هل مُلاءاتك قطن مصري؟
تحت هذا العنوان نشرت وول ستريت جورنال تحقيقًا صحفيًا في 24 أغسطس/آب 2016، أعدته الصحفيتان سارة نصار في نيويورك وبيرتيكا رانا في نيودلهي، يكشف تفاصيل عملية تحايل ترتقي إلى النصب قامت بها شركة ويلسبن، إحدى كبريات الشركات الهندية في صناعة المنسوجات.
باعت الشركة، وفق التحقيق، مفروشات منزلية على مدار سنوات لسلسلتي محلات Target وWallMart الأمريكيتين الشهيرتين، تحمل عبارة "100% قطن مصري" على كل قطعة، على غير الحقيقة. وصفت الصحفيتان ذلك بأنه استغلال لسمعة القطن المصري وشهرته، استطاعت الشركة من خلاله تحقيق مبيعات قُدِّرت بـ 898 مليون دولار خلال سنة واحدة.
خسرت شركة ويلسبن 42% من قيمتها السوقية خلال الثلاثة أيام التي تلت تلك الفضيحة، وعلق راجش ماندويولا، العضو المنتدب للشركة، قائلًا "الخطأ من جانبنا ويجب أن نتحمل مسؤوليتنا". وأشارت وكالة بلومبرج إلى أن فريقًا من المحققين اكتشف بتحليل عدد ضخم من الملاءات التي تباع الواحدة منها بأكثر من 75 دولار، أنها لا تحتوي على أي قطن مصري.
الأرقام هنا هامة؛ بلغت صادرات مصر في قطاع الغزل والنسيج والمفروشات خلال العام ذاته، 2016، مليارًا و300 مليون دولار: 800 مليون دولار للغزل والمنسوجات، و500 مليون دولار فقط للمفروشات المنزلية. أي أن قيمة ما صدرته الشركة الهندية منفردة حوالي ضعف قيمة ما صدرته مصر من مفروشات في ذات العام.
وخلال عام 2022، سجل القطاع كاملًا عوائد صادرات بقيمة 900 مليون دولار، أي ما يساوي تقريبًا صادرات الشركة الهندية منفردة عام 2016: 600 مليون دولار للمنسوجات، وقرابة 2.5 مليون دولار للملابس الجاهزة.
أشباح ملوَّنة في مُخيِّلتي
بالمصادفة، وفي 2016 أيضًا، كنت أعمل رئيسًا لقسم التحقيقات في جريدة التحرير. ولكن من واقع ارتباط العائلة بمجال الغزل والنسيج، فإن له في قلبي مكان خاص جعلني متورطًا بشكل ما في مشاكله وقريبًا من العاملين فيه. خصوصًا بعد تدخلي في منتصف عام 2011، حين كان بإمكاني التدخل، لحل أزمة في قطاع الغزل تفاقمت وقتها حتى كادت تتسبب في توقف المصانع عن العمل.
عرضتُ الأمر وقتها على الدكتور عصام شرف، رئيس الوزراء، وظللت أسعى على مدار ثلاثة أشهر بين مكاتب وزيري المالية والزراعة ورابطة أصحاب مصانع الغزل والنسيج، حتى تم حل الأزمة. فتوطدت علاقتي بكثير منهم واطلعت أكثر على أوضاع العمال والمصانع.
ثم قررت محاولة تصدير المنسوجات المصرية للخارج. من ناحية، كنت أظن أن بإمكاني تقديم شيء لصالح ذلك القطاع، وأنه سيكون لي مشروعي المستقل، الذي يعوضني فراغ التوقف عن العمل السياسي. بدأت مستندًا إلى رصيدي لدى المصانع وشبكة علاقات العائلة في المجال، وخصوصًا بمدينة المحلة الكبرى.
في منتصف 2016 زرت فرنسا وهولندا وبلجيكا، وقابلت عددًا من الشركات الهامة التي تستورد المفروشات المنزلية. ساعدني في ترتيب تلك اللقاءات مكاتب التمثيل التجاري في باريس ولاهاي وبروكسل.
اللقاء الأهم كان مع شركة مهيبة تدعى لاريدو، ومقرها قرية صغيرة بشمال فرنسا اسمها روبيه، قريبة من مدينة ليل. هناك التقيت مسؤول المشتريات وهو شاب يدعى بيري، واصطحبني في جولة بمقر الشركة الضخم، والذي كان بالأساس مصنعًا للمفروشات والملابس منذ عام 1837، ثم تحول إلى شركة تجارية فقط.
حكى لي بيري تاريخ الشركة بفخر شديد، وهو يتعجب من عدم لقائه بأي شركة مصرية طوال سنوات عمله. أخبرني أن حجم أعمالهم في العام السابق، 2015، تجاوز 600 مليون يورو، مقسمين بين الأثاث والمفروشات المنزلية والملابس. وأن نصيب المفروشات المنزلية، خصوصًا الملاءات، بلغ 100 مليون يورو. يستوردونها قطنية من باكستان والهند وبنجلاديش بقيمة 70 مليون يورو، وكتانًا من الصين بما قيمته 30 مليون يورو.
قال لي بيري "عزيزي ناصر، لدينا توجه في الشركة لوقف التعامل مع الصين، لهذا أنت هنا في الموعد المناسب تمامًا، يمكنني أن أنقل استيرادنا من الملاءات المصنوعة من الكتان إلى مصر بالكامل، إذا استطعت أن تضمن لنا نفس أسعار الصين".
العالم قاسٍ يا أمي لا يعترف بإنتاجنا القليل، يسمع عنا فقط ولكنه لا يرانا ولا يعرفنا
ركبتُ القطار عائدًا إلى باريس والسعادة تفرتك مشاعري الغضة، فلديَّ فرصة لتعاقد قيمته 30 مليون يورو في العام. يجب أن أنهي مقابلاتي المتبقية سريعًا وأعود إلى مصر، لن أتحمل المكوث هنا طويلًا والثروة تطوف بأشباحها الملونة في مخيلتي.
عزيزي ناصر
في اليوم التالي لعودتي إلى القاهرة، بدأت البحث عن مصانع الكتان. أرسل لي بيري إيميل بالأصناف وأسعار استيرادها من الصين. كان دقيقًا وجادًا ولم يضيع الوقت في التفاوض على الأسعار. ولكن صدمتي كانت أنني بعد مشقة غير هينة لم أجد سوى مصنعين فقط يمكنهما تصنيع ملاءات من الكتان؛ أحدهما في مدينة العبور والآخر في مدينة السادات. وبعدما تمكنّا من ضبط السعر ليساوي سعر الصين، كان إجمالي ما يمكن للمصنعين مجتمعين تصديره هو ما قيمته 4 ملايين يورو فقط في السنة، في حال توجيه كامل طاقتهما لذلك الإنتاج فقط.
أخبرت بيري بالأمر، وكان رده حاسمًا "عزيزي ناصر، يجب أن أحصل على الكمية كلها من مصر، وإلا فلن يمكننا إنهاء التعامل مع المصنع الصيني". بعد شهور أخرى من الدعبسة، وجدت مصنعًا آخر بالمنطقة الحرة في برج العرب، طاقته الإنتاجية مقاربة للمصنعين السابقين. فراسلتُ بيري مرة أخرى على سبيل الغتاتة، فردَّ قائلًا "عزيزي ناصر، لقد تعاقدنا بالفعل مع مصنع في البرتغال لتوريد الكمية كاملة".
يا حزني، طارت العملية. العالم قاسٍ يا أمي، لا يعترف بإنتاجنا القليل، يسمع عنا فقط، ولكنه لا يرانا ولا يعرفنا.
بدايات بنجلاديش
قررت الدولة بعد استقلالها عن باكستان استخدام ما لديها من إمكانيات، ولكن إمكانياتهم تنحصر في البشر من عمالة رخيصة وغير مدربة، وأسعار طاقة معقولة. إذن، فما يناسبهم هو التصنيع كثيف العمالة. أسست بنجلاديش أول مصنع للنسيج في نهاية السبعينيات.
وضعت الدولة استراتيجية لخلق ذلك القطاع من العدم وتطويره، فأرسلتْ الفنيين للتدريب في كوريا الجنوبية، ثم أنشأت وحدات صناعية صغيرة.
ومن ناحية أخرى، تحارب بنجلاديش الفقر المستشري في البلاد، والمرض وتلوث المياه وعدم توفر الصرف الصحي، مع الكثافة السكانية العالية: 165 مليون نسمة على 148 ألف كيلو متر مربع فقط. وتواجه كذلك مصاعب توفير العملة الصعبة لاستيراد المواد الخام من الأقمشة والغزول والصبغات والإكسسوارات، حيث إنها بلد عديمة الموارد تقريبًا.
بعد عدة سنوات، أدركت بنجلاديش أن الحصول على نسب جيدة من السوق العالمية يتطلب إنشاء وحدات صناعية ضخمة، وأن وحداتهم الصغيرة والمتوسطة لن تكفي. سهلت الدولة الطريق للقطاع الخاص، وتبنت سياسات عامة محفزة، تنظم السوق وتراقبه، وتُيسر عمل المستثمر المحلي والأجنبي.
جاءت النتائج سريعة ومبهرة، زادت الطاقة الإنتاجية أربع مرات في أول عشر سنوات، والعديد من البراندات العالمية وشركات التوزيع الكبرى في أمريكا وأوروبا نقلت طلبياتها إليهم. ومع انقضاء العقد الرابع على تأسيسهم لأول مصنع نسيج، حققت بنجلاديش صادرات نسيجية للعالم بما قيمته 35 مليار دولار، يذهب أغلبها لأمريكا ودول الاتحاد الأوروبي، لتصبح ثاني مصنع للملابس في العالم بعد الصين. ويتوقع الخبراء أن يصل الرقم لـ100 مليار دولار في العقد المقبل.
جولات مع الفضيحة
بعد مرور شهر ونصف على فضيحة الشركة الهندية سالفة الذكر، وتحديدًا في 12 أكتوبر/تشرين الأول 2016، استقبل طارق قابيل، وزير التجارة والصناعة آنذاك، ومعه وائل عُلما، رئيس جمعية قطن مصر، وفدًا رفيع المستوى من تلك الشركة الهندية، يرأسه عضوها المنتدب راجش ماندويولا.
بعد اللقاء، أصدرت الوزارة بيانًا جاء فيه أن الوزير شدد على أهمية الاستفادة من شعار القطن المصري المعتمد دوليًا والمحافظة على سمعة الأقطان المصرية، وقال وائل عُلما إن الشركة الهندية تعهدت بعدم الإساءة للقطن المصري، وبإجراء تحقيق داخلي في التزوير لضمان عدم تكراره. وشدد قابيل مرة أخرى أن لدينا مشكلة كبيرة لأننا لا نمتلك براند مصري للصناعات النسجية.
هل أعجبتك حمشنة التصريحات؟ رئيس الشركة الهندية لن يغمض له جفن قبل عكش الجاني الذي وضع علامة القطن المصري على ملايين الأطنان التي خرجت من المصنع دون علمه.
سأعثر على مصنع
في رحلة بحثي المضنية للعثور على مصانع مميزة يمكنها تصدير كمية كبيرة بسعر جيد وجودة عالية، وصلت للسيد سعيد أحمد، صاحب مصنع نايل لينين، في برج العرب. وهو أيضًا رئيس غرفة تصدير المفروشات. كان بحوزتي طلبية أخرى من شركة فرنسية تدعى جارنيه تيبو، لتوريد صنف يُسمَّى ستان باند، وملاءات مُصنَّعة من القطن المصري.
لم أصدق ما رأيت؛ ما هذا الصرح العملاق؟ كل ما في المصنع مبهر، العنابر والماكينات والعمال والفنيين. حجم إنتاج ضخم بجودة عالية وبأسعار تنافسية للغاية. كل إنتاج المصنع للتصدير، كل مراحل التشغيل تتم داخله من صناعة القماش وتجهيزه، ثم الصباغة، فتقفيله ليتحول لملاءة. يساعده ذلك في ضبط التكاليف، كما أن وجوده في المنطقة الحرة يعفيه من جمارك مستلزمات الإنتاج من الغزول ومواد الصباغة.
شعرت أنني وجدت ضالتي، ولكن خازوقًا صغيرًا حال دون تنفيذ الطلبية، كان للمصنع وكيل معتمد في فرنسا، وبالتالي لا يمكنه التصدير إليها بعيدًا عنه، ولكننا اتفقنا على التعاون إذا جد جديد من دول أخرى.
سأعثر على مصنع آخر
بحثت مرة أخرى، وعثرتُ على مصنعين صغيرين جيدين في مدينة السادات، أعطوني الأسعار وأرسلتها لإيريك، مدير مشتريات الشركة الفرنسية، فأرسل لي إيميل تكاد تصدر منه أصوات غير لائقة؛ فالأسعار تقارب ضعف ما توقعه. رددت بإيميل من سطر واحد مستهبلًا؛ "عزيزى إيريك.. الأسعار مرتفعة لأنك طلبت تصنيعها بقطن مصري، وهو أغلى كما تعلم"، فرد بصيغة استنكارية سكندرية، قائلًا "ناصر.. نحن نستورد بالفعل ملاءات مصنوعة من القطن المصري من دول أخرى ونعرف الأسعار جيدًا".
كنت أتحايل لحفظ ماء الوجه، ولكني كنت أعرف السبب؛ الغزل المصري الذي تستعمله تلك المصانع مرتفع الثمن لأنهم يرسلون أقمشتهم للتجهيز في أحد مصانع العاشر من رمضان، ثم يشترون مواد الصباغة بأسعار مرتفعة، فيصنعون منتجًا جيدًا ولكن غالٍ، للسوق المحلية.
يريحون أدمغتهم من استيراد الغزول الرخيصة ومستلزمات الإنتاج المعفية من الضرائب ثم انتظار دعم الصادرات. من وجهة نظرهم عملية التصدير مهلكة وغير مضمونة، ولا قبل لهم بالمنافسة مع دول أخرى، وبالتالي فالبيع للسوق المحلية أسهل وأريح.
كل ما تنتجه مصر من القطن يساوي نصفًا بالمئة من الإنتاج العالمي
سألت عن مصانع أجنبية فلم أجد سوى إخوتنا السوريين، وهي مصانع عالية الجودة خصوصًا في أصناف القماش والوبريات، ولكن أسعارها مرتفعة أيضًا.
أمر طبيعي إذن ألا يلغوص مستثمر أجنبي يديه في ذلك النوع من التصنيع بكل تلك المشاكل.
باظت العملية وبدأ الإحباط يتسلل لقلبي، ولكنني قاومته وقلت لنفسي يا واد طب ما تروح السعودية يمكن السوق الخليجية تبقى أحنّ علينا من الأوروبيين.
ملاحظة جانبية عن بنجلاديش
قامت هيئة الاستثمار في بنجلاديش بدمج 56 خدمة حكومية في منصة واحدة شاملة لتقدم من خلالها تجربة خالية من المتاعب للمستثمرين المحليين والأجانب، واستقبلت خلال عامي الأزمة لجائحة كورونا، 2020 و2021، مقترحات للاستثمار الأجنبي المباشر بقيمة 21 مليار دولار.
تذهب تلك الاستثمارات في الأغلب لقطاعات باتت مضمونة الربحية والتطور، مثل الملابس والمنسوجات والإلكترونيات والأدوية والجلود والبلاستيك والبنية التحتية والمعدات الطبية.
خلفية عن جمعية قطن مصر
في عهد أمين أباظة وزير الزراعة الأسبق، تم تأسيس ما سمي بـ"جمعية قطن مصر"، ومنحها الحق الحصري لبيع شعار "100% قطن مصري" للشركات الراغبة فيه سواء محلية أو أجنبية. ترسل الشركة طلبًا وعينات لتحليلها، وتسدد الرسوم للجمعية. بعدها يتم إرسال شهادة حق استخدام الشعار المصري للعميل.
صرح عمرو شومان، المدير التنفيذي للجمعية، في وقت سابق لوكالة بلومبرج أن قيمة الرخصة 5000 دولار، بالإضافة إلى 3000 أخرى تدفع سنويًا.
على سبيل الذكر، فرئيس جمعية قطن مصر هو وائل علما، وتزامن ذلك مع تولي هاني علما رئاسة مجلس إدارة الشركة العربية لحليج الأقطان، وهي الشركة ذاتها التي كان أمين أباظة رئيس مجلس إدارتها قبل توليه الحقيبة الوزارية في 2005، وكذلك كان المساهم الأكبر فيها. وشابت الشركة في تلك الفترة شبهات لتضخم حجم أعمالها خلال السنوات السابقة على ذلك، وشرائها شركات الأقطان والمحالج الكبرى في مصر حتى صارت الأكبر دون منازع.
كما نشرت اليوم السابع تحقيقًا مطولًا في 25 يونيو/حزيران 2009 حول انهيار زراعة القطن في مصر في عهد أمين أباظة، لإفساح المجال لبيع أراضي المحالج في سوق العقارات. ولكن لا تعنينا تلك القضية الآن.
على موقع الجمعية، ستجد أن قرابة 200 شركة حازت رخصة استخدام الشعار، أغلبها مصانع من مصر والبرتغال وتركيا وبنجلاديش والهند وباكستان والصين. المفترض أن هؤلاء يستخدمون قطنًا مصريًا خالصًا في إنتاجهم، وهو ما لا يحدث بالطبع.
فشركة ويلسبن الهندية صاحبة الفضيحة، التي لا زالت تحمل رخصة الشعار حتى الآن، كانت اشترت بالفعل كميات من القطن المصري، ولكن ما حدث ويحدث أن الشركات تشتري كميات قليلة منه لتحصل على الحق القانوني لاستخدام الشعار ثم تستخدم قطنًا آخر لتصنيع طلبياتها الضخمة.
هذا أمر بديهي للغاية، خصوصًا وأن كل ما تنتجه مصر من القطن يساوي 0.5% من الإنتاج العالمي، ما يقدر بـ125 ألف طن في عام 2022، بينما ينتج العالم ويستهلك أكثر من 26 مليون طن، تنتج منهم الصين والهند وحدهما حوالي 12 مليونًا، ثم أمريكا 3.5 مليون طن، وباكستان 2.3 مليون طن، والبرازيل وأوزبكستان وتركيا وأستراليا قرابة المليون طن لكل منهم، والأرجنتين واليونان والمكسيك وبوركينا فاسو ومالي قرابة الـ 300 ألف طن لكل منهم.
السعودية.. محاولة جديدة
المهم، ذهبت إلى السعودية، والتقيت العديد من الشركات الكبيرة والمتوسطة والصغيرة. لم تتردد على مسامعي في كل مقابلة سوى باكستان وأسعار باكستان، والجودة المقبولة مقابل السعر الجيد. وزاد الطين بلة أن أغلب الشركات التي تورد مفروشات الفنادق تريد جودة منخفضة وملاءات مصنوعة من خليط القطن على البوليستر.
فروق الأسعار بين ما أعرضه وما لديهم كانت في حدود 20 سنتًا لكل كيلو، أي أن نصيب القطعة من ذلك الفارق قد لا يتجاوز 5 سنتات، ولكن الجميع كان مصممًا على الحصول على السعر نفسه لنقل جزء من طلبياتهم إلى مصر.
عدت إلى القاهرة ومعي عدد من الطلبات تحتاج للرد، لكن لم يكن لدي أمل كبير، فقد فهمت الموقف، وسبق واتلسعت مشاعري.
4 نوفمبر 2016
"الضباب كان بات ليلتها ع القزاز.. والدموع غيمة في عيون الوجود" على قول عبد الرحمن الأبنودي. وصلت المصنع حيث الترقب يعلو الوجوه، الجميع متجهم. الإداريون والعمال والفنيون وعاملات التعبئة، لم أستطع ملاطفة أحد كما كنت أفعل عادة.
دخلت مكتب صاحب المصنع؛ الحاج عزت الغنام رحمه الله، وكان رجلًا أصيلًا في الصناعة، فوجدته غارقًا مع مدير المصنع في حساب التكاليف الجديدة بعد قرار صدر اليوم السابق. قال لي كأنه يلومني "تعالى اتفرج ع الإيميلات اللي العملا باعتينهالنا ع الصبح".
أرسل العملاء الأجانب، خصوصًا الأوروبيون، إيميلات للمصانع التي يستوردون منها في مصر، بمجرد علمهم بقرار التعويم، طالبين منهم تخفيض الأسعار، حسب النظرية الاقتصادية السائدة بأن خفض العملة يقلل أسعار المنتجات ويزيد المنافسة التصديرية. ولكنهم تلقوا صدمة ليست هينة، إذ أن الأسعار لن تنخفض وحسب، بل لن تستمر على وضعها الحالي، ستزيد.
سعر الغاز صار بـ4.7 دولار لكل كيلو، كان بالأمس 41 جنيهًا، واليوم 90 جنيهًا. سعر الغزل المستورد شرحه، سعر مواد الصباغة شرحه، كذلك الإكسسوارات. كما سيتوجب زيادة أجور العمال من 20 إلى 30% كحد أدنى.
وبحساب فروق التكلفة التي حدثت بين ليلة وضحاها، صار لزامًا على المصنع، وكان متخصصًا في الوبريات، زيادة سعر الكيلو الواحد ما بين 20 و30 سنت، وهو رقم كبير جدًا، لم يتقبله بعض العملاء وأنهوا تعاملاتهم مع كثير من المصانع المصرية.
أما الآن في 2023، لكي ندرك حجم الفاجعة، علينا أن نعرف أن باكستان والهند تبيعان الكيلو ما بين 6 و6.5 دولار، بينما تبيع المصانع المصرية الكيلو ما بين 7.45 و8.20 دولار، ويمكنك أن تتخيل كم من العملاء فقدت مصر مع تلك الأسعار.
طارت طلبيات السعودية والحمد لله.
هنلاقي مكان أكيد
تقمصت شخصية القرموطي عندما وضع أمامه الكرة الأرضية ليبحث لوحيد ابنه عن دولة يسافر إليها، واستقريت في النهاية على التوجه إلى إخوتنا الغلابة اللي زينا، سأجد هناك صدرًا حنونا يتسع لمنتجاتنا. وصلت إلى نيروبى عاصمة كينيا، زرت الأسواق الشعبية وعدة شركات. يسمون كينيا العاصمة الاقتصادية لإفريقيا.
تستورد الشركات في كينيا منتجات وتعيد تصديرها إلى دول إفريقية أخرى، في مجال المنسوجات رأيت سيطرة الصوماليين على الأسواق الشعبية، وسيطرة الهنود، الذين قابلت منهم جيلًا ثانيًا وثالثًا، على المنتجات الأجود.
أما نحن فمازالت أسعارنا غير تنافسية، ولكن الفرص موجودة وأسهل. لم تكن الأسعار هي المشكلة الأكبر هذه المرة، بل طبيعة إدارة البيزنس هناك. الطريقة الأسلس وقتها كانت نقل البضائع إلى مخازن في كينيا، ثم بيعها للتجار على مراحل، أما التصدير على الطريقة الأوروبية، فهو غير منتشر.
يد القدر تنقذني من الأرق
عدت إلى مصر، بدأت رحلة جديدة لسد ذلك الخرم الجديد الذي ظهر ولم يكن على البال. وصلت لإحدى شركات الأدوية الكبيرة التي تعمل في كينيا، ومقرها في شارع دمشق في حي المهندسين في الجيزة. تقدم الشركة خدمة تخزين بضائع متعددة في مخازنها بنيروبي مقابل رسوم، حتى يتمكن أصحابها من تصريفها.
وبينما كنت على وشك اتخاذ تلك الخطوة، طلب مني أحد الأصدقاء العمل معه على تنفيذ فيلم وثائقي طويل. فاعتبرت ذلك نداءً من القدر لأنهي انغماسي في تلك المأساة، وقد كان.
تفرغت تمامًا للفيلم وعملي الصحفي.
مصنع غزل جديد كبير حديث
في 17 يناير/كانون الثاني 2023، تفقد وزير قطاع الأعمال إنشاءات مصنع غزل 1 الجديد في شركة غزل المحلة، استعدادًا لبدء العمل فيه. وفي 13 فبراير/شباط زار رئيس الوزراء شركة غزل المحلة أيضًا، للأمر نفسه، وللإعلان عن تبني الدولة مشروعًا قوميًا للنهوض بصناعة الغزل والنسيج، وإضافة لما سبق في هذا المقال الطويل، لنا وقفة بخصوص مصنع الغزل الجديد.
المصنع ضخم بالفعل، على مساحة 62 ألف متر، والماكينات حديثة، والطاقة الإنتاجية للمصنع 30 طنَّ غزل في اليوم. ولكن يجب أن نعلم أن ذلك المصنع هو لإنتاج الغزل الرفيع، وهي أنواع الغزول الممتازة التي تستخدم لصناعة الملابس غالية الثمن؛ قميص أو تيشرت أو ما شابه.
والرفيع هنا تصف درجة الغزل لا تُمجّده. أما ما تستخدمه المصانع لإنتاج المفروشات المنزلية فغزول من قطن قصير التيلة بسمك أكبر حتى تصل لأفضل نوع غزل تستخدمه المصانع التي تنتج ملاءات بجودة عالية جدًا للتصدير، والمصنع الآن في انتظار 500 ماكينة نسيج جديدة يمكنها تشغيل الغزل الرفيع.
يعني هذا أن مصنع الغزل الجديد ستكون كل طاقته الإنتاجية للتصدير، وهو شيء نظريًا جيد، لكنه لن يساعد في حل أزمة صناعة المنسوجات في مصر، التي تعتمد الآن على الغزل السوداني الذي قامت الصين بتطويره مؤخرًا نظرًا لأن جودته معقولة وسعره رخيص (115 جنيهًا للكيلو) وهو مناسب لصناعة الوبريات. أما مصانع البياضات والمفروشات الأخرى فتعتمد على الغزل الهندي والباكستاني.
ويجب ألا ننسى هنا أن المساحة المزروعة من القطن المصري تضاعفت مرة ونصف في عام 2022، فوصلت لـ350 ألف فدان، لأن الفلاحين باعوا محصولهم لعام 2021 بقيمة جيدة، 8000 جنيه للقنطار. أما محصول عام 2022 فاضطر الفلاح لبيعه بـ5700 جنيه للقنطار، مما يعني أن تراجعًا ما قد يحدث بداية من هذا العام لأن السعر لم يكن مرضيًا للفلاحين.
البراند المصري
أثناء فضيحة الشركة الهندية، التي ذكرناها في بداية المقال، عام 2016 قال طارق قابيل وزير التجارة والصناعة إن أزمة مصر أنها لا تمتلك براند لمنتجاتها النسيجية. الآن في 2023 أصبح هناك شركة تدعى "إي سي إتش" وهي المسؤولة عن الترويج والتعاقد مع العملاء الأجانب لكل منتجات شركات الغزل والنسيج الحكومية.
أطلقت الشركة علامة تجارية مصرية اسمها نيت. ومن المفترض أن يذهب جزء من إنتاج مصنع الغزل الجديد للتصدير كغزول، والجزء الآخر يستخدم لصناعة منتجات تحمل العلامة التجارية المصرية الجديدة.
الفكرة جيدة، ولكن عوامل نجاحها تعتمد بالأساس على التصميمات المبتكرة والجودة التي سيكون عليها المنتج النهائي. والأمر الآخر هو القدرة على التسويق عالميًا وصناعة براند مصري يضاهي البراندات الأخرى. وإلا سيتحول الموضوع لمجرد فرقعة إعلامية.
وفي كل الأحوال، تظل أزمة صناعة الغزل والنسيج والملابس الجاهزة في مصر كبيرة، وأكبر من ذلك المصنع. ويظل ما يمكن أن يقدمه هذا القطاع للاقتصاد المصري ولحركة السوق الداخلي وللتصدير أكبر بآلاف المرات مما هي عليه الآن.
إنها صناعة الفرصة الضائعة على مصر، ويجب الإشارة إلى أنها لا تحتاج سوى قرار واع عن دراسة وفهم لماهية القطاع للنهوض به. فالمصنع، أيًا كان حجمه، يمكن إنشاؤه وبدء العمل فيه وتصدير منتجاته في عام واحد فقط. ولكن الأهم هو رعاية القطاع وتوفير دعم الصادرات والطاقة وعودة مدارس النسيج وتسهيل الاستثمار والترويج الذكي الملائم لطبيعة كل سوق، وبناء وحدات تصنيعية كبيرة.
وبالطبع يحتاج كل ذلك إلى بيئة اقتصادية مطمئنة ووضع سياسي معقول.
سلام
لم تخل الأعوام الثلاثة التي اقتربت فيها من هذه الصناعة من بعض النجاحات التصديرية، حتى وإن كانت قليلة وبربحية زهيدة.
وفي تلك المرات القليلة كانت تتسني لي مجاورة العمال والفنيين لفترات طويلة لمتابعة الإنتاج، والانغماس في كامل العملية الإنتاجية حتى اللحظة الرائعة التي يعطي فيها الكونتينر ظهره لمخزن المصنع، ليتشبع بكراتين المنسوجات، ثم يتدحرج خارجًا منه لأحد المواني المصرية.
كلها كانت أوقات سعيدة بالنسبة لي، ولكنها لم تكن تستحق كل تلك المعاناة.