ناقشت في المقال الأول من سلسلة التوازن اللامتكافئ أن عجوزات التبادل في الموارد الطبيعية وساعات العمل لا يقابلها بالضرورة فوائض في النقد، فينتهى المطاف بالدول الفقيرة في ضغط كبير على مواردها الطبيعية والنقدية على حد سواء. السبب في ذلك هو المغالاة في قيم سلع دول الشمال، مع بخس قيمة منتجات دول الجنوب.
أما في المقال الثاني فعرضنا أن التحول للصناعة التصديرية وحده لا يكفي، لأن التصنيع في حد ذاته أصبح نشاطًا منخفض القيمة مع تحوله جغرافيًا للجنوب، واقتصاديًا للتنافسية الناتجة عن انتشار ورخص التكنولوجيا.
يعني هذا ببساطة أن زيادة تصدير المواد المصنعة لن يؤتي ثماره، طالما تنهار أسعار تلك الصادرات مع الزمن في علاقتها بالواردات إلى الجنوب العالمي، المقدرة بأعلى من قيمتها مع طبعًا وضع ضغط متزايد على الموارد الطبيعية والبشرية لدول الجنوب.
ماذا إذن عن النماذج الناجحة مثل الصين واليابان التي نمت اقتصادياتها كثيرًا بسبب التصدير؟
نمت الصين في العقود الأربعة الأخيرة بشكل لم يسبقه إليها أي بلد منذ بدايات الثورة الصناعية في القرن التاسع عشر، لكن رغم ذلك لا يعرف الكثيرون أن بلدًا مثل كوت ديفوار تصدِّر نسبة أكبر من ناتجها الإجمالي، بما يفوق معدّل الصين. حتى مصر نسبة صادراتها من الناتج المحلي الإجمالي تقترب جدًا من الصين بل تتخطاها في بعض الأعوام.
الاستثمار كمحدد للنمو
الفارق الكبير بين تلك البلدان لا يكمن في التوسع التصديري، بل في معدلات تكوين رأس المال الذي يقيس حجم الاستثمارات في الأصول الإنتاجية الجديدة مثل الآلات والمعدات في الاقتصاد. فمنذ عام 1960 حتى الآن كان متوسط معدل تكوين رأس المال في الصين 36% سنويًا في حين في مصر كان 20% في حين بلغ هذا المتوسط في كوت ديفوار 18%.
أما اليابان التي تؤخذ أيضًا نموذجًا للنمو المدفوع بالتصدير، نفاجأ بأن متوسط معدل صادراتها لناتجها المحلي أقل من مصر، لكن بلغ المتوسط السنوي لتكوين رأس المال 30%. وما زال هناك فارق كبير بين الصين واليابان وهو أن الصين لم تنجح في التخلص من نموذج اقتصادها الطرفي رغم معدلات النمو شديدة الارتفاع، فعند النظر للبعد المادي للتبادل اللامتكافئ فنجد أن الصين تعتبر مُصدر صاف للطاقة والعمل (أي في موضع خاسر) وهو العنصر المميز للاقتصادات الطرفية كما عرضت في المقالتين السابقتين من هذه السلسلة (أنظر/ي الجدول في نهاية المقالة)، في حين أن اليابان هي مستورد صافي للموارد الحيوية/ الطبيعية.
إذن الدافع الأهم للنمو الكبير في الصين كان الزيادة الكبيرة في معدلات الاستثمار خاصة البنية التحتية والعقارات، لكن رغم ذلك التوسع الكبير في الاستثمار العقاري، فإن له مخاطره الكبرى التي رأيناها في الصين نفسها مع الإفلاس الشهير لشركة ايفرجراند سنة 2020، وهي واحدة من أكبر شركة تطوير عقاري في العالم، واضعة الاقتصاد كله في مهب الريح، لدرجة أن الحكومة الصينية أعلنت في خطتها الخمسية الرابعة عشر أن من أركان استراتيجيتها تحقيق نمو "عالي الجودة".
لكن رغم قصور بعض نماذج الاستثمار، فإن الاستثمار يظل المحدد الأهم للنمو الاقتصادي، وليس معدلات التصدير. بالتالي، استراتيجية الاستثمار هي القادرة على جعل النمو أشبه بفقاعات هشة تأثيرها الاجتماعي محدود أو حتى سلبي، أو قادرة على تحقيق تنمية عميقة وتغيير مجتمعي يحسن من جودة حياة قطاعات عريضة من السكان خاصة الفئات الاجتماعية الأكثر تهميشًا والأقل دخلًا وثروة.
وهنا لا مفر من ربط أي استراتيجية استثمار تنموية بالتخلص من المبادئ النيوليبرالية في التنمية، فأي استثمار مستدام غير خالق للفقاعات الاقتصادية يجب أن يأخذ في اعتباره أمرين: أولًا، وهو مقاومة سيادة منطق الربح السريع كمحدد لتوجيه الاستثمارات، فالربح الكبير والسريع سيذهب بالاستثمار بطبيعة الحال لأنشطة خالقة للفقاعات غير مولدة لفرص عمل وتزيد من هشاشة الوضع الاقتصادي.
ثانيًا، الاستثمار دون تعميق السوق والطلب المحلي سيؤدي حتمًا إلى تباطؤ اقتصادي، لأنه سيبقي على سؤال من أين يأتي الناس بأموال لشراء منتجات هذا الاستثمار الجديد بدون طفرة في دخولهم. أدركت الصين هذا البعد جيدًا في خطتها الخمسية الأخيرة إذ أعلنت بوضوح عن تحفيز الطلب المحلي، وأدركت ذلك من قبلها أغلب الدول الغنية، مثلما حدث وقت "الصفقة الجديدة" في الولايات المتحدة في الثلاثينيات، كاستراتيجية للخروج من أزمة الكساد الكبير عن طريق تحفيز الطلب العام في الاقتصاد من خلال زيادة القوة الشرائية للفئات الأقل دخلًا.
وهذا يأخذنا للحقيقة اللي تتفاداها بشدة السياسات القائمة على المبادئ النيوليبرالية، وهي أن الميل الحدي للاستهلاك يزيد كلما انخفض الدخل، وأن الميل الحدي للادخار يزيد كلما ارتفع الدخل، أو بعبارة أخرى فإن زيادة دخول فئات الدخل الأدنى تنعش الاستهلاك وزيادة أرباح فئات الدخل العليا تؤدي للمزيد من حبس الأموال في صورة مدخرات.
تعميق السوق المحلي
تداعيات هذه المسألة شديدة الجوهرية لأنها تربط بالضرورة بين حدوث نمو مستدام "عالي الجودة" معتمد على وجود طلب حقيقي واسع وفعال (ليس معتمدًا على فقاعة ديون أو مضاربات)، بتوزيع الدخل لأسفل أو على أقل تقدير حصول فئات الدخل الأدنى على أغلب ثمار النمو المتوقع.
يأتي هذا الطرح في مواجهة نموذج النمو القائم على التصدير، والذي ناقشت في هذه السلسلة أوجه قصوره عن طريق إيضاح أن الاستثمار في التصدير الطرفي سواء الزراعي أو الصناعي البسيط له مشاكله من نزوح الموارد الطبيعية وانهيار القيمة النسبية لتلك المنتجات مع الزمن فيما يعرف بفرضية بريبش-سنجر.
صحيح أن تعميق السوق المحلي لا يعني بشكل مباشر تعميق التصنيع المحلي، ولا يحل بشكل مباشر أزمة العجوزات التجارية، خاصة وأن التجارب السابقة لسياسات إحلال الواردات في سياقات ما بعد الاستعمار لم تثبت نجاحًا كبيرًا، مع التسليم بأن خفض الواردات بدلًا من اللهاث وراء زيادة الصادرات قد يكون فعالًا في بعض الحالات، لكن المشكلة الأكبر أنه (أي إحلال الواردات) يستسلم لتراتبية القيمة بين فئات السلع المختلفة بينما يفشل في إعادة تشكيل التقسيم الدولي للعمل بشكل فعال، والحل إذن يتعين أن يكون سياسيًا مرتبط بالتفاوض على إعادة تقييم السلع.
من الثابت في أدبيات التنمية الشائعة هو ميلها لتجنب السياسة وإعلاء من قيمة البعد الفني/ التقني والأخلاقي. فبنظرة سريعة على أدبيات التنمية الصادرة من المؤسسات التنموية الكبرى، سنجد أن محاربة الفقر والتهميش أصبحت مسألة فنية أخلاقية تتطلب أشياء من قبيل توفير التكنولوجيا وتدريب المزارعين أو المصنعين لزيادة الإنتاجية، وبناء قدرات موظفي الدولة لمحاربة الفساد المسؤول عن المصاعب الاقتصادية، وبناء معاهد ومدارس فنية لدعم سوق العمل بالمهارات "اللازمة"، إلخ.
مع عدم التشكيك في حسن نوايا القائمين على هذه البرامج، فإن نزع التسييس عن التنمية أضرّ بها لأنه عادة ما يخلط الأسباب بالنتائج لتفادي الأسئلة التوزيعية الصعبة سياسية الطابع، فمثلًا ترى تلك الرؤية أن ضعف التعليم وانتشار الفساد المالي هو السبب في التأخر التنموي وليس نتيجة له، وترى بالمثل أن كثرة المواليد والضغوط الديمغرافية هي سبب للفقر وليست نتيجة له، والحقيقة من الصعب تبني مثل هذا النهج وعدم الوقوع في الفخاخ الثقافوية التي ترى أن تغيير ثقافة الأفراد هو نقطة الانطلاق لأي مشروع تنموي بدون إحداث تغيير مسبق في البنية الاقتصادية.
من الملفت أن نزع التسييس عن التنمية لم يكن دائمًا الوضع الطبيعي، ففي ستينيات القرن الماضي، تأسست مجموعة الـ77 كتحالف من دول الجنوب داخل الأمم المتحدة، يهدف إلى تعزيز مصالح الدول الأعضاء خاصة فيما يخص التبادل التجاري مع دول الشمال، وكان الاقتصادي الأرجنتيني راؤول بريبش (أحد مؤسسي فرضية بريبش-سنجر التي ناقشناها على مدار هذه السلسلة) شديد الانخراط في هذا التحالف والكيانات المرتبطة به.
رأس بريبش أيضًا مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (أونكتاد) من عام 1965 إلى عام 1969 وقبلها لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية لأمريكا اللاتينية منذ أواخر الأربعينيات. وبالمثل عمل الاقتصادي المصري سمير أمين بالمعهد الإفريقي للتنمية الاقتصادية والتخطيط التابع للأمم المتحدة حتى سبعينيات القرن العشرين. كان هؤلاء الاقتصاديون يتبنون نهجًا سياسيًا منحازًا للجنوب، غالبًا ما سيتم اعتباره متطرفًا في الدوائر التنموية اليوم، ولم يمنعهم ذلك من تقلد مناصب رفيعة في هياكل الأمم المتحدة الخاصة بالتنمية.
أما إعلان الجزائر الصادر عن مجموعة ال 77 عام 1967 الذي يعد وثيقة تأسيسية للمجموعة في أول اجتماع وزاري لها، فيناقش بشكل واضح أهمية التفاوض على أسعار أفضل لمنتجات الجنوب، فيقول البيان:
يجب أن تكون الأهداف الرئيسية لسياسات التسعير كالتالي: (1) القضاء على التقلبات المفرطة في الأسعار؛ (2) تحقيق أعلى أرباح ممكنة من صادرات المنتجات الأولية؛ (3) المحافظة على القوة الشرائية للمنتجات التي تصدرها البلدان النامية بالنسبة لوارداتها، وزيادتها؛ (4) الحصول على تعهد من البلدان المتقدمة بالمساعدة في تحقيق أسعار أكثر استقرارًا وأعلى للسلع المصنَّعة وغير المصنَّعة من البلدان النامية، من خلال تطبيق سياسات ضريبية محلية مناسبة.
قد يجادل البعض بأن التسعير ما هو إلا نتيجة لديناميات العرض والطلب، بالتالي فإن أي محاولات قانونية أو سياسية للتأثير على الأسعار ستكون غير مجدية بل ضارة، لتعديها على ديناميات العرض والطلب، لكن التسعير لا يخضع للعرض والطلب كمنطق أوحد إلا في التصورات المثالية والنماذج الرياضية لبعض رواد الاقتصاد الشائع. فما قوانين الملكية الفكرية إلا محاولة للسيطرة على المعروض من منتج معين، ولدينا أمثلة أيضًا لا حصر لها من تحقيق الندرة المصطنعة للسيطرة على حجم المعروض، بالإضافة إلى القيود الجمركية والضريبية وسياسات الدعم والتحفيز وقوانين الحد الأدنى للأجور والاحتكارات التي تهدف جميعًا للتأثير في أسعار السلع (بما فيها العمل) والعرض والطلب بعيدًا عن الأوهام المثالية لسوق متخيَّل.
"مغالطة التكوين"
معركة التسعير تلك قادرة على معالجة "مغالطة التكوين" fallacy of composition فيما يخص سياسات التصدير، وهي مغالطة تنشأ من استنتاج أن شيئًا ما يصح للكل من منطلق أنه صحيح بالنسبة لجزء من هذا الكل. بالنسبة للنمو القائم على زيادة كمية الصادرات، فمحاولة الإشارة إلى بعض النماذج الناجحة وتعميمها كوسيلة للتنمية مستحيل عمليًا لأن صادرات أي بلد هي بالتعريف واردات بلد آخر.
أما بالنسبة للتفاوض على أسعار أفضل لمنتجات دول الجنوب فينطوي على مقابل مغالطة التكوين، وهي أنها تجربة لا يجوز إلا أن تكون معممة لأن أي بلد يحاول منفردًا فرض أسعار أفضل لمنتجاته سيخسر خاصة لو كانت هذه السلع تنافسية، توفرها بلدان أخرى وهو حال أغلب السلع التي تصدرها دول الجنوب.
أسعار أفضل لسلع الجنوب وأقل لسلع الشمال ستسهم أيضًا في تعميق السوق والطلب المحليين بسبب احتفاظ تلك البلدان بجزء أكبر من الفوائض التي تنتجها داخل حدودها، ويحد من الضغط البيئي المتزايد على مواردها الطبيعية التي تنزح بكميات كبيرة تحت غطاء التبادل التجاري والضغط الاقتصادي المتزايد على عملاتها الأجنبية.
اللعب بقواعد لعبة تراتبية القيمة القائمة بين السلع للانتقال لدرجة أعلى على سلم القيمة لن يدور بنا إلا في دوائر مفرغة، لأن عند إتمام التحول ب"بنجاح"، في الأغلب سيكون النشاط الاقتصادي الذي تم التحول إليه فقد جزء من قيمته المضافة لأن الجميع في الغالب كان يبذل نفس المجهود، مما جعل النشاط تنافسي منخفض القيمة مثل ما حدث تحديدُا في الصناعة.
اللعب بقواعد القيمة القائمة يشجع أيضًا على التنافس بين دول الجنوب، بدلًا من التعاون بينها للتفاوض على أسعار أفضل لمنتجاتها للاستحالة العملية أن نكون جميعًا متخصصين في منتجات تصديرية عالية القيمة المضافة، أو كما تسائل توفيق الدقن في سؤاله الفلسفي الشهير: "لو الناس كلها بقت فتوات، أمال مين اللي هينضرب؟