على الرغم من فرض روسيا رسومًا على صادراتها، فإنها استطاعت الهيمنة على سوق القمح في مصر باستحواذها على نحو 70% من وارداته في 2023، وفق بيانات لوزارة الزراعة اطلعت عليها المنصة.
فلماذا تراجع دور فرنسا مقابل الصعود الروسي؟ وكيف أثرت أزمة الدولار على اتجاهات الاستيراد لدى القطاعين العام والخاص؟
فرنسا تتراجع بسبب الأسعار
في سبتمبر/أيلول الماضي، رفضت هيئة السلع التموينية عروضًا روسيةً بتصدير القمح لمصر، وقالت وكالة بلومبرج إن القاهرة تسعى لإحلال القمح الفرنسي محله، لكن حصيلة عام 2023 انتهت بتراجع الواردات الفرنسية بنحو 75%، وفقًا لتحليل المنصة لبيانات وزارة الزراعة.
"أسعار القمح الفرنسي المرتفعة كانت العامل الأساسي وراء الحد من وارداته في مصر، حيث تراوحت العام الماضي بين 260 و265 دولارًا للطن"، كما يقول لـ المنصة مسؤول عن ملف الحبوب في مكتب منظمة الغذاء العالمي/فاو في مصر، طلب عدم نشر اسمه.
ويتفق مع هذا الرأي مستورد للقمح من القطاع الخاص، تحدثت معه المنصة. وقال، شريطة عدم نشر اسمه أيضًا، إن "الشحنات القليلة التي استوردتها مصر من فرنسا تمت بأسعار أقل من 265 دولارًا للطن، لكن على مدار العام الماضي اتسمت الأسعار الفرنسية بالارتفاع في كثير من الأحيان عن هذا المبلغ".
وبلغت واردات مصر من القمح الفرنسي العام الماضي نحو 380 ألف طن.
ويفسر الخبير الزراعي نادر نور الدين لـ المنصة محدودية كميات القمح المعروضة من فرنسا على مصر إلى تركيز الأولى على التصدير لبلدان أخرى خلال الفترة الأخيرة، مضيفًا "زيادة اعتماد الصين على القمح الفرنسي أحد أبرز أسباب انخفاض وارداتنا منه".
وتحتل فرنسا المرتبة الرابعة بين أكبر موردي القمح لمصر، بينما تأتي بعدها دول أقل كثافة في التصدير للبلاد، مثل بلغاريا التي وصل حجم صادراتها العام الماضي إلى 115 ألف طن، وأستراليا 140 ألف طن، والولايات المتحدة 29 ألف طن، حسب بيانات وزارة الزراعة.
ويبقى لروسيا وأوكرانيا ورومانيا نصيب الأسد من سوق القمح المصرية، وإن كانت حصة رومانيا تراجعت العام الماضي بنحو 23%، وهو ما يُرجعه المستورد إلى "تكثيف الصادرات الرومانية للسوق الأوروبية خلال هذا العام".
لماذا نفضِّل القمح الروسي؟
استطاعت روسيا تقديم أسعار مقبولة لمصر خلال العام الماضي في العديد من الصفقات، بلغت 250 دولارًا للطن، رغم فرضها رسومًا متغيرة القيمة على صادراتها من القمح والذرة والشعير منذ يونيو/حزيران 2021 للحد من تضخم أسعارها، وصعدت الرسوم بحدة مع اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية في فبراير/شباط 2022، ووصلت لذروتها منتصف العام، لكنها عادت لمستويات معتدلة منذ 2023.
"خلال 2023، تركزت مشتريات الهيئة من القمح على روسيا، وبعدها أوكرانيا ثم رومانيا وفرنسا بكميات أقل، هناك عوامل تتحكم في اختياراتنا أهمها السعر والكمية المتاحة، ففي العام الماضي كان الروس يعرضون كميات أكبر"، كما يقول مصدر في إدارة التعاقدات بهيئة السلع التموينية لـ المنصة.
ويشير نور الدين إلى أن غزارة الكميات المعروضة من روسيا على مصر ترجع إلى "ضخامة" فوائضها من القمح "هناك نحو 7 دول كبار تتحكم في تصدير القمح للعالم، أولها روسيا التي لديها أكبر فائض".
واستطاعت روسيا التوسع في صادراتها عالميًا العام الماضي مستفيدة من انخفاض أسعار القمح التي وصلت ذروتها مع اندلاع حرب أوكرانيا، ما حد من التكلفة النهائية للقمح الروسي بعد الضريبة، وساعد موسكو على اقتطاع نسبة من حصة تصدير القمح الأوكراني للعالم.
وهو ما تكرر في الحالة المصرية، فبينما تعكس بيانات وزارة الزراعة نمو الصادرات الروسية لمصر من القمح خلال العام الماضي، تراجعت الصادرات من أوكرانيا بنحو 30%.
واردات أكثر في عام الأزمة
بصفة عامة، نما إجمالي الواردات المصرية من القمح خلال العام الماضي، رغم ضغوط نقص المتاح من النقد الأجنبي، وهو ما يأتي انعكاسًا لعجز وزارة التموين عن تحفيز المزارعين على توريد الكميات التي كانت تستهدف جمعها منهم، ما خلف فجوة تم تعويضها عن طريق الاستيراد.
وبحسب بيانات وزارة الزراعة، التي اطلعت عليها المنصة، بلغ إجمالي واردات القمح المصرية العام الماضي 10.9 مليون طن، مقابل 9.6 مليون طن في 2022.
ويقول المصدر بهيئة السلع التموينية إن الهيئة زادت من إجمالي وارداتها من القمح خلال العام الماضي بنحو نصف مليون طن، لتعويض نقص القمح في السوق المحلية، مع عجز القطاع الخاص عن التوسع في الاستيراد بسبب صعوبة تدبير النقد الأجنبي.
ويوضح المصدر ذاته أن "الهيئة اعتادت خلال السنوات الماضية استيراد نحو 5 ملايين طن، على أن يتكفل القطاع الخاص باستيراد كميات مماثلة، ويتم تغطية الباقي عبر التوريد المحلي الذي يصل إلى حوالي 4 ملايين طن، بجانب التوريد للقطاع الخاص، لكن العام الماضي لم يستطع القطاع الخاص تلبية الطلب المحلي بالشكل الكافي، ما دفع الهيئة لتعويض هذا النقص".
وفي مايو (أيار) الماضي، قالت رويترز إن مصر تواجه مصاعب مالية بشأن سداد مستحقات وارداتها من القمح، لكن ذلك لم يعطل حركة الشحنات المستوردة، وفق الوكالة.
ويقول المصدر بالهيئة "هناك أقساط لمستحقات خاصة بواردات الهيئة من القمح أعيدت جدولتها خلال العام الماضي، لكننا ملتزمون بسدادها وفق التوقيتات التي تم الاتفاق عليها".
توقعات العام الجديد
في نهاية ديسمبر/كانون الأول أعلنت روسيا زيادة الرسوم المفروضة على صادراتها من القمح بنحو 8% لتصل إلى 4165 روبلًا للطن، وقال نائب الرئيس الروسي في تصريحات هذا الشهر إن بلاده لا تعتزم إنهاء هذه الرسوم لما تمثله من أهمية لضمان توفير السلع الأساسية في السوق المحلية الروسية.
رغم ذلك، يتوقع المصدر المسؤول عن ملف الحبوب بالفاو استمرار اعتماد مصر على القمح الروسي بشكل كبير خلال 2024، وذلك حال استمرار الأسعار العالمية للقمح عند الحدود التي تقبلها. ويقول إن "مصر تعاقدت على أكثر من مليون طن قمح روسي تصل خلال شهري يناير/كانون الأول وفبراير/شباط 2024، وهو أكبر دليل على زيادة الاعتماد على القمح الوارد من موسكو في العام الجديد".
ويؤكد المصدر بهيئة السلع التموينية على رأيه، قائلًا "على الأرجح ستستمر الهيئة في الاعتماد بشكل كبير على القمح الروسي خلال 2024، طالما استمر المنشأ يقدم أسعارًا مشابهة لما أتاحه العام الماضي".
لكن المصدر المسؤول عن ملف الحبوب في الفاو يحذر من مخاطر تركيز اعتماد مصر على دولة واحدة فقط لتوريد هذه الحاصلات الاستراتيجية "خاصة وأن هذه الدولة مشتبكة في حرب طويلة قد تضطرها للتوقف عن التصدير فجأة، كما حظرت تصدير القمح الصلب مؤخرًا".
ويتفق معه مصدر منظمة الأغذية والزراعة، قائلًا إن أسعار القمح الروسي "قد تنقلب رأسًا على عقب فجأة بسبب الحرب".