خلال السنوات الأخيرة ازدادت في مصر حدة أزمة النقد الأجنبي وصارت مصطلحات وإجراءات مثل "رفع أسعار الفائدة" و"التعويم" و"الدولرة" مألوفة لكثير من الناس، ويتابع الملايين أخبارها بشكل لحظي.
ليس هذا بغريب نظرًا لعمق التغيرات الاقتصادية التي حدثت في مصر منذ عام 2016، وكان لها تأثير عاصف على حيوات عشرات الملايين من المصريين، فباتت متابعة تلك الأخبار مدفوعة بتأثيرها المباشر والكبير على حياة الناس ورفاههم.
وبسبب الطبيعة "الخبرية" المثيرة للإجراءات النقدية، مثل تحريك البنك المركزي لسعر الصرف أو رفعه لسعر الفائدة، إلخ، أصبح من السهل الوقوع في فخ الاعتقاد بأن المسائل النقدية تلك تشكل محددات وأصل الأزمة الاقتصادية المتكررة وليس أحد أعراضها، خاصة عندما يكون أصل المشكلة ليس من الموضوعات التي يمكن أن تتصدر عناوين المواقع الإخبارية، مثل تطورات ميزان "الحساب الجاري"، الذي يرصد معاملات الدولة مع العالم الخارجي في مجالات مثل التجارة والخدمات.
ليست الطبيعة الخبرية والمثيرة للإجراءات النقدية وحدها هي السبب، لكن أيضًا ما سأستعرضه في هذا المقال عن ما يمكن تسميته بـ"النظرة النقدية للعالم".
النظرة النقدية تضع الاقتصاد الحقيقي في وضع التابع
في واحدة من حلقات البودكاست الخاصة به، يؤكد أستاذ الجغرافيا والاقتصادي الشهير ديفيد هارفي أن ما يسمى بالأزمة المالية العالمية، والتي تم توصيفها كأزمة سيولة، لم تكن إلا نتيجة لأزمة السكن الكامنة في الاقتصاد الحقيقي.
ويؤكد هارفي في مقال عن الجذور العمرانية للأزمة المالية أن هذا الأمر لا يقتصر فقط على أزمة 2008، فنهاية النمو الاقتصادي في اليابان خلال التسعينيات تزامنت أيضًا مع انهيار أسعار الأراضي، وكان لا بد من تأميم النظام المصرفي السويدي في عام 1992 بسبب التجاوزات التي حدثت في أسواق العقارات هناك، وكان أحد أسباب الانهيار في شرق وجنوب شرق آسيا في 1997-1998 التنمية الحضرية المفرطة في تايلاند.
وأخيرًا فإن أزمة المدخرات والقروض التجارية في الولايات المتحدة التي تسببت فيها العقارات التجارية في الفترة من 1987 إلى 1990 تزامنت مع تدهور عدة مئات من المؤسسات المالية، مما كلف دافعي الضرائب الأمريكيين حوالي 200 مليار دولار.
يؤكد هارفي في الورقة نفسها أنه كلما زادت حصة القطاع العقاري في الناتج المحلي الإجمالي، كلما زادت احتمالية تسبب هذا القطاع في الأزمات الكلية.
في حالة البلدان النامية مثل تايلاند، حيث تشكل الرهون العقارية السكنية 10% في المائة فقط من الناتج المحلي الإجمالي، يمكن أن يساهم انهيار السوق العقاري، على أقصى تقدير، في حدوث تراجع اقتصادي كلي. بينما في الولايات المتحدة، حيث تشكل ديون الرهن العقاري 40% من الناتج المحلي الإجمالي ، فإن انهيار السوق العقاري سيؤدي حتمًا إلى حدوث أزمة بحجم ما جرى في 2008.
أزمات النقد المتتالية التي تعاني منها مصر ينطبق عليها نفس المنطق كونها في الأصل أزمة في الاقتصاد الحقيقي وتحديدًا أزمة تجارة وتدفقات مع العالم الخارجي. عند زيادة عجوزات الحساب الجاري عن حد معين لفترة زمنية معينة، تتسبب هذه العجوزات، بشكل حتمي، في أزمات الاقتصاد الكلي، بما فيها أزمات في النقد.
الحساب الجاري والعملة
تخضع الدول التي تعاني من عجز مزمن في "الحساب الجاري"، لضغوطات كبيرة، لما يتسبب فيه هذا العجز من طلب محلي قوي على العملات الأجنبية.
يخلق هذا العجز حلقة مفرغة يتم فيها استنفاد احتياطيات النقد الأجنبي لدعم العملة المحلية، من أجل إضفاء بعض الاستقرار المؤقت على الأسواق والأسعار. وبدوره يؤدي نضوب احتياطي النقد الأجنبي –المقترن بتدهور الحساب الجاري– إلى مزيد من الضغط على العملة. وغالبًا ما تضطر الدول التي تمر بهذه الأزمة إلى اتخاذ إجراءات صارمة لدعم العملة، مثل رفع أسعار الفائدة بشدة لكبح هروب العملات الأجنبية إلى الخارج ووقف حدة الدولرة في الاقتصاد.
هل تكمن أزمة التجارة حقًا في ارتفاع أسعار صادراتنا؟
لا تنكر الحكومات أو مؤسسات التمويل الدولية، التي تفرض شروطها للإصلاح على البلدان التي تعاني من اختلالات هيكلية في علاقتها مع العالم الخارجي، هذا التفسير لأزمات العملة.
نجد الحكومات وصندوق النقد الدولي مثلًا يؤكدان على أهمية دعم النشاط التصديري، عن طريق زيادة الإنتاجية ومنح امتيازات ضريبية وغير ضريبية للقطاعات التصديرية، لعلاج تلك الاختلالات الهيكلية في الاقتصاد.
لكن النظرة الغالبة على صناعة السياسات تظل تركز على أولوية الإجراءات النقدية على غيرها من الإصلاحات.
تعتمد هذه الرؤية على أن سلع دول الجنوب مبالغ في سعرها بسبب أن عملات الكثير من تلك البلدان مبالغ في تقدير قيمتها
مثلًا، عادة ما يتم تفسير عجوزات الميزان الجاري في ارتفاع قيمة العملة عن قيمتها "الحقيقية" مما يجعل الصادرات مقومة بأكثر من قيمتها "الحقيقية" فيقل بذلك الطلب عليها، وعلى الجانب الآخر تقل قيمة الواردات فيزداد الطلب عليها فيحدث العجز.
وفقًا لهذه الرؤية، فإن تخفيض قيمة العملة من شأنه أن يحدث تغيرات هيكلية في الاقتصاد الحقيقي لأنه سيجعل صادرات كل بلد أرخص وبالتالي أكثر جاذبية للمستهلك الأجنبي، وسيجعل الواردات أغلى وأقل جاذبية بالنسبة للمستهلك المحلي.
تعتمد هذه الرؤية على أن سلع دول الجنوب مبالغ في سعرها لأن عملات الكثير من تلك البلدان مبالغ في تقدير قيمتها overvalued، وهي المسألة التي دائمًا ما يكررها صندوق النقد الدولي أينما ذهب. الحقيقة تكاد تكون عكس ذلك تمامًا فمن أهم تحديات التنمية في دول الجنوب –ومن بينها مصر– هو تسعير منتجاتها.
يكون تسعير السلع المصدرة من هذه البلدان شديد الانخفاض بفضل انخفاض الأجور، ولكونها سلع أساسية، أو مصنعة لكنها منخفضة المكون التكنولوجي/المعرفي.
على الجانب الآخر عادة ما تكون السلع الواردة من الشمال العالمي (أو الجزء من سلسلة القيمة الذي احتفظ به الشمال العالمي) مبالغًا في تقييمها بسبب منظومة حماية الملكية الفكرية التي تؤدي لاحتكار تكنولوجيا السلع وبعض العلامات التجارية الخاصة بالخدمات؛ بيع السلع المعرفية المحمية قانونيًا عادة ما يتم تسميته "التجارة في المعرفة" trade in knowledge أو "الريع المعلوماتي" information rents.
مدخولات الريع المعلوماتي بين الشمال والجنوب
توضح دراسة من تأليف أستاذ الاقتصاد في جامعة جنيف سيدريك ديوراند أن براءات الاختراع مركزة بشكل كثيف في الاقتصادات "المتقدمة"، ولا سيما اليابان والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي. استحوذت هذه البلدان الثلاثة معًا على 82.5٪ من براءات الاختراع على مستوى العالم في عام 2013. تتركز العلامات التجارية الدولية أيضًا بشكل كبير في الولايات المتحدة واليابان والاتحاد الأوروبي.
يُظهر مؤشر منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية بشأن الكثافة الدولية للعلامات التجارية بالنسبة إلى الناتج المحلي الإجمالي أنه لا توجد دولة "نامية" واحدة في قائمة أول عشرين دولة من حيث عدد العلامات التجارية.
زادت المدفوعات الخاصة باستخدام حقوق الملكية الفكرية على مستوى العالم من حوالي 80 مليار دولار سنويا في عام 1995 إلى حوالي 400 مليار دولار في عام 2017.
ذهب أغلب الريع هذا إلى الشمال في عام 2016، فقد كانت مدفوعات الملكية الفكرية الدولية لبلدان الشمال (323 مليار دولار أمريكي) أعلى بأكثر من 100 مرة من تلك الواردة إلى البلدان منخفضة ومتوسطة الدخل (3 مليارات دولار أمريكي). علاوة على ذلك، تتركز الإيرادات بشكل كبير في قلة من البلدان الغنية، حيث تلقت الولايات المتحدة وحدها 38.4٪ من إجمالي المدفوعات الدولية في عام 2015.
يرى ديوراند أن سرعة انتشار نظام الملكية الفكرية الأكثر صرامة الذي بدأته الولايات المتحدة في أوائل الثمانينيات تزامن مع تعميق سلاسل القيمة العالمية، وأن هذين الاتجاهين مكملين لبعضهما البعض، وما يعزز من سيطرة الشمال على هذه الإيرادات هو توسع الاحتكار الفكري القانوني للشركات القائمة في الاقتصادات ذات الدخل المرتفع.
الحلول النقدية لأزمات التجارة نادرًا ما تعمل
بالطبع لا أحد ينفي أن إدارة النقد في أمور لها علاقة بمعدلات التضخم وأسعار الفائدة لها تأثير على الاقتصاد الحقيقي، وأنها في الكثير من الأحيان تكون أداة فعالة لتحقيق أهداف اجتماعية واقتصادية عدة، لكن يكمن الإشكال في الإيمان أن كل حل لأي مشكلة اقتصادية يبدأ وينتهى عند الإجراءات النقدية، فلو زادت الأسعار أو انخفضت قيمة العملة المحلية كثيرًا يجب أن نرفع سعر الفائدة وإذا حدث الركود نخفضها، ولو زادت اختلالات ميزان المدفوعات نخفض من قيمة العملة، إلخ.
في دراسة صادرة عام 1985 تناولت تأثير تخفيض قيمة العملة على الميزان التجاري في اليونان والهند وكوريا وتايلاند، وجدت الدراسة أن في ثلاثة من الأربعة بلدان، أدى انخفاض قيمة العملة لتدهور الميزان التجاري لا لتحسينه.
تؤكد دراسة أخرى أحدث صادرة في عام 1997 أن من ضمن عينة من ثمانية بلدان، أدى انخفاض العملة في بلد واحد فقط (المكسيك) لتخفيض عجز الميزان التجاري بشكل ملحوظ. وفي بلدين (كولومبيا وتايلاند) لم يكن هناك تأثير ملحوظ لانخفاض قيمة العملة، وفي ثلاثة بلدان (قبرص واليونان والمغرب) كان التأثير سلبي وملحوظ. وفي آخر بلدين (سنغافورة وجواتيمالا) كان التأثير سلبي وطفيف.
في مصر أيضًا رأينا تخفيضات متتالية لقيمة الجنيه لكن بدون تحسن كبير –أو على الإطلاق– في اختلالات الميزان الجاري.
وعلى السياق نفسه، يؤكد الاقتصادي البريطاني جون ويليامسون في كتاب صادر عام 1983 أن أسعار الواردات الأعلى الناتجة عن تخفيض قيمة العملة تساهم في تضخم مدخلات أسعار السلع التصديرية، مما يحد من الفائدة المتصورة من انخفاض قيمة العملة، وهي تخفيض السعر النهائي للصادرات وتحسين تنافسيتها في الخارج.
يظهر هذا جليًا في الحالة المصرية بسبب أن جزءًا كبيرًا من وارداتنا عبارة عن مدخلات إنتاج (مثل السلع الوسيطة والرأسمالية التي شكلت نحو 47% من واردات مصر وغالبًا ما تكون باهظة الثمن ويمثل مكون الملكية الفكرية نسبة كبيرة من تكلفتها)، فضلًا عن منتجات طاقة مكررة تستخدم أيضًا كمدخلات إنتاج. لذا يؤدي خفض قيمة الجنية لزيادة كبيرة في تكاليف مدخلات الإنتاج المستوردة، وبالتالي رفع سعر السلع التصديرية، ومن ثم يكون الأثر الإيجابي لخفض الجنيه على عجز الميزان التجاري محدود.
العلاقة إذن شائكة ومتشابكة بين تخفيض قيمة العملة أو مايعرف شعبيًا بـ"التعويم" (إجراء نقدي) من جانب وخفض عجز الحساب الجاري (اقتصاد حقيقي) من جانب آخر، على الأقل مقارنة بتصور صندوق النقد الميكانيكي عن العلاقة بين المتغيرين.
وحتى عندما يتطرق الصندوق للعلاقات التجارية عادة ما يتجاهل تمامًا انخفاض أسعار منتجات دول الجنوب وارتفاع أسعار منتجات دول الشمال، الناتج عن قوانين الملكية الفكرية الصارمة والتي تزيد بشكل درامي من تدفقات الثروة إلى دول الشمال.
يساعد التشخيص الخاطئ هذا على تفادي اتخاذ إجراءات هيكلية حقيقية، قد تؤدي لمواجهة سياسية عالمية حول قواعد وقوانين التجارة والاستثمار والملكية الفكرية، من شأنها إعادة تقييم وتوزيع المكاسب الاقتصادية حول العالم، ويؤدي إلى توطين الأزمة وحصر أسبابها على سياسات نقدية وطنية سيئة.