عدت إلى ممارسة الرقص بعد توقفٍ لسنوات. في الأشهر القليلة الماضية، تمكنت من اتخاذ القرار ﻻستئناف الرحلة التي بدأتها كجزء من برنامج العلاج النفسي الذي نصحني به طبيبي المعالج، عن طريق تعلم إحدى الرقصات المفضلة لدي، فاخترت السالسا، الرقصة اللاتينية التي ظهرت في بدايات القرن الماضي. لكنَّ العودة لم تكن بتلك السلاسة.
أثناء التدريب، كثيرًا ما أستقبل تعليقات من قبل مدرب الرقص حول تيبس جسدي وانعدام انسيابيته أثناء الحركة، رغم أنها ليست المرة الأولى التي أرقص فيها، وهو ما جعلني أفكر في الأمر بعيدًا عن الرقص في حد ذاته.
لماذا يتصلب جسدي هكذا كثيرًا في منتصف الرقص؟ لماذا لا يستجيب للحركة المطلوبة منه في ارتياح وتناغم مع الموسيقى كما يجب؟ وإن كان السبب يكمن في نقص الخبرة، فلماذا يستطيع شركاء الرقص من الرجال تحريك أجسامهم بحرية أكبر مع الموسيقى، بينما لا أتمكن أنا من الشيء نفسه رغم تقدمي عليهم بحكم الخبرة السابقة لديّ؟
ذكورية الرقص المشترك
ألحت علي تلك الأسئلة، وفي محاولة تفكيكها وجدتني في مواجهة مع حقيقة "ذكورية الرقص المشترك"، حتى وهو الفعل التحرري الذي لجأت إليه هربًا من تأثيرات المجتمع علي.
ولتوضيح بعض النقاط البسيطة حول رقصة السالسا، باختصار وبعيدًا عن تفاصيل أو تقنيات الرقصة نفسها، فالسالسا هي رقصة مبنية بالأساس على وجود طرفين (امرأة ورجل) يؤديان بعض الخطوات الأساسية معًا، ويعتمد على نقل وزن الجسم من إحدى القدمين إلى الأخرى أثناء المشي بانسجام مع الموسيقى، ليؤدي التحول المستمر إلى حركة الجسم بنمط معين يشكّل الرقصة. وقيادة الخطوات أثناء الرقص تكون للرجل، وبالتالي فإن التبعية تكون من نصيب المرأة، علمًا بأن هكذا هو الحال في كافة الرقصات الزوجية.
وضمن ما لفت انتباهي على مدار الشهور الماضية اختلاف الأداء بين حركة جسدي وحركة أجساد الرجال بشكل عام، ففي حين أتحسس أنا خطواتي وأتوخى شديد الحذر عند الاقتراب من الرجل شريك الرقص، يتحرك الرجال بخطوات أكثر جرأة وحرية، بل قد تكون عنيفة في بعض الأحيان، عنفًا غير مقصود، يحدث بشكل تلقائي دون حتى أن يلاحظه صاحبه.
مع التركيز أكثر، لاحظت أن الرجال عادة ما يجدون أريحية في كسر المساحات المكانية مع شريكات الرقص من النساء، ويتعاملون مع مساحات وجود الجسد الأنثوي كأنها ملكية لهم، دون حتى الشعور بذلك أو إدراكه، بل لاحظت افتقاد معظم الرجال، خاصة قليلي الخبرة في الرقص، إلى ما يعرف بالوعي أو الإدراك المكاني (spatial awareness/ perception)، أو إدراك الفرد للبيئة المادية المحيطة وما تحتوي عليه هذه البيئة.
وبحسب مقال "ما هو الإدراك المكاني في الرقص"، يعبر مصطلح الوعي أو الإدراك المكاني، عن الدرجة التي نفهم بها الفضاء المحيط بنا، وعلاقة الأشياء فيه ببعضها البعض. بالتالي فإن الإدراك المكاني يحدد فهمنا لكيفية تحركنا عبر تلك المساحات، وعلاقتنا بالمساحات الفارغة و الأشياء من حولنا. كذلك يشير المقال إلي أن الرقص في حد ذاته هو تعبير جسدي ناتج من التحرك في هذا الفضاء، لذلك يجب أن يكون هناك تنسيقًا في التحرك في نفس الفضاء المكاني بين الراقصات والراقصين.
لكن ما يحدث فعليًا هو أقرب لاستحواذ الرجال على المساحات التي تفصل بينهم وبين النساء اللاتي تشاركهم الرقص والحركة في هذا الفضاء. والمثير للدهشة، أن ذلك يتم بأريحية تامة من قبل الرجال دون الانتباه إلى حدوثه أو حتى الشعور بهذا "الاقتحام" في بعض الأحيان لمساحات للنساء. في الوقت نفسه، يمكن الانتباه إلى أن حركة النساء المبتدئات تصبح مقيدة وغير حرة أثناء الرقص، ليس فقط في ما يتعلق بحرية التحرك في المساحة الفاصلة بينها وبين الرجل، بل أيضًا على مستوى حركة جسدها شخصيًا وانسيابيته.
فضاء تحكمه الخبرات السابقة
راقبت حركتي الشخصية أثناء الرقص مع الرجال، فوجدت أنها دومًا مليئة بالتشكك وعدم الثقة، بل والحذر في أحيان كثيرة. لا أنكر أن الشعور بالتهديد هو الأكثر إلحاحًا لديّ أثناء الرقص، فغالبًا ما أقع فريسة للإحساس بالخوف وترقب أي غزو أو اعتداء ممكن.
بات هذا الشعور بالخوف والتهديد يتولد تلقائيًا بمجرد الوجود في مساحة مكانية قريبة مع رجال، فتتبعه خطواتي الحذرة، وكأن جسدي قد تمت برمجته على التصرف بهذا الشكل في وجود أي مساحة مشتركة مع الرجال، حتى ولو لا يمثلون تهديدًا آنيًا بالضرورة، بالتالي، ينعكس ذلك على جسدي الذي يمكن بسهولة ملاحظة حركاته أثناء الرقص، كأن أخطو خطوات واسعة فأبتعد مسافة أكبر عن الرجل يمكن أن تخرجني من المجال المكاني للرقصة، لكنها حيل دفاعية بات جسدي ينفذها بشكل تلقائي دون قصد مني، وكأن اعتداءً على وشك أن يقع وعليه أن ينتبه جيدًا حتى نستعد لمواجهته.
كذلك يمكن ملاحظة تذبذب حركتي أثناء الرقص وعدم القدرة على أداء الخطوة بثقة، فهناك دائمًا شعور داخلي بالفزع من احتمالية لمسي بشكل غير مرغوب فيه، أو أن تسقط يداه على جسدي مثلًا دون أن أسمح بذلك، في ظل إدراكي لتجاهل أغلب الرجال في مجتمعاتنا لمفهوم القبول (Consent)، والذي يظهر في سهولة وارتياح الرجال لتجاوز مساحتي الشخصية أثناء الرقص، والتعامل مع جسدي كأنه شيء أو أداة يمكن تحريكها كما يشاء الرجل، وفق هواه في هذه اللحظة في هذا المكان.
رواسب المجتمع الأبوي
ما أشعر به ليس غريبًا، فسرته الباحثة إريس ماريون يونغ في مقالها "الرمي كفتاة"، بأن حركة النساء في الفضاء المكاني لا يمكن تحليلها بمعزل عن السياق الثقافي والاجتماعي والتاريخي كذلك لهؤلاء النسوة. لذلك، ترى إريس يونج أن المرأة وفقًا لموقعها في المجتمع تعتبر "محرومة ثقافيًا واجتماعيًا من الذاتية والاستقلالية والإبداع، التي تعتبر قطعية من كونها بشرية، والتي تُمنح للرجل في المجتمع الأبوي".
ويمتد تفسير الباحثة لحركة الجسد الأنثوي في الفضاء المكاني تبعًا للسياق المجتمعي والثقافي المفروض عليها، لميل النساء إلى عدم وضع أجسادهن بالكامل في أي مهمة بدنية بنفس السهولة والطبيعية مثل الرجال، بسبب افتقار النساء إلى الثقة الكاملة في أجسادهن لحملهن إلى أهدافهن، فتصبح مشاركة النساء الجسدية في الأنشطة مرتبطة بالخجل وعدم اليقين والتردد، كما لو كن "معوقات جسديًا" بحسب وصفها.
وتضيف أن المرأة في المجتمعات الأبوية المتحيزة جنسيًا تكون "حبيسة جسدها وموضعه"، فتشعر أن عليها تقسيم انتباهها بين المهمة المراد أداؤها والجسم الذي يجب أن يتم تحريكه لأداء هذه المهمة، وفي نفس الوقت حماية نفسها من أي أذى محتمل. ذلك كون المرأة تعيش خطر غزو مساحة جسدها بشكل مستمر، ما يجعلها تميل إلى إبراز حاجز وجودي يحيط بهن وغير متصل بالـ "هناك" من أجل إبقاء الآخر على مسافة، بحسبها. علمًا بأن إريس يونٌ في هذا البحث تتناول استخدام الجسد لتحقيق غاية محددة مثل رمي الكرة، فما بال حركة النساء في مساحات تحررية مثل الرقص ليست بهدف الوصول إلى هدف محدد ملموس، وإن كانت له أهداف أخرى غير ملموسة.
الرقص بوعي نسوي
وهكذا بدات أشعر بعبء يمثله علي الرقص المشترك مع الشعور بالتفوق الذكوري والمحاولات الواهية في إثبات الرجولة والقدرة على قيادة الرقصة، حتى أن بعض الرجال لا يجدون ضيرًا في جذبي ودفعي مع كل حركة في أحيان كثيرة، دون اعتبار لوجودي الأول كإنسان، فضلًا عن مشاركتي المساوية للرجل في نفس الرقصة. وهذا إن دل على شئ فهو يدل على مدى الاستحقاق الذي يتمتع به الرجال في هذا المجتمع على النساء وأجسادهن، وشعورهم بالملكية المطلقة لجسد المرأة، حتى وإن كانت مجرد امرأة غريبة عنهم أو مجرد شريكة رقص يلتقونها مرة واحدة في الأسبوع.
بطبيعة الحال، لم تكن هذه الأفكار لتخطر على بالي منذ سنوات ليست ببعيدة، لولا تطور وعيي النسوي الذي بات المحرك الأساسي لجميع أفكاري ورؤيتي للحياة. فليس من السهولة استنباط تلك الملاحظات دون نظارتي النسوية التي تجعلني أرى الأشياء من منظور النوع الاجتماعي لسلوكيات الرجال مع النساء بشكل عام، وتدفعني إلى محاولة تفكيك الأبوية في مساحات تتسم بـ"التحررية" مثل أماكن الرقص التي ما زالت مقتصرة على فئات معينة ترتادها بانتظام، دون وجود شكاوى مما أعتقده أريحية للرجال في كسر المساحات مع النساء، الناتج عن استحقاقهم لأجسادنا على مدار التاريخ.
ناهيك عن النقاشات العميقة التي بت أخوضها مع صديقاتي النسويات بعد كل تدريب حول الأدوار الجندرية في الرقص، التي تقتضي بأن يكون الرجل هو القائد والأنثى هي التابعة، والتي قد ينتج عنها مقاومة لا إرادية من جسدي تتمثل في حركات استباقية عادة ما أسمع بعدها تعليق المدرب "استني أديكي الحركة ماتسبقيش خطوتي"، فأرد مازحة في كل مرة "ما أنا عارفة انت هتعمل أيه". وهكذا، تتحول ساحة الرقص بالنسبة لي إلى نموذج مصغر من المجتمع الأبوي الخارجي الذي اخترت الرقص بالأساس هروبًا منه وكمحاولة للتعافي من آثاره.