كل صباح، نبدأ عملنا في المنصة باجتماع التحرير اليومي الذي يعرفه كل من عمل في الصحافة. اجتماع اختبرته بأشكال مختلفة في المواقع والصحف المحلية والعربية التي عملت بها لسنوات. ولكن هنا، فالتجربة مختلفة.
ليس فقط لإننا نجلس في حلقة دائرية يستطيع كل منا رؤية الآخر بوضوح، أو أن الجميع لديه فرصة للتحدث والتعليق والدخول في نقاشات حول العمل، دون أفضلية لمن يعمل منذ سنوات عمن التحق بالعمل قبل شهور مثلي، لكن أيضًا لأننا نستهل اليوم بالتنقيب عن أخطاء سابقه، والتعليق على ما أنتجناه. وعادة ما تكون التعليقات لاذعة بلباقة، تحمل الكثير من النقد الذاتي المهني، ولا تعرف المجاملات، ولا تحجر على اختلاف الرأي.
صباح اليوم، كان البيان الذي أصدره جمال مبارك نجل الرئيس الأسبق حسني مبارك حاضرًا بقوة في صالة التحرير، في انعكاس لاستمرار حضوره في ذهن الشارع، وفي جلسات المقاهي، وعلى السوشال ميديا.
"جمال مبارك يعلن تبرئة أسرته دوليًا". هكذا كان العنوان الرئيسي في النشرة الصباحية ليوم أمس الأربعاء. جاءت أول التعليقات لتنتقد الصياغة باعتبارها تعكس أننا نتبنى سردية أسرة مبارك بشأن براءة أفرادها، ما يعكس موقفًا ليس حقيقيًا بالكامل، فما حدث كان انتهاءً للإجراءات القانونية، وليس براءةً بمعناها التقليدي.
من هنا بدأ الجدل؛ "ألا يُعد ذلك تفسيرًا حنبليًا بعض الشيء؟" قال أحد الزملاء، متابعًا أن جمال مبارك خرج ليعلن براءة عائلته، فجاء الخبر نقلًا للمضمون، لكن ذلك انتقل بنا لسؤال آخر: هل يجب أن نقع فريسةً لما أراده جمال أو غيره من المصادر؟ هل يفترض أن ننقل فقط؟ بالتأكيد لا، هذا ما نحاول مواجهته بالأساس، مجرد النقل.
جاء تعليق آخر بأن أحد المبادئ القانونية تقول إن "المتهم بريء حتى تثبت إدانته" وبالتالي، فبما أن المحاكم الأوربية أغلقت القضية لعدم كفاية الأدلة، أو عدم وجود ما يثبت الإدعاء، فهذا يعد براءة بشكل أو آخر. انتقلنا الآن من المنطقة المهنية إلى المنطقة القانونية، أصبحنا أمام سؤال: هل ما حدث "براءة" أم لا؟ هل ثمة فرق قانوني بين البراءة بحكم معلن، وبين غلق ملف قضية لعدم اكتفاء الأدلة.
قررنا أن نعود بالسؤال إلى خبير متخصص، لكن كإجراء آخر مُعين، يميل بكفة أحد الفريقين: من يرى الأمر تدقيقًا أكثر من اللازم، وبين من يعتبره خطئًا مهنيًا يستوجب الإعلان عنه والاعتذار للقارئ، رجعنا إلى التغطية الصحفية للبيان المصور.
انتهاء الإجراءت أرجح
بدأنا بالمواقع الصحفية المعتبرة ذات المدارس الراسخة، بي بي سي، سي إن إن، رويترز. لم يتناول أحدها الخبر بصيغة البراءة وفقط. تنوعت المعالجة بين انتهاء الإجراءات القانونية، ومحاولة تحليل المقطع المصور الطويل الذي يتحدث جمال في أغلبه الإنجليزية بطلاقة، في رسالة ترغب في إضفاء التأثير وجلب التعاطف مع والده، الذي توفي قبل أن يرى ذلك اليوم.
نشرت سي إن إن في 17 مايو/ أيار الجاري تقريرًا بعنوان "انتصرنا في معركتك الأخيرة.. جمال مبارك يوجه كلمة لوالده في بيان عن انتهاء إجراءات التقاضي الدولية". وتابعت القصة الصحفية بأخرى صباح اليوم بعنوان "هل أخطأ جمال مبارك؟.. بيان ابن الرئيس المصري الأسبق يثير تفاعلًا".
في الأخيرة اعتقدت للوهلة الأولى أني سأعثر على الإجابة القانونية المعلقة حتى اﻵن، بمعنى أن الخطأ المطروح في العنوان، سيأتي ليكشف عن أن جمال تعمد استخدام لفظ براءة، على غير الصحة أو الدقة، لكن القصة كانت متابعة لردود الأفعال على مواقع التواصل الاجتماعي.
رويترز كانت تغطيتها مربكة بعض الشيء، إذ جاء تقريرها عن الحدث في 17 الماضي بعنوان "عائلة حسني مبارك تعلن انتهاء كل القضايا المرفوعة ضدها بتبرئة ساحتها"، أي أنها جمعت بين حيرتنا في السؤال: انتهاء القضايا.. التبرئة.
أما العربية، فتحدثت في تغطيتها بالطبع عن البراءة، في تقريرها الذي عنونته "شاهد جمال مبارك معلناً براءة أسرته: انتصرنا يا أبي". لم يكن تلاقي تغطيتنا تحريريًا مع العربية أمرًا سارًا.
المواقع المصرية بين الدقة والتجاهل
من مراجعة المواقع العالمية إلى المصرية، اكتشفنا غلبة التجاهل على التغطية، لكن في الوقت ذاته الدقة في النقل. الموقعان اللذان نشرا البيان كانا المصري اليوم والشروق، الأول بخبر تحت عنوان "أسرة الرئيس الراحل مبارك تصدر بيانًا بشأن انتهاء إجراءات القضايا الدولية"، والثاني نشر عددًا من الأخبار تتناول أجزاءً من البيان على حدة.
نشرت الشروق في أحد أخبارها "جمال مبارك: أكدت لوالدي في أيامه الأخيرة الاستمرار على الطريق لتحقيق تبرئة لا لبس فيها"، وفي آخر "جمال مبارك: حصلنا على مبلغ كبير من مجلس الاتحاد الأوروبي لاسترداد مصروفاتنا القانونية".
وفيما عداهما، بحثنا في مصراوي، الوطن، الدستور، الأهرام، عن شكل التغطية الصحفية للبيان الأخير، فلم نجد شيئًا، التجاهل كان سيد الموقف. ولن تستغرق وقتًا لاستيعاب سبب التجاهل، خصوصًا مع ظهور هاشتاج #جمال_مبارك_رئيسا بعد البيان.
الموقف القانوني: لا يستويان
أوضح الخبير القانوني عماد الدين صادق للمنصة، وجود فارق بين الحكم بالبراءة من جهة، وغلق القضية لعدم كفاية الأدلة من جهة أخرى، مشيرًا إلى أن ذلك الفصل يعلمه العاملون في القانون بشكل مفصل، لكن عادة لا يتم نقله إلى العامة، ممن قد يصعب عليهم التفرقة، وبما أنه في الحالتين، لا توجد إدانة أو عقوبة موقعة على الشخص محل الاتهام، ينقل المحامي الخبر لموكله بـ"مبروك.. خدت براءة".
يضيف: أما من الجانب القانوني، فالحكم بالبراءة يعني وجود تحقيق كامل في القضية من قبل المحكمة، ووزنًا للأدلة التي تدينه وتبرئه، والانتهاء إلى أنه بريء مما نُسب إليه، وهو حكم يصدر بعد دراسة كاملة، أما في غلق القضية لعدم كفاية الأدلة، فيشير إلى عدم تحقيق المحكمة في القضية من الأساس، لرؤيتها أن الأدلة التي أحيلت من النيابة غير كافية لتحريك الدعوى، ومن ثم هو غلق مؤقت، وفي حال ظهرت أدلة جديدة، يمكن إعادة فتح القضية، وإدانة المتهم فيها.
وفي قضية عائلة مبارك تحديدًا، سألنا المحامي الدولي والحقوقي مؤسس المركز العربي لاستقلال القضاء والمحاماة ناصر أمين، عن الفارق بين اللفظتين في تلك القضية تحديدًا، وهل يختلف المفهوم في الخارج عن الدارج في الداخل.
قال أمين للمنصة إن البت باللفظ الأنسب سواء البراءة أو غلق القضية لابد أن يتم بعد الإطلاع على الأوراق، وما ذُكر فيها، لكن بوجه عام فإن غالبية الدول الأوربية تعمل بنظام "القانون الشائع" وهو مختلف عما هو معمول به في مصر، لافتًا إلى أن ما صدر في قضية أموال مبارك من قرارات، كان متوقعًا في ظل تقاعس الحكومة المصرية عن التعاون وتقديم الأدلة اللازمة.
ويوضح المحامي الدولي إن القرارات في أوروبا وطريقة الوصول للحقيقة مغاير عما معمول به في مصر، وأساسها أنه لو ثمة بلاغات أو قرارات متخذة بشأن جهة أو شخص لابد من أن يتم توثيق الحالة التي يتم التحقيق فيها، بطلب كل ما هو مؤيد لهذا الطلب من حكومة الدولة التي ينتمي إليها الشخص محل البلاغات.
يضيف: في حال عدم ورود المستندات يمكن أن يُعلق الطلب لفترة من فترات لحين توفيرها، وإذا لم يستطع الأشخاص اثبات إدعائهم بطلب الحجر أو التحفظ على الأموال، يتم حفظ التحقيق، وليس براءة من محكمة.
يتابع، أما البراءة فمعناها أن الأمر نُظر أمام محكمة، وقضت بشكل قاطع بأنه ليس هناك أدلة على ارتكاب جريمة لافتًا في تلك النقطة إلى وجود نوعين من الاحكام، الأول بعدم وجود أدلة كافية على وجود جريمة، والثاني وجود جريمة بالفعل لكن عدم توفر أدلة على أن الشخص محل الاتهام متورط فيها.
وكانت رويترز قالت إن "أسرة الرئيس المصري الراحل حسني مبارك (أصدرت) يوم الثلاثاء بيانا تؤكد فيه انتهاء كل إجراءات التقاضي المرفوعة عليها منذ تنحي مبارك عن السلطة عام 2011. وظهر جمال مبارك، نجل الرئيس السابق، في تسجيل على يوتيوب وهو يعلن البيان الذي قال فيه 'اليوم وبعد 10 سنوات من التحقيقات المستفيضة، بما في ذلك العديد من طلبات المساعدة القانونية الدولية المتبادلة بين مختلف السلطات القضائية والعديد من الإجراءات القضائية في دول عديدة، فقد ثبت أن جميع الادعاءات الموجهة إلينا كانت كاذبة تماما'".
وأضافت أن "الادعاء العام الاتحادي في سويسرا قد أعلن الأسبوع الماضي أنه أغلق تحقيقا استمر 11 عاما يتعلق بالاشتباه في غسل أموال فيما يتصل بانتفاضة عام 2011 في مصر".
من خلال الكلمات المستخدمة في بيان جمال نفسه، وقرار الإدعاء العام في الاتحادي السويسري، يتضح أن القرار "غلق"، وأن القضية لم تنظر أمام محكمة، ومن ثم فإن استخدام مبارك الابن لفظة براءة ليس دقيقًا، وربما الهدف منه غسل سمعة العائلة، رغم أنه لديه من المحامين من يستطيعون توضيح الفارق له بين الاثنين. سألنا أمين حول ذلك لكنه تحفظ عن الرد.
ولكن المحامي الحقوقي استطرد أن التعامل مع قضية أموال مبارك من البداية واستردادها من الخارج "غريب، وغير مفهوم، وتتحمل مسؤوليته الحكومة المصرية". وأشار إلى أنه قدم بنفسه في فبراير/ شباط 2011 أكثر من طلب للجهات السويسرية للتحفظ على أموال مبارك وعائلته، وبالفعل، وفق المتبع في الدول الأوربية، من اتخاذ قرار التحفظ بشكل مبدئي بمجرد ورود الطلبات، ثم مراسلة الحكومة لطلب ما يدعمها من مستندات، بموجب قوانين دولية موقعة لمكافحة الفساد.
وتابع أن الحكومة السويسرية قدمت أكثر من طلب للحكومة المصرية آنذاك لإرسال صور من جوازات سفر عائلة مبارك، لكن الرد جاء بأن الدولة لا تملك مثل تلك البيانات، وتساءل "هل لا تملك الدولة صورة لجوازات سفر مبارك وعائلته؟"، متابعًا أن "المشهد الحالي نتيجة متوقعة وليس غريبًا".
اعتذار للقارئ
وبناءً على كل ما تقدم، فقد انتهى النقاش اليومي باعتذار واجب للقارئ، وتأكيد على أن ما حدث "غلق للقضايا"، وليس "براءة دولية".