في حلقة خصصت للحديث عن الذكرى التاسعة لثورة 30 يونيو 2013، تفاجئت وارتبكت على الهواء مباشرة حين سألني الأستاذ ضياء رشوان في برنامجه التلفزيوني الأسبوعي إذا ما كنت شخصيا توقعت بعد دعمي ثورة 25 يناير 2011 أن أمر بكل ما اختبرته على مدى السنوات العشر الماضية؟ كان ما واجهته كثير ومتتناقض وقدري لدرجة تفوق خيال "مخرج أفلام هندي"، كما نردد.
عدت من الولايات المتحدة بعد أيام من 25 يناير 2011 في أعقاب تسع سنوات من العمل مراسلًا لصحيفة الأهرام في واشنطن وقناة الجزيرة عربي في نيويورك، لأنني لم أتمكن من البقاء على بعد عشرة آلاف كيلومتر بينما تدور في بلدي ثورة. كنت أجوب مقر الأمم المتحدة في مانهاتن أحمل في يدي الموبايل لمتابعة ما تبثه قناة الجزيرة عن تطورات التظاهرات يوم 25 يناير 2011.
قبل عشرة أيام فقط من ذلك اليوم، كنت أول صحفي ينقل للسفراء العرب خبر هروب زين العابدين بن علي إلى السعودية، بعد أن أنهوا اجتماعهم بمقر مجلس الأمن لمناقشة تطورات الملف الفلسطيني. خرج السفراء من القاعة كعادتهم متعانقين ضاحكين، بينما أرقص أمامهم فرحًا وطربًا "بن علي هرب.. بن علي هرب".
لم يفهم أغلبهم ما أعني، ردوا بمختلف اللهجات: كيف، وشنو، وين هرب، أنت متأكد؟ وأنا بابتسامة تضاهي مساحتها ميدان التحرير بلكنتي المصرية "أيوه هرب. بقولكم هرب".
لم أصدق. كنت بدأت أفكر بعد تزوير انتخابات 2010 والحديث اليقيني عن توريث الحكم لنجل الرئيس أنه لا مجال لعودتي لمصر، وأنه من الأفضل البقاء في نيويورك، وربما الاستقالة من الأهرام التي أعتز بها اسمًا وتاريخًا.
بعد مظاهرات 25 يناير، صدَّقت أن هناك ثورة شعبية في مصر أخيرًا، ثورة لم أكن أتخيل حدوثها لعلمي ببطش الأجهزة الأمنية ورسوخ ما أسميناه لاحقًا أجهزة الدولة العميقة جدًا.
لم أتمكن من النوم على مدى أيام متتالية. شاركت في مظاهرات تزداد أعداد المصريين فيها يوميًا أمام البعثة الرسمية المصرية في نيويورك مطالبين مبارك بالرحيل. قررت العودة على أول طائرة.
لماذا أطيل الحديث عن ذكريات 25 يناير بينما النقاش في البرنامج التلفزيوني كان عن الذكرى التاسعة لمظاهرات 30 يونيو؟ السبب أنه بالنسبة لي تبقى 25 يناير هي الأصل والأساس والبوصلة بشعارها البسيط: عيش، حرية، عدالة اجتماعية، كرامة انسانية.
كانت مشاهد ميدان التحرير على مدى 18 يومًا، سببًا للطموح لبناء دولة ديمقراطية يُنتخب فيها الرئيس لفترات محددة المدة لحماية مصر من الفساد والتوريث، وعقد انتخابات نزيهة، ومحاسبة كل المسؤولين عن إنفاق المال العام، وصحافة حرة نتخلص فيها من المحتوى اليومي الروتيني عن نشاط الرئيس، هذا هو ما دفعني أيضًا للمشاركة في السعي الشعبي والثورة لاحقًا للتخلص من نظام حكم الإخوان الذي لو استمر بقاءه في الحكم لاندفعت مصر، وللمرة الأولى في تاريخها، نحو حرب أهلية أساسها ديني وطائفي.
هل استغربت قيام مجموعة من شباب أنصار جماعة الإخوان باعتراض طريق سيارتي في 3 أكتوبر 2013 في شارع القصر العيني ومحاولة قتلي طعنًا بمطواة، وقطع يدي اليسرى بسكين عقابًا على دوري كمتحدث سابق باسم جبهة الإنقاذ الوطني التي تصدرت المشهد السياسي كأكبر تحالف مدني معارض طوال عام حكم الإخوان؟
لم تشفع لي تلك الاستقالة، ولم يراودني شك أن فكرة "هدر الدم" والقصاص هي فكرة راسخة يتم الترويج لها باستمرار في عقول أنصار تلك الجماعات.
لا. كنت أعلم حجم الغضب بداخل من شهد فض اعتصام رابعة ورأى المئات يقتلون ويكفنون على عجل، وتغطى جثامينهم بألواح الثلج.
كنت استقلت من منصب المتحدث باسم جبهة الإنقاذ اعتراضًا على مذبحة رابعة وغياب أي محاسبة للمسؤولين، ودعمت موقف الدكتور محمد البرادعي نائب رئيس الجمهورية السابق لفترة لم تزد عن شهر تقريبًا.
لم تشفع لي تلك الاستقالة، ولم يراودني شك أن فكرة "هدر الدم" والقصاص هي فكرة راسخة يتم الترويج لها باستمرار في عقول أنصار تلك الجماعات.
30 يونيو.. لف وارجع تاني
بعد الإعلان الدستوري في نوفمبر 2012، ووجودي كشاهد عيان في اشتباكات قصر الاتحادية واستشهاد الصديق الحسيني أبو ضيف، أدركت الفشل التام للنظرية التي كنت مقتنع بها، وتلقى تفضيلًا في الغرب، مفادها أن دخول جماعة الإخوان المسار الديمقراطي سيدفعها لتبني خطاب أكثر اعتدالًا وقناعة بأن الحكم للشعب عبر دستور مدني ويعد بمثابة عقد اجتماعي ملزم للجميع.
كنت أردد بقناعة كمتحدث باسم جبهة الإنقاذ أن هدفنا من المشاركة في 30 يونيو والدعوة لاستقالة الرئيس الراحل محمد مرسي، هو استكمال أهداف ثورة يناير التي تخلت عنها جماعة الإخوان لصالح مشروع الخلافة والتمكين.
هل تحقق ذلك بعد 30 يونيو و3 يوليو 2013؟ بالطبع لا. بل أنه بعد شهور فقط من اليوم العظيم الذي أعلن فيه الشعب المصري رفضه حكم الجماعة، فوجئت أحزاب جبهة الإنقاذ أنه يجري التخلص منها واحدًا تلو الآخر. أما الخطاب الرسمي، فتغير تمامًا وعاد لنغمات قديمة نحفظها جيدًا عن الدور التاريخي للقائد والزعيم، الذي يحمي منفردًا مصر والوطن.
لم تكد تمضي عدة شهور حتى تمحور الخطاب الرسمي حول التحديات التي تواجه الوطن وخطر الإرهاب والظروف الإقليمية التي لا تتحمل النقاش والديمقراطية والأحزاب المدنية. ما الذي أتت به لنا ثورة يناير سوى حكم الإخوان والفوضى وانهيار الدولة؟ اللعنة عليكم جميعًا أنصار ثورة يناير، أنتم سبب كل ما لحق بنا من خراب ودمار. تخلصنا من جماعة الإخوان، والآن جاء دوركم أيها المخربون عملاء الخارج.
ورغم أن الدستور ينص في مقدمته على أن ثورة 25 يناير علامة مضيئة وبارزة في تاريخ نضال الشعب المصري، أصبح الخطاب الرسمي المتكرر أننا لن نسمح أبدًا بتكرار "أحداث 2011". ثورتي العظيمة أصبحت "أحداث" والثورة الحقيقية فقط هي 30 يونيو؟ لا، هذا إخلال بترتيب الأحداث والهدف والمسار.
في مايو 2016، صار اقتحام نقابة الصحفيين علامة فاصلة بعد مواجهات استمرت شهورًا في أعقاب رفض شعبي واسع لاتفاقية تسليم جزيرتي تيران وصنافير المصريتين للسعودية. كنت من ضمن المعتصمين في النقابة احتجاجًا على اقتحامها واعتقال الزميلين عمرو بدر ومحمود السقا.
اصطادني مجموعة من البلطجية يرفعون صور الرئيس السيسي وعلم مصر وأوسعوني ضربًا ولكما وبصقات وشتائم. كانوا يحاصرون مدخل شارع عبد الخالق ثروت من جهة شارع رمسيس، وبجوارهم عربات نصف نقل تبث عبر سماعات ضخمة أغنية "تسلم الأيادي"، وكلما خرجت مجموعة من الصحفيين من النقابة يبدأون في الإشارة بأصابعهم الوسطى وتوجيه أسوأ السباب.
لم تكن هناك سكاكين، خرجت بكدمات وتمزقت بدلة كنت أحبها. قلت لنفسي وقتها: أنصار الإخوان أرادوا قتلي، بينما أنصار السيسي يكتفون بالضرب.
سنوات من التضييق لم نعهدها من قبل تلت ذلك، وانتخابات أقرب للاستفتاء في 2018، ثم تعديلات دستورية كانت بداية النهاية في طريقة تعامل النظام والأجهزة الأمنية مع الأحزاب المدنية المعارضة.
في جلسات التجديد أمام نيابة أمن الدولة، كان أنصار جماعة الإخوان يوجهون السباب لي في الحبسخانات، وأسئلة تهكمية أكثرها "ها؟ مرسي ولا السيسي؟ أنقذتونا يا بتوع جبهة الإنقاذ؟"
رفضنا التعديلات الدستورية وانتهى ما تبقى من حلم ثورة يناير بالنسبة لي. تصاعدت بشكل غير مسبوق وتيرة القبض على المعارضين المنتمين لأحزاب شرعية كما كاتب المقال، وأُبلغنا بوضوح أن استمرارنا في العمل لم يعد مسموحًا بسبب ما يراه أصحاب القرار من تهديدات تحيق بالوطن، ولا تتحمل أية معارضة.
ازدادت سخونة الأوضاع بعد بروز المقاول محمد علي وفيديوهاته الشهيرة، ثم دعوته لتظاهرات 20 سبتمبر 2019. وفي 24 سبتمبر 2019 قُبض عليَّ، لأمضي بعد ذلك 19 شهرًا في السجن قيد الحبس الاحتياطي من دون محاكمة ونشرت مذكرات تلك الشهور في حلقات على موقع المنصة.
في جلسات التجديد أمام نيابة أمن الدولة، كان أنصار جماعة الإخوان يوجهون السباب لي في الحبسخانات، وأسئلة تهكمية أكثرها "ها؟ مرسي ولا السيسي؟ أنقذتونا يا بتوع جبهة الإنقاذ؟" كنت أستغرب أنهم يتناسون أني معهم في السجن، وأن ذلك معناه ببساطة، انني لا سيسي ولا مرسي. أنا 25 يناير، وحلم بناء دولة ديمقراطية حقيقية في مصر تحترم حقوق مواطنيها وتمنع أن يكون الفساد أساس الحكم بسبب غياب الرقابة والانتخابات النزيهة.
بعد سنة وشهر من خروجي من السجن دُعيت إلى إفطار الأسرة المصرية حيث صافحت الرئيس بصحبة المعارض البارز حمدين صباحي، ورحَّب كلانا بدعوته للحوار السياسي. في الحوار القصير الذي دار أثناء المصافحة كان طلبي الوحيد "الإسراع في الإفراج عن السجناء السياسيين"، وأضفت أن هذه ستكون البداية الحقيقية لضمان نجاح أي حوار.
هل كنت أتوقع كل هذه التقلبات على مدى تسع سنوات يا أستاذ ضياء؟ بالطبع لا. ولا في أسوأ كوابيسي. من نيويورك إلى ميدان التحرير إلى محاولة قتلي وقضاء نحو سنتين من السجن نهاية بمصافحة الرئيس. أحداث وذكريات مزدحمة. ولكن بعد الارتباك والابتسام للحظات، قلت إن المهم الآن أن يتعلم الجميع من دروس السنوات التسع الماضية بعد استرجاع شريط الذكريات، وألا نكرر اخطاءنا، سلطة ومعارضة.