خلال الأشهر الثلاثة الماضية، اضطر محسن المندي لتسريح أغلب العاملين في مزرعته المستأجرة من هيئة الثروة السمكية بنطاق شطا بمحافظة دمياط، بسبب الانخفاض الحاد في مبيعات المزرعة نتيجة نقص الأعلاف وارتفاع تكاليف الإنتاج.
الأزمة لم تقتصر على مزرعة مندي، ولكنها تكررت مع العديد من القائمين على المزارع السمكية الذين التقينا بهم، ما يجعل من قطاع الأسماك واحدًا من ضحايا أزمة الدولار الحالية وانعكاسها على نقص الخامات أو ارتفاع تكاليفها بوتيرة متسارعة.
من أزمة الإيجار إلى الدولار
على مساحة 123 فدانًا، تمتد مساحة مزرعة المندي السمكية، التي يعمل فيها منذ أن كان طفلًا، ويديرها حاليا بمقتضى عقد إيجار أبرمه مع هيئة الثروة السمكية.
ويمثل مستأجرو المزارع السمكية أحد أهم مصادر الثروة السمكية في مصر، وتوفر المزارع بصفة عامة الحصة الغالبة من الأسماك المصرية، إذ تصل مساهمتها لنحو 79% من إجمالي الإنتاج السمكي.
قبل نحو خمس سنوات، قررت هيئة الثروة السمكية إلغاء عقود إيجار المزارع القديمة ورفع قيمة إيجار فدان المزارع بشكل مفاجئ، حيث كانت تتراوح القيمة من 300 إلى 600 جنيه ثم قفزت إلى مستويات تتخطى الـ4000 جنيه في بعض الحالات.
لكن بعد وساطة من نواب من بينهم ضياء الدين داود، قررت الهيئة خفض الإيجارات لتتراوح في الوقت الراهن بين 1500 لـ 3000 جنيه للفدان سنويًا، حسب ما قاله مصدر في هيئة الثروة السمكية، للمنصة، طلب عدم ذكر اسمه.
وبينما كان المندي يكافح من أجل تدبير مصاريف الإيجار، كانت أزمة ضعف التدفقات الدولارية تعصف بالاقتصاد المصري، لتفرض عليه أعباء جديدة، حيث ساهم نقص العملة الصعبة في تراجع حجم الواردات من الأعلاف الأجنبية، والبديل المحلي كانت أسعاره ترتفع أيضًا بشكل متسارع مع التعويمات المتتالية للجنيه منذ مارس/آذار 2022.
يقول المندي للمنصة "ارتفع سعر طن علف الأسماك المحلي من 9000 لـ 31500 جنيه بين عامي 2022 و2023، واضطررت للتوقف عن شراء كميات جديدة منذ أربعة أشهر لأن التجار يرفضون البيع لنا بنظام الآجل، وليست لدي السيولة الكافية للتماشي مع هذه الأسعار".
ويشرح المندي تأثير تراكم الضغوط المالية عليه مضيفًا "بسبب نقص الأعلاف اضطررت لبيع إنتاجي من الأسماك كالطوبار و الدنيس و البوري و القاروص قبل استكمال دورتها السابقة، خاصة وأنني لا أقدر أيضًا على تدبير تكلفة شراء احتياجاتي من الزريعة المغذية للأسماك".
التعويمات المتتالية التي رفعت قيمة الدولار من 15.7 جنيهًا إلى نحو 31 جنيهًا في سنة واحدة، كان لها أثر تضخمي بالغ، ساهم في زيادة تكاليف أجور العمالة أيضًا، ما اضطر مندي للتخلي عن نسبة كبيرة من العاملين لديه.
كذلك امتد الأثر التضخمي إلى تكلفة عمل الحفار، التي ارتفعت بين العام الماضي والجاري من 180 جنيهًا في الساعة إلى 350 جنيهًا، و يستخدم الحفار في تقليب التربة و تطهير الأحواض كل دورة سمكية.
الدولة كمؤجر في قلب الأزمة
وفي محاولة لتخفيف آثار الأزمة، طالب مستأجرو المزارع السمكية بتدخل الدولة بشكل استثنائي لحل مشكلة المديونيات، وشهد البرلمان طلب إحاطة للحكومة بشأن هذه المطالبات، لكن لم تستجب الدولة حتى الآن لهذه المطالبات.
ويوضح المصدر المسؤول بهيئة الثروة السمكية، الذي تحدثت معه المنصة، أن غالبية المتعثرين متواجدون في نطاق محافظة دمياط، لاحتلالها المركز الأول في تعداد المزارع السمكية المستأجرة من الهيئة.
وتبلغ جملة المزارع في دمياط 1300 مزرعة تعثر منهم قرابة الـ 50%، وفقًا للمصدر، موضحًا أن إجمالي المستحقات المتأخرة على مزارع دمياط تبلغ الـ100 مليون جنيه.
وأوضح المصدر أن الإجراء الذي اتبعته الهيئة لتيسير مشكلة المتأخرات هي السماح للمتعثرين بتجديد عقد الإيجار في حال سداد 50% من المتأخرات، وهو الإجراء الذي اتبعه مندي قبل عدة أشهر لكي يحافظ على مزرعته ويتفرغ لمواجهة أزمة الدولار.
"البلطي" في مواجهة التضخم
لم يعانِ سالم نوارج من مشكلة ارتفاع إيجارات مزارع هيئة الثروة السمكية، إذ أنه يمتلك مزرعته الواقعة ببحر البقر في محافظة الشرقية على مساحة 200 فدان، لكن أزمة الدولار أربكت كل حساباته، إذ اضطر بسبب ارتفاع أسعار العلف أن يتوقف عن استزراع قرابة 60% من الأسماك في مزرعته وخاصة أسماك البلطي التي تعد أكثر استهلاكًا للأعلاف.
بجانب نقص الخامات، فإن تجار الجملة والتجزئة باتوا يشترون كميات أقل، نظرًا لارتفاع سعر المنتج النهائي الذي أثر على رغبة المستهلك في الشراء، يقول نوارج "لو تاجر كان بياخد 40 بوكسة (صندوق) بقى يشتري مني 20 بوكسة مع ارتفاع أسعار الأسماك".
وبحسب بيانات جهاز التعبئة والإحصاء فقد ارتفع سعر كيلو السمك البلطي بأكثر من 60% خلال الفترة بين بداية عام 2022 و2023، من 29.5 إلى 47.5 جنيهًا.
ووجد نوارج نفسه محاصرًا بين طلب أقل من تجار الأسماك وأسعار أعلى من تجار الأعلاف، ويرى صاحب المزرعة الذي تعمل أسرته في هذا النشاط منذ ستة عقود أن تجار الأعلاف المحلية استغلوا الأزمة وتعمدوا الحد من المعروض في السوق.
ويقول نوارج "في فترات عدة ذهبنا للتجار لشراء علف وفوجئنا بتحججهم بعدم توفره و أظهروه بعدما تخطى سعر الطن الـ 31500 جنيه وقد اشتروه في الأصل بسعر 20 ألف جنيه للطن".
من وراء زيادة سعر العلف؟
لكن تجار للعلف المحلي يرون أن الأزمة كانت أكبر منهم وأن الدولار هو المتحكم الرئيسي في الأسعار، حيث يقول عبده عيسى، تاجر علف في الجيزة للمنصة إن أحد أهم أسباب زيادة أسعار كل من العلف المحلي أو العالمي هو اعتماد مصر القوي على استيراد الخامات التي يُصنع منها العلف، من أنواع الحبوب المختلفة.
ويؤيده في الرأي مجدي الوليلي، عضو هيئة مكتب غرفة صناعة الحبوب باتحاد الصناعات، "سبب أزمة الأعلاف تحرير سعر الصرف و صعوبة تدبير العملة، من يستورد بضاعة تظل في الموانئ و يتكبد غرامات وأرضيات، و مثال على ذلك، يتداول سعر طن الذرة الصفراء بـ 31 ألف جنيه في مصر ما يعادل 1003.23 دولارًا بينما تكلفته في الخارج تقدر بـ 560 دولار فقط".
ويضيف الوليلي "التدابير النقدية و صعوبة التداول اللوجيستي بسبب ظروف الحرب بين روسيا و أوكرانيا لعبا دورًا كبيرًا في أزمة الأعلاف، نظرًا لأن دولتي الحرب توردان لمصر 60% من احتياجاتها السنوية من الأعلاف كفول الصويا والذرة، تليهما فرنسا ثم أمريكا ثم الأرجنتين".
وطالب الوليلي الوزارات المعنية بالأمن الغذائي من الري والتموين والزراعة والتجارة والصناعة والمالية بتشكيل منظومة و"لتكن المجلس الأعلى للأمن الغذائي لوضع خطة استراتيجية للتعامل مع مشكلة الأعلاف".
يستهلك المندي في الدورة السمكية الواحدة ما يتراوح من 20 لـ 30 طن أعلاف ورغم خسائره لم يستطع التخلي عن مزرعته "مفيش حد يتخلى عن أرضه ورزقه مهما حصل، زيها زي بيتي"، مطالبًا الدولة بدعمهم، مختتمًا حديثه قائلًا "معرفش مهنة غيرها. أجدادي اشتغلوا فيها من 1948".