صُدم محمد موسى، وهو يقطن في حي المطرية الشعبي ويملك محل جزارة، برفض قبول ابنه في إحدى المدارس الخاصة المرموقة التابعة لحي النزهة، بسبب عدم حصوله هو وزوجته على مؤهل دراسي عالٍ.
لا يجد موسى مشكلة في سداد المصروفات أيًا كانت، إذ يوفر المحل الذي ورثه عن والده احتياجاته، لكنه لم يكن يعلم أن المحل نفسه سيكون عقبة في سبيل حصول نجله على أفضل تعليم متاح.
يتذكر موسى تمسك والده بأن يلتحق بمدرسة فنية بعيدًا عن الثانوية العامة حتى يكون سندًا له في محل الجزارة، رغم إنه كان مجتهدًا في الشهادة الإعدادية. ويعلق بأسى "ياريتني مكنت سمعت كلام أبويا، ولا اشتغلت معاه وكنت كملت دراستي.. بس مكنتش أقدر أقوله لأ وقتها".
لا ينكر الأب أنه أصيب بذهول عندما علم بشرط المؤهل للوالدين وفقًا لما أخبر به المنصة "في الوقت ده مكنتش لاقي كلام أقوله، ولا عارف إيه الحكمة إن ابني يترفض علشان أنا وزوجتي معانا مؤهل متوسط، ومكنش قدامي غير إني أشوف مدرسة تانية بنفس المستوى، واتصطدمت لما رحت مدرستين وسمعت نفس الكلام.. لازم يافندم الأب والأم مؤهل جامعي".
وحالة الأب، ليست فردية، بل تعكس ظاهرة في العديد من المدارس الخاصة والدولية، ولا تتوقف على اشتراط المؤهل العالي للوالدين، إذ أن القبول النهائي يخضع للكثير من الاختبارات التي يتعرض لها الطفل، ووالداه اللذان يخضعان للمقابلة الشخصية (الإنترفيو)، ليتم سؤالهما عن مقر السكن، ونوع السيارة التي تمتلكها الأسرة، والنادي الذي يشترك فيه الأب والأم، وربما مكان قضاء الإجازة الصيفية.
وبحسب موظفة داخل إدارة التعليم الخاص بمديرية التربية والتعليم بالقاهرة، تحدثت للمنصة شريطة عدم الكشف عن هويتها، فأن أصحاب المدارس الخاصة "بيهتموا بالوجاهة الاجتماعية للأسرة، يعني مش بيرفضوا بس ولاد اللي معاهم تعليم متوسط، لكن فيه كتير من المدارس عايزة ابن الباشا.. ابن ظابط، ابن مستشار، ابن دكتور كبير، ابن حد في مؤسسة لها اسم ونفوذ، علشان يبقى عندهم قواعد نفوذ وعلاقات من خلال الطلاب".
وأضافت "القصة مش قصة فلوس، ولا مصروفات، لكن كتير من أصحاب المدارس واخدين الموضوع بيزنس مع علاقات، يعني ابن الجزار ده، آه أبوه معاه فلوس، لكن ملوش نفوذ ولا غيره، وثقافته واخدها من شغله واختلاطه بالزباين بتاعته، يعني في نظر أصحاب المدارس الكبيرة، ولي أمر شعبي، لكن صاحب المدرسة اللي ليها اسم عايز يكون عنده ولاد الصفوة".
مدارس ضد الترقي المجتمعي
وتثير فكرة انتقاء الصفوة غضب الأكاديمي والخبير التربوي وائل كامل، قائلًا إن المدارس الخاصة لم تتجاوب مع ظاهرة تضحية الآباء من أصحاب الدخول والتعليم المتوسط، وإصرارهم على أن يضعوا كل استثماراتهم في أبنائهم، فأخذوا يعرقلون تلك الجهود، ليكون من لهم حق التعليم المتميز في هذا المجتمع، أبناء الأسر المرموقة، ماديًا ووظيفيًا وتعليميًا، وفوق كل ذلك، يُعاقب الطفل على الخلفية التعليمية والاجتماعية لأهله.
يضيف كامل للمنصة "اللي بيحصل ده مخالفة صريحة للدستور، وحاجة محترمة إن الأسر البسيطة والمتوسطة يخططوا لولادهم إنهم يكونوا أفضل منهم ومتعلمين بشكل محترم وعصري في مدارس بتقدم تعليم كويس مهما اتحملوا من أعباء مالية، واستدانوا، لكن للأسف، يكاد يكون فيه تعمد إن المجتمع ده يفضل طبقي".
وفي الماضي القريب، كانت العديد من المدارس الخاصة تحتكم إلى وظيفة الأب والأب في قبول أو رفض الطفل، على أساس مدى قدرتهما المادية على الوفاء بالالتزام بالمصروفات المدرسية، حتى تغيرت الأسباب والمبررات وصارت التهمة "خريج تعليم متوسط"، وهي نظرة دونية تتعارض كليًا مع مبادئ الدستور والقانون، الذي حظر التمييز والعنصرية.
وأمام هذه الظاهرة، تقدم النائب عن تنسيقية شباب الأحزاب علاء عصام بطلب إحاطة ضد وزير التعليم الدكتور طارق شوقي، بشأن شروط قبول الطلاب بالمدارس الخاصة، وعلى رأسها أن يكون الأب والأم حاصلين على تعليم عالٍ، بالمخالفة لنص المادة التاسعة من الدستور المعدل لسنة 2019.
وتنص المادة، على أن تلتزم الدولة بتحقيق تكافؤ الفرص بين جميع المواطنين، دون تمييز، كما نصت المادة 19 على أن التعليم حق لكل مواطن، هدفه بناء الشخصية المصرية، والحفاظ على الهوية الوطنية، وبالتالي فإن شرط المؤهل الجامعي للأبوين، أحد مظاهر التمييز الواضح بين الأطفال، وغياب مبدأ تكافؤ الفرص بينهم في الانتساب لتعليم عصري.
وزارة اللاسلطة
وفيما كانت المدارس الخاصة تملي شروطها وتقصي الطفل نجل محمد موسى، دون حتى أن تلتقي به، كان الأب صاحب محل الجزارة، يسلك كافة الطرق الممكنة كي يلحق ابنه بمدرسة مرموقة وجيدة. قصّ الأب مشكلته لصحفي جاره، ووعده الأخير بأن يأتي له بتأشيرة من وزير التربية والتعليم بدخول ابنه أي واحدة من المدارس الثلاث التي رُفض فيها، تحت مسمى "يُقبل فوق الكثافة القانونية" دون ذكر تفاصيل الرفض في الطلب، وبالفعل حصل على تأشيرة الوزير، لكن تم رفض قبول ابنه لذات السبب.
وتبدو وزارة التربية والتعليم، متراخية في التصدي لتلك الإشكالية، فالوزير من جهة يتجاهل التعليق مباشرة على تلك الشروط، فيما يأتي حديثه من جهة أخرى ليصف المدارس الخاصة "زي البضاعة بتخضع للعرض والطلب" عند معرض تعليقه على زيادة مصروفاتها، فيما رأى البعض أن تصريح الوزير يحمل تلميحًا غير مباشر بأن الوزارة لا تمتلك سلطة محاسبة المدارس التي تشترط المؤهل الجامعي لقبول الطلاب، أو أنها لا تريد الدخول في مواجهة تبدو خاسرة من البداية، بحسب مصدر قيادي في الوزارة تحدث للمنصة.
وأضاف المصدر المسؤول في قطاع التعليم الخاص، فضل عدم ذكر اسمه، أن وزارة التعليم لديها صلاحيات محددة في رقابة المدارس الخاصة والدولية، لأن لكل مدرسة شروط ومعايير تحددها لتتناسب مع أسلوب دراستها، وبيئتها التعليمية، فالمدرسة التي تحتاج 100 طالب، ومتقدم إليها 1000 طالب، فإنها تضع قواعد تخص اختيار المائة طالب.
وتابع "الكلام ده مش معناه إن الوزارة موافقة على اللي بيحصل، لكن احنا بنتكلم في صلاحيات ليها حدود طالما محدش اشتكى بشكل رسمي، مقدرش أنا من نفسي أحقق، ولو حققت المدرسة هتقوللي دي معايير داخلية. ونفس الأمر بالنسبة للمعلم. أنا مش من حقي كوزارة أقولها ليه المعلم ده بياخد أقل من ده، وهكذا".
ردة في الممارسة
واللافت أن ما يحدث الآن يعد ردة، ويتعارض مع القرار الوزاري رقم 420 لسنة 2014، الذي أصدره وزير التربية والتعليم الأسبق محمود أبوالنصر، لتنظيم شؤون وأعمال المدارس الخاصة، حيث نص في المادة 14 على أنه "أنه لا يجوز تغيير نظام المدرسة الخاصة أو خطط الدراسة بها أو اتباع نظم أخرى في قبول التلاميذ، أي تحديد شروط تخالف القرار، وتتعارض مع أحكام قانون التعليم ونصوص الدستور".
لكن القيادي التعليمي رد هذا النص قائلًا "القرار ماقالش صراحة ممنوع أو محظور رفض قبول أبناء الآباء والأمهات حملة التعليم المتوسط، أو الأميين، أو غيرهم، هو اتكلم في العموم على وضع نظم غريبة للقبول، يعني كلام فضفاض متعرفش تمسكه، أو تحاسب بيه أي مدرسة، وده مش دفاع عن تقصير، لكن اللي بيحصل في المدارس دي الوقت محتاج وقفة بقرار وزاري جديد، أو معدل".
وأضاف "وقت صدور القرار عام 2014، لم تكن مثل هذه الظواهر السلبية، وغير الإنسانية، موجودة، وبالتالي يتطلب الأمر إجراء تعديل للقرار، وإضافة مواد جديدة تنص صراحة على حظر رفض قبول الأطفال لآباء وأمهات من حملة التعليم المتوسط، أو غير الجامعي، أو أبناء المطلقات، كي تكون هناك أدوات عقابية لا يتنصل منها أحد".
وفيما يصف المسؤول الإجراءات بغير الإنسانية دون إتخاذ خطوات لتغييرها، يواجه الآباء والأبناء كل يوم تلك الإجراءات العنصرية، فإلى جانب الأب الجزار الذي فشلت كل مساعيه في إلحاق نجله بالمدارس التي طمح إليها، تعرضت الأم سماح منصور، إلى موقف مشابه، وهي حاصلة على معهد فني.
لا إنسانية التعليم الخاص
تحمل سماح الوزارة المسؤولية، وتعتبرهم السبب في إذلال حملة المؤهلات المتوسطة بهذه الطريقة، بعدما رُفض قبول ابنتها في إحدى مدارس حي أكتوبر، غرب القاهرة، لكونها، أي الأم، لا تجيد اللغة الإنجليزية، مع أنها أبدت استعدادها لدفع المصروفات المدرسية كاملة منذ لحظة قبول الطفلة، لكن قيل لها "احنا عايزين أب وأم يساعدونا في التعليم، مش يكونوا مش عارفين يذاكروا لولادهم".
لا تنكر الأم أنها شعرت بإهانة عندما سمعت هذه العبارة. قالت للمنصة "حسيت في لحظة إني جاهلة، أو مش بعرف أفك الخط، بس سكت علشان معملش مشكلة وأظهر قدام إدارة المدرسة إني بتاعت مشاكل، وقلت لهم أنا هجيب لبنتي معلمة خصوصية، لكنهم قالولي آسفين.. ده مش حل عملي، ولا علمي".
أمام استفزاز المدرسة للأم، وجدت نفسها مندفعة في اتهامهم بالعنصرية والتمييز والطبقية، معلقة "مكنتش عارفة أمسك نفسي من الغضب، في لحظة حسسوني إني السبب في حرمان ابني من التعليم المحترم. حسيت إني متهمة بتهمة مسيئة للسمعة لمجرد إني مش معايا تعليم جامعي، مع إني عايشة مبسوطة وفلوسي حلال، بس حرام ولادي يتعلموا كويس". ويعمل زوج سماح في التجارة، ويتربح منها الكثير من المال، لكن الأب والأم لا يرغبان في أن يلقى أولادهما نفس مصيرهما وقت أن كانا طلابا في مدرسة حكومية متهالكة.
لكن طارق علي، عضو جمعية أصحاب المدارس الخاصة، دافع عن شرط المؤهل الجامعي، بتأكيده للمنصة "مش كل المدارس الخاصة كدة، لكن اللي بتحط الشرط ده بيكون مبررها إن البيت لازم يساعد مع المدرسة في التعليم، يعني مدرسة بتدرس لغات، والأب والأم خريجين نظام تعليم مكنش فيه لغات ولا يتماشى مع التطوير الحاصل، علشان كده فيه مدارس لازم بالنسبة ليها يكون فيه مشاركة من البيت والأسرة في تعليم ولادهم علشان يكون مستواهم قوي، لكن الموضوع مش طبقية".
في نظر الأكاديمي وائل كامل، هذه مبررات واهية، تحمل عقوبة للطفل على أساس الخلفية الاجتماعية والتعليمية والمادية للأسرة، ويتم رفض قبوله بشكل يكرس طبقية التعليم، وتكون النتيجة، أن هناك أجيال تلقت تعليما متميزًا، وأخرى فاتها القطار، ومع الوقت تصبح وظائف وفرص المستقبل مضمونة لشريحة بعينها، مقابل اتساع الفجوة بينها وبين باقي الطبقات الأخرى، وهذا ضرر بالغ بالمجتمع لأنه سيسهل اختراقه، معلقا "لو عايزين مجتمع متسق مع ذاته، أخلاقيًا وفكريًا وثقافيًا، يكون في تلاحم بين الجميع زي زمان، مش قطيعة وانتقائية تقود للتفكيك".
أمام كل هذه التعقيدات، وعجز وزارة التعليم عن التصدي لظاهرة الانتقائية في المدارس الخاصة، لم يكن أمام سماح منصور إلا التقديم لابنتها في مدرسة تجريبية حكومية لغات، أما الأب الجزار، فلازال يسلك كافة الطرق الممكنة، ويبحث عن مدرسة تضمن تعليم جيد لنجله، دون أن تقيم له محاكمة بناء على خلفيته الاجتماعية.