في مارس/ آذار 2022 أعدتُ قراءة ثلاثية نجيب محفوظ بين القصرين وقصر الشوق والسكرية، قراءة جديدة أثبتت براءة قراءتي الأولى قبل 35 سنة. آنذاك، لم تمتد يدي لكتابة كلمة في هامش، ولم أضع خطًا تحت جملة، في طبعة مكتبة مصر. لا أعرف متى صار القلم ضرورة؛ لتتبع مصير شخصية، أو الرجوع إلى بذرة زرعها الكاتب الماكر، وتركها تنبت، وتثمر بعد مئات الصفحات.
كما كنت أظن قصص همس الجنون أول إصدارات محفوظ؛ لإصرار الناشر سعيد جودة السحار على توثيق تاريخ نشرها عام 1938. وفي المجموعة قصص عن آثار الحرب العالمية الثانية. وأحسنت دار الشروق بنشرها تراث محفوظ حسب التاريخ الحقيقي للنشر.
باستثناء ترجمته لكتاب جيمس بيكي مصر القديمة، صدر المنجز الإبداعي المحفوظي، 55 عملًا، في عشرة مجلدات كبيرة القطع. ترتيب الأعمال، حسب التواريخ الأولى لنشرها، يضع القارئ والباحث أمام التطور الفني للكاتب، بدءًا من إيمانه بإعادة كتابة تاريخ مصر القديمة روائيًا عبث الأقدار، رادوبيس، كفاح طيبة، مرورًا بنزعة الوعظ الأخلاقي في زقاق المدق، وصولًا إلى النضج الواثق في ثلاثية بين القصرين، قصر الشوق، السكرية التي تحتل أكبر المجلدات حجمًا، وأكثرها تجانسا.
صدرت الأعمال الكاملة نهاية العام الماضي، وقررتُ أن يكون 2022 عام نجيب محفوظ، بقراءة تصاعدية. مجلد كل شهر، واستأثر شهر مارس/آذار بالمجلد الثالث، الثلاثية.
النهج المحفوظي
لم يكن أسامة أنور عكاشة أول صائد لجملة من محفوظ عنوانًا لعمل فني. في يونيو 1983 كان مسلسل الشهد والدموع حدثًا جماهيريًا. وفي موجات الإشادة بالمسلسل، لم ينتبه الكثيرون إلى السطور الأولى في رواية ميرامار، في وصف الإسكندرية "قطر الندى، نفثة السحابة البيضاء، مهبط الشعاع المغسول بماء السماء، وقلب الذكريات المبللة بالشهد والدموع".
وفي أربعينيات القرن العشرين فعلها عبد الحميد جودة السحار بروايته في قافلة الزمان. ففي بداية كفاح طيبة تصوير لصعود السفينة "في النهر المقدس، ويشق مقدمها المتوج بصورة اللوتس الأمواج الهادئة الجليلة، يحث بعضها بعضًا منذ القدم كأنها حادثات الدهر في قافلة الزمان".
رواية السحار نبّهت محفوظ، وعلمته درسًا، فاتخذ قرارًا ألزم به نفسه. كان السحار، كما قال محفوظ لغالي شكري "ممن يميلون إلى الإخوان، فدعاني أكثر من مرة لمقابلة الشيخ حسن البنا ولكني رفضت الدعوة بكل إصرار".
وفي سبتمبر/أيلول 1945، بدأ محفوظ الإعداد للثلاثية. وقال في جلسة مع أصدقائه، ومنهم السحار، إنه يحتشد لكتابة رواية أجيال. وفوجئ عام 1947 بالسحار ينشر روايته في قافلة الزمان، وهي رواية أجيال. لم يعلّق على قنص السحار عنوانًا من سطور كفاح طيبة، وأحزنه أن يسارع صاحبه إلى تنفيذ فكرة رواية الأجيال. وأسرّها في نفسه، وفرض السرية على مشاريعه، لا يبوح بها لأحد حتى يقدمها للناشر.
صارت السرية نهجًا محفوظيًا، وكان يتجاهل تاريخ الانتهاء من الكتابة باستثناء رواية الكرنك. كتب في صفحتها الأخيرة، ديسمبر 1971، وفي السطر التالي "تمت". بدا التوثيق جزءا من متن الرواية، وإبراء لذمة الكاتب من شبهة الاتهام بالسير مع قطيع سوف يصطنعه السادات، لتشويه صورة عبد الناصر وتجربته، بحقائق وأكاذيب وأساطير أسهم في إشاعتها، بأنصبة غير متساوية، كل من الشيخ عبد الحميد كشك في خطب الجمعة، وقيادات تنظيم الإخوان بمجلة الدعوة، ومؤلفات وسير ذاتية أسقطها اختبار الزمن.
قال لغالي شكري إنه كتب الكرنك، قبل بدء الحملة على الناصرية "كنت أكتب بمعزل عن أي شيء سوى ضميري وما أقتنع به". الإبداع، بهذا المعنى، أخلاقي. الكاتب المشغول بالزمن يتجاوز أحداثًا يعلم أنها مدّ كاذب سينحسر.
نفى لغالي شكري في كتابه نجيب محفوظ من الجمالية إلى نوبل (1988) المشاركة في الحملات على عبد الناصر "في حياته كتبت ما أريد بكل ما أملك من أدوات التعبير. ولكن ماذا أفعل وقد فوجئت بعد شهور قليلة أن كتبًا تغزو السوق ضد الناصرية... أنت تذكرت حكاية الحب تحت المطر (1973)، وكيف كان لها ثلاثة أصول، لقد حذفوا الجزء الخاص بالجبهة كامًلا. وكدت أنا نفسي أحجم عن نشر الرواية في كتاب، لولا أن الناشر طالبني في هذه الحال بدفع أجرة المطبعة... الرواية المنشورة كأنها طائر كسير الجناح".
في الثلاثية قضية شائكة، وملاحظة تخص السيدة أمينة التي "لم تعترف لنفسها قط بحق الغضب". ظل صوتها واهنًا، ولم تقل "أنا"، في حوار مع أحد ولو ابنًا أو حفيدًا. كانت تلك "الأنا" وراء حجاب لا يزيله إلا حدث كوني في حجم وفاة زوجها.
وبموت السيد منحها المؤلف فصلًا كاملًا، جملة واحدة متصلة، مونولوجًا لرثاء سيدها، وعزاء نفسها بالبكاء. انطلق لسان السيدة فقالت "أنا" أربع مرات. هذا الدهاء دال على فلسفة محفوظ، وأنه ليس مجرد سارد للحكايات؛ فمتى توقف المقموعون عن الأنين؟ لكن الزوجة التي نسيت أناها عند موت ابنها فهمي، لم تستعد "الأنا" إلا بطيّ صفحة الرجل الرهيب.
الحب المحرم
أما المسكوت عنه في أدب نجيب محفوظ، وربما كان إبراهيم العريس أول ناقد عربي ينتبه إليه، فهو حب المحارم الذي يتعدي العلاقة الطبيعية إلى حدود الاشتهاء، في صمت، وبلا وعي أحيانًا. في الثلاثية طرفاه كمال وعائشة بنت السادسة عشرة، "عائشة التي تلوح وسط الأسرة كالرمز الجميل رواء وجاذبية وعدم فائدة".
وكان أخوها كمال الذي يناهز العاشرة يمر يوميًا بدكان ماتوسيان لبيع السجائر، ويتأمل إعلانًا ملونًا "يصور امرأة مضطجعة على ديوان وبين شفتيها القرمزيتين سيجارة يتطاير منها دخان متعرج.. وكان يدعوها فيما بينه وبين نفسه "أبلة عائشة" لما بين الاثنتين من شبه يتمثل في الشعر الذهبي والعينين الزرقاوين". الأخت جسدت الصورة.
بادل كمال عائشة "حبًا بحب حتى كان لا يشرب جرعة الماء من القلّة إلا إذا دعاها للشرب قبله ليضع شفتيه موضع شفتيها المبتل بريقها". أراد أن يسرّ إلى شقيقتيه بخطبة أخيه فهمي لمريم، فكيف تصرف؟ وثب إلى جانب خديجة ليخبرها، "فمدّ يده إلى جسم عائشة وهزه". وكانت عائشة تطيل النظر في المرآة معجبة بنفسها، وهي موضع إعجاب إخوتها الثلاثة. وفي عرسها سأل أمه "كيف تفرط في عائشة"، ويُحمل جهازها إلى بيت زوجها "الرجل الغريب ولحقت به عائشة التي لا يطيب له الرِّي إلا من موقع شفتيها".
هل يخرج إلحاح الراوي سلوك الصبي من دائرة البراءة؟ وفي الجزء الثاني قصر الشوق، يصير كمال شابًا، ويجول ببصره في وجوه عائلته "خاصة الوجه الأشقر الذي هام زمنًا باحتساء الماء من موضع شفتيه.. استرجع هذه الذكرى في حياء".
في ذلك الوقت هام بمعبودته عايدة شداد، ومن أجل الفوز بنظرة إليها يحج إلى حديقة القصر، ويقابل أخاها وصاحبيه. وهناك نظر إلى دورق الماء "فخطرت له خاطرة قديمة طالما منته بالسعادة في مثل ظرفه هذا، أن يملأ كوبًا ويشربه لعله يلمس بشفتيه موضعًا منه يكون قد اتفق أن لمسته شفتاها وهي تشرب مرة، فقام إلى المائدة، وملأ من الدورق كوبًا وشربه".
وفي الجزء الثالث السكرية يتحول كمال من متدين عنيف إلى ملحد عنيف، يشكّ حتى في الإلحاد. هو باعترافه "كافر فاسق سكير منافق"، "أبواب الحياة تغلق في وجهه وقد نبذ خارجها". وتتأكد له خيباته وفشله، فلا أصبح مؤلفًا، ولا تزوج، وسيموت من دون أن يترك أثرًا أو ذكرى.
ويتساءل الراوي "أثمة لعنة قديمة مجهولة قضي عليه بأن يكفر عنها" وقبل النهاية يجيب "ولعل ثمة خطأ في الماضي يكفر عنه". أما عائشة فمات ولداها وزوجها، وتعترف بأنها "صارت عبرة الأيام"، وتتعزى بابنتها نعيمة التي تموت أثناء الولادة. عاش الأخوان وحيدين، عاجزين، يائسين، تلاحقهما خطيئة مبكرة ربما تواطآ عليها، فانتهيا إلى العدم.
إبراهيم العريس التقط هذا الخيط، كما رصده في رواية الشحاذ. وناقش محفوظ، فأصغى صامتًا، وخلا وجهه من أي انفعال "سوى الفضول"، ما يشبه الاستغراب أو الاستنكار. فسأله العريس: ألا توافق على هذا التحليل؟ فابتسم ابتسامة غامضة وقال إن التأويل يملكه أصحابه "لكني أفضل ألا تنشره إلا بعد موتي، وبلغة غير العربية إذا أمكن.. إن علينا يا صديقي أن نراعي مستوى التطور الفكري للمجتمعات التي نعيش فيها".
وأضاف "تحليلك ليس جديدا كليا. فهناك على الأقل ناقد أمريكي كبير ـ قصد يومها روجر أوين كما أعتقد ـ وصل إلى ما يشبهه تمامًا، لكنه ـ بدوره ـ وعدني بألا يكتبه إلا بعد رحيلي".
لاعب السيرك
بقي القول إن محفوظ واحد من أبرز ضحايا لغة لم ينتبه العالم إلى ثراء وجهها الإبداعي إلا في الآونة الأخيرة. لو أنه كتب الثلاثية بالإنجليزية أو الفرنسية لنال جائزة نوبل قبل ثلاثين عامًا من حصوله عليها. الثلاثية عمل إنساني كبير، راسخ ينطوي على تأويلات لا تنتهي، وتكفي وحدها لمنح مؤلفها جائزة حصدها من هم دونه من المحظوظين بالكتابة بلغات يقرؤها أعضاء الأكاديمية السويدية مباشرة.
دليلي على هذا الاستحقاق أن تقرير فوز محفوظ بالجائزة، عام 1988، ذكر الثلاثية من بين أربعة أعمال ليس بينها ملحمة الحرافيش (1977)، إحدى الذرى المحفوظية؛ لأنها لم تكن قد ترجمت آنذاك.
بقي أيضًا القول إن أناقة طبعة دار الشروق تليق بمحفوظ. لكنها لا تخلو من أخطاء طباعية وتنسيقية. كنت كلما الْتبس عليّ معنى أراجع طبعة مكتبة مصر، إذ تستقل الجمل الحوارية بسطر أو سطور. وفي طبعة دار الشروق قد تلتحق بالحوار، في السطر نفسه، بداية فقرة سردية. وقد تسبق جملة سردية إشارة دالة على جملة حوارية.
وفي طبعة مكتبة مصر أخطاء لم تصوَّب "ووقف لحظات يتصنت". وتكررت سطور، وسقطت أخرى، كما في الفصل 42 من قصر الشوق باختفاء أغنية رددها أصدقاء العوامة "أما انت مش قد الخمرة/ بس تسكر ليه؟". على نغمة "أما انت مش قد الهوى/ بس تعشق ليه".
مجهدة القراءة حقًا حين تجعلك لاعب سيرك يتأرجح بين حبلين، تستعين بالطبعة القديمة ليستقيم المعنى في الطبعة الجديدة. فماذا أفعل وأنا أستقبل أولاد حارتنا من دون دليل؟ من حسن حظي أنني لم أفرط في نسخة مكتبة مصر من الثلاثية، ولكنني لم أكن مع أولاد حارتنا وفيًا.
قرأت طبعة دار الآداب في الثمانينيات، كنت طالبًا ولا أستطيع شراء نسخة من مكتبة مدبولي. استعرت نسخة، ثم أخبرني حسين عبد العليم بعد اثني عشر عامًا أنها استقرت عنده. وفي عام 2000 اشتريت نسخة بيروتية من شارع المتنبي ببغداد، واستغنيت عنها بصدور طبعة دار الشروق الأنيقة، عام 2006. آمل أن تخلو مما وجدته في الثلاثية.