان ما أوقفه أوباما هو التعذيب. بمجرد تنصيبه، وقع قرارًا بوقف كل عمليات التعذيب التي كانت إدارة بوش ونائبه تشيني تسمح بها في السجون السرية للمخابرات الأمريكية، وسجن جوانتانامو، وسجون الدول الصديقة التي ترسل لهم أمريكا المشتبه فيهم لتعذيبهم، مثل مصر والأردن وبولندا.
ومع ذلك لم يُقدّم من اُعتقلوا لمحاكمة عادلة أو غير عادلة. ومثال ذلك، مُخطط هجمات سبتمبر الباكستاني خالد شيخ محمد، الذي شهد ويلات التعذيب في سجون بولندا وغيرها، ومازال معتقلًا حتى الآن في جوانتانامو، تم تفنيد اعترافاته باعتبار جزء منها غير سليم والآخر باطل لأنه اُنتزع بالتعذيب. ومن هنا، يجد الرؤساء الأمريكيون أنه من الأسهل تنفيذ الاغتيالات عن بعد مثل الظواهري، أو عن قرب مثل ابن لادن، بعيدًا عن العدالة التقليدية مكتفين بعدالة الغابة!
وعلى الرغم من محاولاتها، لم تتمكن جماعات حقوق الإنسان ولا جمعيات الدفاع عن الحريات الأمريكية حتى الآن من سحب رخصة الإغتيالات المعطاة للرؤساء الأمريكيين ضد من يصنفونهم كإرهابيين. حتى وإن كان الشخص مواطنًا أمريكيًا، لا يسمح القانون بانتهاك حقوقه الدستورية ويجب مثوله لمحاكمة عادلة حتى ولو كان على أرض غير أمريكية، إلا أن المصنف "إرهابيا" مسلمًا لا يأمن بجواز سفره الأمريكي ووثيقة ميلاده على أرض الأحلام.
مثل اليمني الأمريكي أنور العولقي، المولود بأمريكا عام 1971، والمعروف بخطبه الجهادية الحماسية، وضعه أوباما على قائمة المستهدفين بالقتل بدلًا من مطالبة اليمن بتسليمه، ورفض القضاء الأمريكي دعوى والده د. ناصر العولقي (1941-2021) والرئيس السابق لجامعة صنعاء، برفع ابنه من تلك القائمة لحقه الدستوري في محاكمة عادلة، لكن دون جدوى.
قُتل ابنه بعد عام من رفع الدعوى القضائية بصاروخ "نار جهنم" في 30 سبتمبر 2011 باليمن، وبعد ثلاثة أيام فقط قُتل ابنه عبدالله بصاروخ آخر عن بعد!
لكن، هل يمكن التفرقة بين الأهداف الأمريكية بالقتل عن بعد بالدرونز ضد إرهابييهم وتلك التي كان ينفذها الحوثيون في اليمن ضد خصومهم؟!
الإجابة تكمن في الجدل حول سلطة القانون وقانون السلطة.. ولهذا حديث آخر!