لا أحد يستقيل في مصر رغم أن هذا الشهر كان شهر الاستقالات في العالم، ففي بدايته استقال رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون على خلفية أزمة بلاده الاقتصادية بسبب الحرب الروسية الأوكرانية، وبعدها بنحو أسبوعين لحق به رئيس الوزراء الإيطالي ماريو دراجي بعد أزمة سياسية واقتصادية تعيشها بلاده منذ عدة أشهر.
ولكن هل هناك مسؤول يستقيل في مصر؟
التاريخ القريب يشهد على تراجع ثقافة الاستقالة حتى كادت تتلاشى. لا مسؤول ولا نائب ولا وزير ولا محافظ ولا حتى مدير يمتلك شجاعة الاستقالة مهما كانت الأخطاء وتعددت الكوارث.
سببان هما الأهم في تقديري لغياب ثقافة الاستقالة، أحدهما يرتبط وثيقًا بطبيعة النظام السياسي وتركيبته الداخلية، والآخر يرتبط بثقافة المسؤول نفسه وطبيعة تعامله مع المنصب العام.
في كل النظم الاستبدادية التي تقوم على حكم الفرد الواحد الأحد ليس مسموحًا للمسؤول أن يستقيل، المسؤول يُقال لكنه لا يقرر الرحيل بإرادته. فالسلطة المستبدة تعتبر أن المسؤول سواء كان وزيرًا أو رئيس وزراء أو محافظًا فهو في منصبه لأن الرئيس الملهم صاحب الرؤية الثاقبة والنظرة الحكيمة عينه في هذا المنصب، بالتالي فاستقالته هنا تعد تحديًا لقرار الزعيم وقد يصل الأمر في بعض الأحيان إلى اتهامه بالخيانة والتآمر على نظام الحكم بأكمله.
في تاريخ مصر الحديث واقعة شهيرة تكشف طبيعة التعامل مع من يفكر في تحدي السلطة بالاستقالة، ففي عام 1977 استقال وزير الخارجية إسماعيل فهمي من منصبه احتجاجًا على زيارة السادات للقدس.
ورغم قبول السادات للاستقالة إلا أنها أغضبته. وعلى أثرها واجه فهمي اتهامات بالتمرد والتآمر، ونُظمت حملات سياسية للنيل منه تتهمه بكل نقيصة، بل إن اسم الرجل كان مدرجًا على قائمة اعتقالات سبتمبر الشهيرة عام 1981 حتى حذفه السادات بنفسه بعد إعادة تفكير.
في مصر، كما كل الأنظمة الاستبدادية والديكتاتورية، لا يُسمح للمسؤول بالاستقالة مهما كان حجم الكوارث. الرئيس فقط هو المسموح له بإقالة المسؤول، وإن حاولت السلطة تجميل وجه هذا الأخير بتسمية إقالته "استقالة".
أقرب الإقالات المُسمّاه بالاستقالة تقدم بها وزير الإعلام السابق أسامه هيكل، بعد أن تحدث عن تحول الإعلام المصري إلى "صوت واحد" وطالب بمساحة أوسع للحريات الإعلامية تمكّنه من منافسة الإعلام الأجنبي، ليواجه الرجل حملات حادة بدأت باتهامات بالفشل ولم تنتهِ بتسريبات مكالمات هاتفية.
إقالات مقَنّعة
تاريخيًا كانت الإقالة بمسمى الاستقالة حاضرة وبقوة، حدث هذا الأمر في عهد الرئيس السابق حسني مبارك أكثر من مرة. ففي عام 2009 وعلى خلفية حادث قطار العياط الشهير الذي راح ضحيته 18 مواطنًا قرر مبارك إقالة وزير النقل المهندس محمد منصور.
تقدم الرجل باستقالته مدفوعًا بطلب من السلطة، ثم خرجت وسائل الإعلام كلها لتؤكد أن الرئيس مبارك قبل استقالة منصور وكلف رئيس الوزراء أحمد نظيف باختيار وزير جديد للنقل والمواصلات.
قبلها بسبعة أعوام فقط، في 2002، كان مبارك يطلب من وزير النقل والمواصلات إبراهيم الدميري تقديم استقالته على خلفية حادثة قطار الصعيد المؤلمة، التي راح ضحيتها أكثر من 300 مواطن حرقًا. وقتها أعلنت السلطة القائمة أن الدميري هو من تقدم باستقالته رغم أن حقيقة ما حدث هو أن الرجل تعرض للإقالة ولم يبادر بنفسه بتقديم الاستقالة إلا بعد طلب الرئيس.
ارتباط الاستبداد والانغلاق بغياب ثقافة الاستقالة واضح كالشمس. ففي أعقاب ثورة يناير، شهدت مصر انفتاحًا سياسيًا ومساحةً من الحرية، لتظهر الاستقالة كتعبير عن موقف سياسي
.. أو أثمان باهظة
في المرات القليلة التي أصر فيها المسؤولون على تقديم استقالاتهم ومقاطعة الرئيس كانت الأثمان باهظة بدرجة غير معقولة أبرزها ما دفعه رجال عبد الناصر الذين رفضوا العمل مع السادات. ففي شهر مايو/ أيار 1971 تقدم عدد كبير من المسؤولين باستقالات جماعية للسادات، كان من بينهم الفريق محمد فوزي، وسامي شرف، وشعراوي جمعة، وضياء الدين داود، وعلي صبري، وغيرهم من رموز دولة جمال عبد الناصر.
قرر هؤلاء وقتها أنهم لن يستطيعوا العمل في ظل سياسات السادات التي رأوها انقلابًا على تجربة جمال عبد الناصر. وبعد أن وافق السادات على الاستقالات اتهمهم جميعًا بالتآمر على نظام الحكم، وقدّمهم لمحاكمات قضائية، وصدرت ضدهم أحكام قاسية وصلت أن قضي بعضهم في السجن عشر سنوات.
لا يغيب نفس المعنى عن كل دول الاستبداد: الاستقالة تآمر وتمرد. أنت كمسؤول لا تملك حرية اتخاذ القرار، فإرادتك مرهونة عند الزعيم الملهم.
الاستقالات البيّنة
ارتباط الاستبداد والانغلاق بغياب ثقافة الاستقالة واضح كالشمس. ففي أعقاب ثورة يناير، شهدت مصر انفتاحًا سياسيًا ومساحةً من الحرية، لتظهر الاستقالة كتعبير عن موقف سياسي.
بدأت باستقالة الفريق أحمد شفيق من منصبه كرئيس للوزراء ظهور تلفزيوني توّج هجومًا حادًا تعرض له من قوى الثورة التي كانت تذكّر بأنه يمثل النظام القديم. بعدها تقدم سلفه عصام شرف أول رئيس وزراء بعد الثورة باستقالته بعد تعرضه لانتقادات شديدة من "ثوار الميدان" والقوى السياسية متهمينه بعدم القدرة على تحقيق أهداف الثورة.
نفس المرحلة أيضًا شهدت استقالة العشرات من أعضاء لجنة كتابة الدستور وقت حكم الإخوان المسلمين احتجاجًا على ما اعتبروه محاولات من الإخوان للسيطرة على اللجنة والانفراد بصياغة مواد الدستور. ثم الاستقالة الأشهر للدكتور محمد البرادعي من منصبه كنائب لرئيس الجمهورية في أعقاب فض اعتصام رابعة العدوية الذي وصف بالمذبحة بسبب ارتفاع عدد الضحايا.
في غياب الاستبداد تحضر حرية الإرادة، ويستشعر المسؤولون المسؤولية وتبعاتها.
وأسباب أخرى
على الجانب الآخر، ليست السلطة المستبدة مسؤولة وحدها عن تغييب فكرة الاستقالة، فهناك ثقافة تشكلت على مدار سنوات طويلة تعتبر أن المنصب العام ملك لصاحبه، وأن "الكرسي"، أهم من البلاد والعباد. فليس هناك مسؤول يشعر بفشله في حل الأزمات، أو يدرك تراجع مستوى مؤسسته، أو تذمر المواطنين من إدارته للأزمات، بل غابت أيضًا ثقافة الاستقالة كاحتجاج سياسي، فلا أحد يستقيل ويترك "الكرسي" أبدًا مهما حدث.
جدل واسع شهدته مصر خلال السنوات الفائتة حول قضيتين مهمتين: أولهما التفريط في جزيرتي تيران وصنافير المصريتين وتسليمهما إلى السعودية رغم الحكم القضائي النهائي بمصرية الجزيرتين، ومع ذلك لم يتقدم مسؤول واحد باستقالته احتجاجًا على الاتفاقية، ورغم أن تهديدات صدرت من بعض نواب البرلمان وقتها بتقديم استقالات جماعية إذا مرر المجلس الاتفاقية، ولكنَّ شيئًا لم يحدث. مر الأمر دون أن يستقيل أحد.
نفس الجدل الواسع والغضب الكبير شهدته مصر في أعقاب تعديلات دستورية جدلية واستبدادية جرت في عام 2019، ومع ذلك لم يتقدم نائب أو مسؤول واحد باستقالته رفضًا للعبث بالدستور أو حفاظًا على إرادة الشعب الذي أقسم جميع المسؤولين، في السلطتين التنفيذية والتشريعية، على احترامه.
أضف إلى ذلك أزمة "اللوحات المسروقة" في مترو الأنفاق مؤخرًا وكيف لم تدفع وزير النقل اللواء كامل الوزير إلى التفكير حتى في الاستقالة من منصبه.
غابت ثقافة الاستقالة تمامًا عن مصر، فلا أحد يستقيل أو يفكر في الاستقالة، وتبدو الكارثة أكبر وأعمق إذا ما عرفنا أن تمسك المسؤول بمقعده يتوازى مع غياب ثقافة المحاسبة والمساءلة وانتشار ثقافة التعيين في مصر. فلا انتخابات جادة تحمل مسؤول إلى مقعده ولا إرادة حرّة تدفعه إلى تحمّل مسؤولياته السياسية بتركه.