"لم أكن أنتوي الترشح لفترة رئاسية جديدة" بتلك العبارة أعلن الرئيس، وقتها، محمد حسني مبارك وأمام ضغط ثورة 25 يناير، نهاية عقود حكمه لمصر في 11 فبراير/ شباط 2011، ليصبح أول رئيس مخلوع في تاريخ مصر الحديث.
قبل تسع سنوات انتهى ظهوره كرئيس أصبحت صوره تلتقط في المحاكم بدلًا من الحفلات، بعد أن تحوّل دوره من حاكم إلى متهم ثم مريض كتبت له النهاية في يوم 25 من شهر التنحي نفسه، فبراير 2020، عن عمر يناهز 92 عامًا، تاركًا خلفه إرثًا من حكايات عسكرية وسياسية رسخّت في عصره لفكرة "الاستقرار" الذي ولّد فيما بعد انفجارًا أطاح به ووريثه المحتمل، ابنه جمال.
في الرابع من مايو/ أيار لعام 1928، استقبلت قرية كفر المصيلحة بمحافظة المنوفية، الطفل محمد حسني السيد مبارك، ﻷسرة ألحقته بسلك العسكرية عقب إنهائه تعليمه الثانوي بمدرسة المساعي المشكورة الثانوية بشبين الكوم، قبل الالتحاق بالكلية الحربية والحصول منها على بكالوريوس العلوم العسكرية في فبراير 1949.
بعد أدوار عسكرية كقائد سلاح الطيران في حرب أكتوبر 1973ينعيه بفضلها الجيش ورئاسة الجمهورية الآن؛ شهدت حقبة السبعينات نفسها منح السادات أدوارًا أخرى لمبارك، وذلك بتعيينه نائبًا له عام 1975، ولم تمضّ سوى 6 سنوات حتى صار النائب رئيسًا عقب اغتيال سلفه في حادث المنصّة.
كان العام 1981 هو بداية مشوار مبارك مع الرئاسة، والذي ظل يتجدد عهده معه لثلاث عقود، لم يعرف مبارك منافسًا له خلالها، إذ كانت تتجدد فترات رئاسته عبر استفتاءات شعبية يتم إجرائها على استمراره في الحكم من عدمه، كما يوثق التاريخ لها في أعوام 1987 و1993 و1999.
كفاية والتغيير
في عصر مبارك، تحديدًا عقدي الثمانينات والتسعينات، عرفت مصر "الاستقرار" بعد أعوام الحرب، لكنه كان استقرارًا من نوع خاص، ففيه يحصل المواطن على السلع المدعمة، وينتظم ابنه في صفوف مدارس حكومية تضيق قدرتها الاستيعابية تدريجيًا حتى ضاقت بتلاميذها، وفي الصيف قد يلتحق الطفل بأنشطة "مكتبة الأسرة" ومهرجان "القراءة للجميع"، برعاية زوجته "ماما سوزان" التي تختزن ذاكرة أطفال التسعينات صورتها في المحافل الاجتماعية والسياسية بجوار الرئيس.
ما قدمه مبارك، صدّره عدد من رجال عصره السياسيين والإعلاميين لرجل الشارع، باعتباره "دعم واستقرار وأمان" للمصريين في منطقة مشتعلة، المنطقة دائمًا مشتعلة لا تهدأ أحداثها، شهدت وقائع دامية كان أبرزها حربي الخليج الأولى والثانية والاحتلال الأمريكي للعراق بعد أحداث 11 سبتمبر.
مبارك كـ "لصّ مدان بحكم المحكمة"
لكن هذا الاستقرار، كان يخفي تحته الكثير. كما بدا من ردّة فعله عام 2005، الذي شهد أول انتخابات رئاسية في عهده، لم يأخذها الشعب أو السياسيين على محمل الجدية، إذ أنها لم تخرج في مساراتها عن خط الاستقرار الذي أراده مبارك، فقد كانت شبه ودية في منافساتها، لدرجة أن أحد رؤوساء الأحزاب، والذي كان من المفترض به أن يكون منافسًا، أعلن تأييده لمبارك، بل وتعهد بالتنازل له عن الحكم حال فوزه في الانتخابات، والتي اكتسحها مبارك كممثل للحزب الوطني بنتيجة 88%، لتظهر بعدها انتقادات للانتخابات التي كانت وبالًا على وصيف مبارك أيمن نور، الذي أودع السجن بعدها في قضية تزوير توكيلات تأسيس حزب الغد.
خط "الاستقرار" الذي أراده مبارك، كسرته الثورة التي أيقظت البلاد وحركّتها، وبعدها صار الرئيس متهمًا في قضايا قتل المتظاهرين وتصدير الغاز وكذلك قضية فساد القصور الرئاسية.
قضية الفساد هي الوحيدة التي أدين فيها وولديه بصورة نهائية باتهامات "الاستيلاء على أموال موازنات مخصّصة للقصور الرئاسية أثناء حكمه"، وصدر ضدهم حكم بالسجن المشدد 3 سنوات لمبارك و4 لنجليه، مع إلزامهم برد مبلغ 21 مليون و197 ألف جنيه، وتغريمهم متضامنين 125 مليونا، وهو الحكم الذي أيدته محكمة النقض التي رفضت تصالحهم.
أعمدة الاستقرار الجديد والقديم
العام 2005 لم يشهد الانتخابات فقط، بل شهد ظهور أول احتجاج علني غير مسبوق ضد شخص الحاكم مبارك، عبر تأسيس مجموعة من السياسيين حركة "كفاية" التي كانت تندد ببقائه رئيسًا، وهي الاحتجاجات التي أتبعت بعد أعوام بأخرى تندد بمحاولات توريث ابنه اﻷكبر جمال، والذي بدأ يظهر في الصورة عبر جمعية "جيل المستقبل".
تلك الجمعية بدت كمعمل تفريخ لبراعم ستتسلم الراية من الحزب الوطني، الذي كان قد بدأ يعرف وجوهًا أحاطت بالشاب جمال مبارك مثل أحمد عز ورشيد محمد رشيد ومحمد منصور وغيرهم. لوبي جديد داخل الحزب الوطني يتشكّل من رجال أعمال بعيدًا عن حرس قديم لطالما أحاط بأبيه مثل كمال الشاذلي وفتحي سرور وصفوت الشريف، وغيرهم من الوجوه التي حفظها أبناء الثمانينات والتسعينات عن ظهر قلب.
"استقرار" مبارك و"نوم" مصر كانت له أعمدة ارتكن إليها مبارك الأب في ترسيخ أقدامه خلال العقود الثلاث، تمثل أبرزها في المؤسسة العسكرية، لاسيما على مستوى قيادتها، إذ ظل محمد حسين طنطاوي على رأسها منذ أوائل التسعينيات حتى عام 2012، بعد توليه الحكم خلفًا لمبارك بصورة مؤقتة على رأس المجلس العسكري.
مشروع النهاية
"الثبات" كان من عوامله أيضًا التسويات التي كانت بين "الأب" والقوى السياسية واشتهر بها عهده، ممثلة في عد من الأحزاب المدنية مقابل حصص في مقاعد البرلمان، وكذلك علاقة "الكراهية- الحب" مع جماعة الإخوان المسلمين. في تسجيل قديم حذّر فيه الشعب منهم بقوله إنهم "بيستغلوا الديمقراطية علشان هيضربوا الديمقراطية وأول ما يوصلوا للحكم هتبقى الديكتاتورية البشعة، وهيفجروا ويرموا قنابل و هيقولوا على الحكام كفرة".
هذا الثبات حرّكه بعنف ظهور ابنه جمال بجانب تفشي أزمات الفقر والبطالة والإهمال الذي أسقط ضحايا بالمئات، كما كان في حادثتي حريق مسرح بني سويف وغرق عبّارة السلام التي عادت ذكراها بعد سنوات في "نكتة أطلقها هو: عبّارة من اللي بتغرق دي"، عندما تحرك الشارع انتهى كل شيء بإجابته الشهيرة عند سؤال أحد القضاة عن المتهم محمد حسني السيد مبارك، ليقول: حاضر يا فندم.