عندما أقر َّ أقل من 30% من الناخبين التونسيين مؤخرًا دستورًا جديدًا يكرس نظامًا رئاسيًا سلطويًا، بدا كما لو أن التجربة الديمقراطية التونسية التي أشعلت شرارة الانتفاضات والاحتجاجات في المنطقة منذ 11 عامًا وصلت محطتها الأخيرة، وأنجزت دورة كاملة. هذا، في اعتقادي، تحليل خاطئ، ويجب النظر إلى تقلبات السياسة والحكم في تونس، والتعلم منها، لأنها تُقدم عدّة دروس لما يمكن وينبغي القيام به من أجل بناء أنظمة تعبّر عن شعوب دول المنطقة وتحقق أكبر قدر ممكن من تطلعاتها.
وصل الرئيس قيس سعيد للحكم في تونس بعد إخفاق التحول السياسي المضطرب في تحقيق آمال وتطلعات معظم الشعب التونسي. ركز هذا التحول على الديمقراطية السياسية بينما تجاهل القائمون عليه، عجزًا إو رغبة، إنجاز التحولات الاقتصادية التي كان غيابها وراء تصاعد السخط العام من المهمشين ماديًا في أنحاء البلاد، وخاصة في مناطق الداخل.
عجز اليسار التونسي، الضعيف بدايةً، عن اقتراح تحول اقتصادي ممكن، أو إقناع أغلبية القوى السياسية به. بينما لم يفكر الإسلاميون، وخاصة حزب النهضة المؤثر في الحياة السياسية، في اجتراح أي خطط اقتصادية تعيد الأمل لأغلبية الشعب الذي عانى بشدة من تزايد البطالة وتدني الخدمات الصحية والتعليمية وبات بعضه، أحيانًا عن حق، يفتقد ما بات يُنظر إليه توهمًا على أنه عقود استقرار في ظل الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي.
لم ترغب النخب الاقتصادية والبيروقراطية المهيمنة في دفع الثمن الكبير المستحق للتحولات المطلوبة متوهمة بدورها أنه يمكنها استعادة "الاستقرار" والحياة "الطبيعية" عن طريق فتح المشاركة في السلطة دون أي عمل جدي على إعادة تقسيم الثروة.
الشعب لم يكن يريد إسقاط النظام سياسيًا فحسب، بل اقتصاديًا أيضًا
وهكذا، حصلت تونس حقًا على حريات سياسية غير مسبوقة في تاريخها الحديث، ولكن دون تحقيق أحلام وآمال الأغلبية في تأمين حياة وفرص عمل أفضل، إذ لم تغير النخبة الحاكمة للبلاد، والتي اتسعت كثيرًا في السنوات العشر الماضية، النظام الاقتصادي البتة.
وهذا هو الدرس الأول الذي يجب أن تتعلمه دول المنطقة وما وراءها من تونس: أن الشعب لم يكن يريد إسقاط النظام سياسيًا فحسب، بل اقتصاديًا أيضًا. غير أنه لم تتولد أي تصورات واضحة، ولم تعمل أي قوى مؤثرة من أجل إنجاز هذا التحول في مواجهة خطط ومصالح قوية لاستعادة النظام القديم في ثياب جديدة.
ولا يعني هذا أن التحدي الاقتصادي العميق سهل ويمكن التغلب عليه خلال سنوات قليلة، لأن المشاكل مزمنة وهي ليست تعبيرًا عن خيارات سياسية واجتماعية وداخلية في تونس فقط بل عن نظام اقتصادي عالمي يجعل من الصعب للغاية على بُلدان مثل تونس إعادة توزيع الثروة والموارد فيها بصورة أكثر عدالة.
وعلى سبيل المثال، تواجه تونس، مثل مصر ومعظم بلدان المنطقة، ديونًا خارجية وداخلية ضخمة تثقل كاهل موازناتها السنوية، وجهاز دولة ضخم ومترهل، ومؤسسات أمنية وعسكرية باهظة التكاليف. وأي محاولة للتغيير ستصطدم بقسوة بمصالح هذه الفئات والمؤسسات داخل وخارج البلاد. وهكذا تُفضل النخب المهيمنة داخل تونس وخارجها مواصلة قذف الكرة للأمام, ومنح المريض فترة أطول في العناية المركزة عجزًا عن علاجه أو انعدامًا للرغبة في ذلك.
كان فشل النظام الاقتصادي "التنموي"، الذي تدافع عنه مؤسسات التمويل الدولية مثل صندوق النقد والبنك الدوليين، بين أهم أسباب انهيار نظام بن علي الأمني، لأنه كان يعمق الفوارق الهائلة في الثروة والقدرة المادية لمصلحة أقلية تعيش عادة في مناطق الساحل والشمال التونسي على حساب، أو عن طريق إهمال، الأغلبية الفقيرة والمهمشة التي تعيش في بقية البلاد.
وليست تونس بالمثال الفريد، فمثلها مثل معظم دول الجنوب منذ السبعينيات رهينة وضع حديدي يفرضه النظام الاقتصادي العالمي الرأسمالي: تصدير منتجات زراعية أو مواد خام بأسعار مقبولة للخارج وبيع خدمات متدنية القيمة المضافة مثل السياحة مقابل استيراد المنتجات المصنعة وبخاصة تلك المتعلقة بالتكنولوجيا.
وبين ما يحصل عليه أي بلد من الصادرات، وما يضطر لإنفاقه على الواردات والطاقة، هناك فجوة كبيرة تسدها الديون، التي باتت دول كثيرة تلجأ إليها كحل مستدام لتغطية الفجوة المستمرة بين الصادرات والواردات، وسداد أقساط الديون القديمة وفوائدها أيضًا.
مشاكل دول عالم الجنوب مرتبطة بالنظام الاقتصادي العالمي ويتطلب حلها تغيرات في ذلك النظام
وكانت أمام تونس فرصة لم تنتهزها لتصر على إسقاط ديون نظام بن علي بعد سقوطه، وربما لم تفعل هذا خشية إغضاب الدائنين الأوروبيين، وهم حلفاء سياسيون بشكل أو آخر للطبقة السياسية التونسية.
وهذا هو الدرس الثاني الذي تقدمه لنا تونس: مشاكل دول المنطقة وما يشبهها في عالم الجنوب، بل وأحيانًا في الشمال مثلما أظهرت لنا اليونان منذ عدة سنوات، مرتبطة بالنظام الاقتصادي العالمي، ويتطلب حلها تضافرًا دوليًا وتغيرات في ذلك النظام.
ولكن هذا التعميم لا ينبغي أن يغطي على خصوصيات لكل دولة يجب أخذها في الحسبان. الخصوصية الأهم في حالة تونس هي الفوارق الهائلة والتاريخية بين الساحل والداخل، والتي قد يحتاج تذويب بعضها أو تقليلها لتدخلات ثورية مرتفعة التكلفة، غير مؤكدة النتائج.
في حالة مصر، مثلًا، فهذه الخصوصية تعني دور المؤسسة العسكرية المتشعب في إدارة شؤون البلاد، وكيف يمكن أن ينحسر من أجل التركيز على وظائف المؤسسة الأمنية دون التدخل في إدارة الاقتصاد والمجتمع، بل وسياسات الصحة والتعليم.
أما الدرس الثالث الذي تقدمه تونس، وتشترك فيه مع مصر وغيرها فهو الفشل المريع للإسلاميين، الجهاديين منهم والإخوان، في عالم السياسة. وهو الفشل الذي يدفعون هم أنفسهم له ثمنًا باهظًا ويشاركهم في تحمله معظم شعوب بلادهم. والأمل أن يستفيد الإسلاميون الإصلاحيون من هذا الدرس في إعادة النظر في منطلقات عملهم السياسي الهويّاتي، وتقديم حلول اقتصادية واجتماعية قد تستلهم قيمًا معينة تُعبر عن الإسلام كما يرونه، ولكنها تشتبك بجدية ونجاعة مع التحديات الحقيقية، ولا تعيد إنتاج نظم بن علي ومبارك اقتصاديًا.
ووصل قصر النظر السياسي عند حركة النهضة إلى حد مزرٍ منذ عدة أعوام عندما دعا رئيس مجلس شورى الحركة لدفع تعويضات مالية كبيرة لضحايا الاستبداد في سنوات حكم بن علي. وتصاعدت الانتقادات المحقة ضد الحركة تتهمها بتقديم رُشى سياسية لمؤيديها، بل وانتقد زعماء من داخل الحركة توقيت الدعوة، فيما تواجه البلاد أزمة اقتصادية طاحنة وارتفاع أعداد ضحايا كورونا.
الدرس الرابع أن تونس لا تختلف في الحلم بمجيء المستبد العادل والمخلّص، كما يقدم سعيد، الرئيس المُغرم بالخطابة، نفسه لشعبه، عن دول عدّة، من الولايات المتحدة حتى البرازيل، والفليبين، ومصر. يأتي الرجل القوي المسيطر عبر انتخابات ديموقراطية شكلية يمضي بعدها في محاولات، تنجح حينًا وتفشل أحيانًا، من أجل تكريس حكم سلطوي فردي، ثم يقدم نفسه بصفته المَخرج من إشكاليات سياسية واقتصادية مستعصية، والسد الحائل بين النظام والفوضى، وهو أمر يؤجل الغضب الشعبي المتأجج ولكنه لا يعالج أسبابه، بل يعمقها أحيانًا عن طريق خيارات سياسية واقتصادية محكومة بالفشل، لا يراجع الزعيم الملهم فيها أحد.
الدرس الخامس، أن وجود قوى سياسية متعددة هي أفضل كثيرًا من تصحير الحياة السياسية، فرغم كل ما يجري في تونس ما زالت هناك قوى نقابية قوية، يمثلها في معظمها الاتحاد العام للشغل، وإن كانت هناك تنظيمات جهوية ومناطقية وفئوية عدة. وهناك مشاركة حقيقية للمرأة في الحياة العامة تفوق بكثير أيٍ من دول المنطقة. وربما لهذا السبب، وبسبب عدم بروز دور علني أكبر للمؤسسات العسكرية والأمنية، فما زال هناك أمل أن تقدم لنا تونس درسًا أخيرًا وتستطيع اجتراح حلولًا سياسية توافقية تسمح لها بنهاية سريعة لتجربة المستبد العادل المحكوم عليها بالفشل، طال الأمد أم قصر.
ما زال من الممكن، رغم الصعوبات الهائلة، أن تلهمنا تونس مجددًا، وتعيد فتح مجالات للمساومات يدعمها المجتمع الدولي، فرنسا والولايات المتحدة والجزائر تحديدًا، مما قد يضع البلد على مسار سياسي واقتصادي جديد يصبح مثالًا للدول الأخرى كما كانت تونس من قبل.
دون هذا فإن الرئيس سعيد لن يستمر طويلًا في السلطة، وسيسقط مع احتجاجات قادمة متوقعة، ليحل محله ممثل آخر لتلك القوى الاجتماعية والأمنية العميقة الساعية للحفاظ على الوضع الحالي والعاجزة عن انجاز تحول حقيقي.