تروي إحدى القصص الشهيرة أنه أثناء القرن السابع قبل الميلاد، أراد الملك المصري بسماتيك الأول، معرفة اللغة الأولى التي تحدث بها البشر. جاءته فكرة أن يُحضر طفلين رضيعين ويجعلهما يعيشان أول سنوات حياتهما في مكان بعيد، فلا تسمع آذانهما الحديث، وينتظر الكلمات الأولى التي ينطقونها، ظنًا منه بأنّ هذه الكلمات، ستكون من اللغة الأصلية التي تحدث بها البشر.
بالفعل، اختار الملك الطفلين، وأرسلهما لقضاء سنوات حياتهما الأولى مع راعي، وفي أحد الأيام سمعه ما الراعي يقولون "بيكوس..بيكوس"، فما كان منه إلا أن هرع إلى الملك ليخبره. سأل الملك عن أصل هذه الكلمة، وجاءه الرد أنها تعني الخبز باللغة الفريجية. وقتها خاب أمل الملك الذي تمنى لو أنّ هذين الطفلين نطقا بأي كلمة من اللغة المصرية.
ربما، لم يُدرك الملك بسماتيك الأول وقتها أنّ الزمن أجهض العديد من اللغات قبله، وسيجهض أخرى بعده، بما في ذلك اللغة الهيروغليفية التي تحدثها هو، ثم جاء شمبليون ليُحييها مرة أخرى، وتستيقظ من سباتها بعد زمن طويل مقروءة لا مسموعة، وتروي لنا قصص وحكايات مصر القديمة.
وإذا كان بسماتيك قد شغله البحث عن أول لغة تحدث بها البشر أملًا في إثبات أنها لغته، فإننا نذهب بقصته إلى أسئلة أخرى مثل: كيف يتحدث البشر من الأساس؟ وكيف تطور الكلام بينهم على مدار الزمن؟
الحديث تقنيًا
تعرض الإنسان المعاصر إلى ظروف بيئية ساعدته في التحدث في ظل حاجة ماسة للنطق بكلمات مفهومة، كي يستطيع التواصل بصورة أكثر فعالية مع الحياة الاجتماعية المعقدة حوله، ومن ثم التعبير عن ذاته، فكان له ما أراد، امتلك القدرة على التحدث، وبنى مفردات استوعبتها لغات كثيرة.
لكن لكي تنطلق هذه الكلمات من فم ذلك الكائن الذكي، يحتاج إلى شيئين: القدرة على إصدار أصوات، ودماغ متطور يستطيع معالجة الأصوات وتمييزها إلى كلمات مفهومة لها معانٍ محددة. تصدر جميع الكائنات أصواتًا، لكن لا يستطيع أي كائن منها التعبير عن نفسه بالكلمات مثل البشر، ما يعني أنّ هناك ما يميز الإنسان، ولأكون أكثر دقة، أعني الإنسان المعاصر، أي أنا وأنت.
ولإدراك القصة جيدًا، نحتاج العودة بالزمان للوراء قليلًا. تحديدًا عندما بدأت الرئيسيات تتبع نهجًا تطوريًا.
ينتمي البشر إلى رتبة الرئيسيات، التي ظهرت في أواخر العصر الطباشيري قبل 65 مليون سنة مضت، وتتميز هذه الكائنات بالقدرات الاستيعابية وامتلاكها نظامًا بصريًا يمكنها من الرؤية بوضوح.
وقبل أربعة ملايين سنة، ظهر أحد أسلاف الإنسان المميزين، ويُطلق عليه "الأسترالوبيثيسين" (Australopithecines)، كان يمتلك قدمين، وتمتع هذا الكائن بحياة اجتماعية جيدة، على الرغم من أنه لم يكن ذكيًا بما فيه الكفاية، وتطور منه جنس بشراني أو الهومو (Homo)، الذي طور حياته الاجتماعية لتصبح أكثر تقدمًا عن أسلافه، وحصل ذلك بالتزامن مع زيادة مستويات الناقلات العصبية الاجتماعية في منطقة العقد القاعدية تحت القشرية في الدماغ.
بين الإشارات والإيماءات
اتضح أنّ الرئيسيات كانت لديها قدرة على استخدام اليد بطريقة مختلفة عن الثدييات الأخرى، وهناك بعض الجدل حول ما إذا كانت أولى كلمات الناس عن طريق الإشارة باليد أو نطق بالفم؟
تتنوع النظريات في هذا الصدد، فمثلًا، لدينا نظرية الإيماءات، وهي تفترض أنّ اللغة نشأت من بداية قدرة الرئيسيات السيطرة على يديها، لذلك يجب أن تكون اللغة المفهومة بينهم، بدأت من الإيماءات اليدوية ثم نُقلت إلى النظام الصوتي لاحقًا بواسطة آلية غير معروفة.
وبحسب النظرية نفسها، فإن البشر الأوائل استخدموا مهارات التعلم لتقليد أصوات الحيوانات والماء والرياح، فضلًا عن الأصوات التي ابتكروها للتعبير عن إنذار بهجوم حيوان مفترس أو للتعبير عن موقف خطير.
نحو اللغة الموسيقية الأولية
وافتراض الباحثين في تلك النظرية أنّ الأسترالوبيثيسين والهومو تواصلوا بالإشارات الصوتية في مرحلة ما، يتفق أيضًا مع نظرية داروين، التي تشير إلى أنّ "نشأة الاتصال الصوتي في بدايته بين البشر كان أشبه بالنغمات الموسيقية 'اللغة الموسيقية الأولية' musical protolanguage".
وتطورت قدرتهم على الحديث نتيجة انخراطهم في محادثات طويلة، لتوصيل المشاعر العاطفية، ما ساعدهم في تقوية الروابط الاجتماعية بينهم من ناحية، وتطوير الاتصالات الصوتية من جانب آخر إلى أن صار كلامًا مفهومًا، ونشأت منه العديد من اللغات كما هو اليوم.
لكن تلك الفرضيات تضعنا أمام تساؤل آخر: هل هناك علاقة بين قدرة الرئيسيات على التحكم باليد وقدرتها على تطوير النطق؟ وفقًا لبعضها، فثمة علاقة، لكن تلك العلاقة تتناقض مع أدلة أخرى تستبعد وجود صلة بين القدرة على استخدام اليد والتحكم بها وتطوير النطق، وإلا لاستطاعت القردة التحدث مثلنا، بما أنها قادرة على التحكم في يديها والإمساك بأي شيء بسهولة وتمكّن.
لكن الأكثر منطقية هنا، وجود علاقة بين قدرات الدماغ نفسه والقدرة على إصدار الأصوات وتطويرها إلى لغة. وبالمناسبة، اكتساب قدرة على إصدار الصوت، لا يتطلب دماغًا كبيرًا، لكن الدماغ الكبير مطلوبٌ لتطوير المهارات اللغوية، وقد اتضح أنّ البشر يمتلكون دماغًا أكبر، وبالتالي لديهم أكبر عدد من الخلايا العصبية مقارنة بكل الثدييات الأخرى.
وتطورت هذه الزيادة في حجم الدماغ وعدد الخلايا العصبية على مدار سلالة الإنسان بمرور الزمن، على سبيل المثال: إنسان النياندرتال والإنسان المعاصر، شهدت أدمغتهم زيادة في الحجم تصل إلى 1500 سم مكعب. وعلى الأرجح، زاد حجم الدماغ بالتزامن مع التطور التدريجي للمهارات اللغوية والاجتماعية، نتيجة الضغط الإدراكي الذي تعرض له خلال تلك الفترة المعقدة.
فرضية "الخلايا العصبية المرآتية"
وعودة إلى سؤال، لماذا تحدث الإنسان ولم يتحدث القرد، نعرض لنظرية علمية تسمى "الخلايا العصبية المرآتية" نسبة إلى المرآة، وتقول إن تلك الخلايا موجودة في أدمغة القردة، وتستجيب للأفعال، مثلًا، إذا ضحكت لقرد، سيضحك لك، بناءً على فعلك، ومن ثمّ تظهر في سلوكياتهم.
واتضح أنها تُظهر نشاطًا كبيرًا في حالة تنفيذ القرد فعل الإمساك بيديه أو عندما يلاحظ شخصًا آخر يمسك شيئًا بيديه. تمامًا مثلما حصل في الصورة التالية، إنسان أخرج لسانه أمام قرد، فراح يقلده.
لكن ما علاقة تلك الخلايا بموضوعنا؟ في فترة من الفترات، افترض بعض الباحثين أنّ هذه الخلايا لها علاقة وثيقة بنشأة اللغة، ما يدعم فكرة أنّ الأشكال الأولى للتواصل بين البشر كانت إيمائية وليست صوتية. لكن مهلًا. يتجاهل هؤلاء أنّ هناك أصوات لأنواع أخرى من الرئيسيات التي لم تذهب بهم تلك الخلايا إلى النطق كما عند البشر، فالقرود وهم من الرئيسيات يصدرون السكسكة (صوت القرد) لكنهم لا يتحدثون مثلنا، وهذا يعني أنّ تلك الفرضية ضعيفة.
وفي تلك النقطة أيضًا تحدث تشارلز داروين نفسه حين قال إنّ القرود لا تمتلك عقلًا، في تفسيره عن سبب تحدث البشر وعدم تحدث القرود، لكن لم يعتمد العلماء على هذا التفسير وراحوا يتعمقون في المعطيات التي بين أيديهم، وتوصلوا إلى أنّ الأجهزة الصوتية للقرود مختلفة عن البشر، ولا تمتلك المرونة الكافية لإخراج أكبر عدد من الحروف بدقة. وهناك تفسير آخر، وهو أنّ أسلاف البشر كانت لديها وقت فراغ كبير، وكانوا يضطرون لقضاءه معًا، ويحاولون التواصل.
صنع الأدوات
الآن، باتت الدائرة محددة أكثر، النطق الذي ميز البشر عن الرئيسيات الأخرى، هو نتاج قدرات دماغية وظروف واحتياجات بيئية. احتاج الإنسان منذ قديم الزمان إلى صنع أدوات تساعده في أداء مهامه، وتسهيل حياته، مثلًا صنع رماح يصطاد بها بدلًا من أن ينقض على الفريسة بجسمه، ولكي يصنع تلك الأدوات، احتاج إلى شبكة قوية في دماغه، تتداخل مع شبكات الكلام، ما يعني، كما تشير إحدى الفرضيات، أنّ الكلام والأداة، عزز كل منهما الآخر.
ومع ذلك، يصعب أن تكون العلاقة بين سلوك صنع الأدوات والكلام مباشرة، من ناحية أخرى، من الواضح أن اكتساب الكلام عند الأطفال لا يعتمد على سلوك صنع الأدوات، فالأطفال يقلدون الكبار إلى أن يكتسبوا القدرة على الحديث. وأخيرًا، تبقى فهم المعاني وتكوين الكلمات والمفردات.
ما بعد النطق
صدر الصوت، وتبقى إصدار كلمات بمعاني معينة، وبدأت مرحلة تطوير شبكات سمعية صوتية بالتزامن مع زيادة تحكم الإنسان في الشفاه واللسان والأحبال الصوتية، وصار هناك تنسيق بين الأحبال الصوتية والقناة الصوتية العلوية، لمزامنة النطق مع حركات الفم، وبمرور الوقت مع التعقيدات في الروابط الاجتماعية، صار بإمكانهم التحدث.
ومع تطور الدماغ البشري، صار بإمكان الإنسان المعاصر التحدث ومعالجة اللغات بدقة في دماغه من خلال عمل منطقتين مهمتين جدًا - تحدثت عنهما بتفصيل أكثر في تقرير سابق، وهما:
- بروكا: تعزز فهم الإنسان للغة، وتنشط عندما يقع في خطأ نحوي.
- فيرنيك: تساعد في إدارك اللغة، وعندما يحصل فيها أي مشكلة، قد لا يستطيع الإنسان التحدث ويُصاب بحالة "الحبسة الكلامية".
فيديو عن الحبسة الكلامية
الطفرة التي أنطقت البشر.. بين الافتراضات والحقائق
ولمزيد من المعرفة العلمية والتقنية عن الطفرة التي أنطقت البشر، فقد تنوعت النظريات هنا أيضًا، فتذهب إحدى الفرضيات إلى حدوث طفرة جينية مكنت البشر من الحديث، وفق دراسة بقيادة الدكتور فولفجانج إينارد، أستاذ الأنثروبولوجيا وعلم الجينوم البشري في معهد ماكس بلانك بمدينة ميونخ الألمانية، التي تقول بإنّ قدرة البشر على الكلام تعود إلى طفرات في جين يُسمى بـ (FOXP2) الذي عُثر عليه لأول مرة عام 2001، واتضح أنه سبب رئيسي لإصابة نصف أفراد عائلة باضطراب الكلام.
راح مؤلفو الدراسة يقارنون بين تسلسل الحمض النووي لهذا الجين للإنسان، والشمبانزي والغوريلا وغيرهما من الرئيسيات، وتوّصلوا إلى وجود اختلافات بينهما، ما جعلهم يقتنعون بأنّ هذا الجين كان هو المختار، وفقًا لقانون الانتخاب الطبيعي الذي وضعه داروين، الذي نقل البشر من مرحلة الإيماء إلى التحدث وتطوير اللغة خلال الـ 200 ألف سنة الماضية بالتزامن مع ظهور البشر المعاصرين.
نُشرت الدراسة في أغسطس/آب 2002 في دورية نيتشر (Nature)، وأثارت ضجة في الأوساط العلمية، واعتبرها بعض الناس بمثابة نقطة فارقة في تطور الإنسان، وصارت مادة ثرية للاستشهادات العلمية.
لكن، في يوم 6 نوفمبر/تشرين الثاني 2007، نشرت دورية كارنت بيولوجي (Current Biology)، دراسة جديدة صادرة من باحثي معهد ماكس بلانك أيضًا، تُشير إلى أنّ هاتين الطفرتين كانتا موجودتين في السلف المشترك للإنسان المعاصر وإنسان النياندرتال (أحد أنواع جنس الهومو)، وأعادوا وضع تاريخ تقريبي لحدوث الطفرتين قبل 500 ألف سنة مضت.
أُجريت الدراسة بقيادة يوهانس كراوس، واللافت إنه عند تدقيق أسماء المشاركين في تلك الدراسة، نجد الدكتور فولفجانج إينارد، المؤلف الرئيسي للدراسة الأولى، ما يعكس أن النظريات قابلة دائمًا لإعادة الاكتشاف والتدقيق، وأن بعض الحقائق قد تظل لغزًا لفترة أطول.
وذلك لا ينفي أن جين FOXP2 مهم حقًا، أي أن النظرية الأولى وإن لم تكن دقيقة تمامًا غير أن كشفها مفتاح للبحث، حتى إنّ هناك العديد من الدراسات قامت للدراسة جيدًا في أمره، وأظهرت العديد من الدراسات الحديثة أنه جين مهم، ولا شك في ذلك، إذ أنه يرتبط بشكل ما بقدرتنا على الكلام ومعالجة اللغة، لكن يمكن اعتباره مجرد عامل من العوامل التي أنطقت الإنسان وليس هو السبب الرئيسي، وذلك حسب دراسة نُشرت عام 2019 في دورية كارنت بيولوجي (Current Biology).
بعد هذا كله، حقًا لا يعرف أحد كيف بدأ التواصل الكلامي بين البشر بالضبط، فلم يكن أحد هناك يدون تاريخ الأرض ليُخبرنا ماذا حصل؟ وكما نعلم، العلم التجريبي قابل للشك، ما يجعل الاحتمالات التي عرضناها كلها قابلة للتكذيب. ولكنها كلها اجتهادات علماء تستحق الإشارة إليها، وقد نرحل مثل بسماتيك، دون أن نصل إلى إجابة شافية.