بينما كنت جالسًا مع الكاتب طارق إمام في مطعم لا تشيزا بشارع عدلي، أحاوره عن كواليس الكتابة وطقوسها، فوجئنا بهزات أرضية متتابعة، كدقات مدوية تنبئ باقتراب شيء ضخم من موقعنا، ثم سمعنا جلبة بالخارج وضجيجًا مصحوبًا بصرخات مرتعبة، ما جعلنا نترك مقاعدنا في قلق ونهرع للخارج، لنرى المشهد: عملاق طبق الأصل من طارق، يقترب من بوابة المطعم، ثم ينحني ناظرًا إلينا بتأمل.
كان هذا هو السؤال الأول الذي وجهته لطارق: ماذا لو حدث ذلك؟ سؤال فانتازي يتماشى مع مشروعه الأدبي الذي يمتزج فيه الواقع بالخيال، ويتعلق بروايته الأخيرة ماكيت القاهرة، التي وصلت للقائمة القصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية (البوكر). عندما سمع طارق السؤال ابتسم والتمعت عيناه، ثم قال ضاحكًا "هاديله نسخة من الرواية!".
في الرواية يصنع أوريجا عام 2045 ماكيتًا مصغرًا لقاهرة 2020، بينما تصنع نود سنة 2020 ماكيتًا مصغرًا لقاهرة 2011، قاهرة الثورة التي يعيش فيها بلياردو بعين وحيدة، بعدما فقد الأخرى في أحداث محمد محمود، ثم يعثر على كتاب الأقدار لمؤلفه منسي عجرم، ويقرأ فيه "مسرحية" تضعه هو ومدينته في مصاف العوالم الافتراضية.
يطل أوريجا بجسده العملاق نسبيًا على الماكيت الذي تعيش فيه نود المُصغَّرَة، بينما تطل نود بجسدها على الماكيت الذي يعيش فيه بلياردو، فيرى عملاقًا يغزو مدينته، صورة طبق الأصل من نود، ووسط الأحداث تطل نود العملاقة على نفسها في الماكيت الخاص بها، فترى نفسها في الماضي، بهيئتها المصغرة، التي كانت تنظر برعب إلى نسختها العملاقة وهي تقتحم المدينة...
وسط هذه الماتريوشكا الروسية، يمكننا أن نتساءل: ماذا لو ظهر لطارق إمام نفسه نسخة عملاقة؟ فكّر طارق في السؤال بتأمل، وبينما نتخيل معًا أن الجميع سيهرب من العملاق، اختار هو أن يذهب إليه، فهو لا يظن أنه سيؤذي نفسه، بل ستطغى غريزة المعرفة لديه على الخوف "مش هاقدر أمشي من غير ما أعرف إزاي ده حصل؟"
يحيل السؤال كذلك لبنية الرواية نفسها التي تجعل من الخيال حقيقة، بدءًا من جملتها الأولى "يتذكر أوريجا أنه كان طفلًا حين قتل أباه بهذه الطريقة: ألصَق إصبعًا بجبهته، متخيلًا أنه مسدس، وأطلق دويًا من فمه: بوم!"، الرصاصة المتخيّلة صارت حقيقة واقعية، فلِمَ لا يصبح طارق نفسه صانع ماكيت في عالمٍ موازٍ مستقبلي، قرر أن يطل على طارق المصغر في مطعم لا تشيزا؟ ما المانع في سيطرة الخيال على الحقيقة، وأن يُصنَع الواقع عن طريق الفن؟
يهتم صاحب الماكيت بهذا السؤال في كتاباته "ماذا لو حدث العكس؟ إن الواقع هو اللي يبدأ يحاكي الفن؟"، ومن المفارقات أن بلياردو مغرم بالمانيكانات في الرواية. بعد نشرها بشهر واحد، أرسل أحد الأصدقاء إلى طارق خبرًا صحفيًا عن رجل أوروبي يتزوج من مانيكان! "قريت الخبر واستغربت جدًا! إلى أي مدى ممكن المُخيلة في لحظة تبقى واقع؟"
طقوس الكتابة
بإصبع واحد فقط، وهو السبابة اليمنى، كتب طارق عشرات الآلاف من الكلمات، منذ أن تحوَّل مرغمًا من الكتابة بالورقة والقلم، إلى اللابتوب، نظرًا لظروف النشر الذي كان يطلب العمل مكتوبًا في ملف وورد يرفق بـCD. إصبع واحد خلقَ "ماكيت القاهرة" التي باتت مرشحة لإحراز هدفٍ في البوكر. إصبع واحد، هو كل ما يملكه طارق لنقل لحظات الإلهام التي تتشكل داخل عقله، فينقلها بعدة ضغطات على لوحة المفاتيح.
ظن طارق أن هذا الانتقال سيفسد عليه متعة الكتابة بالقلم، خاصة أن لديه خط جميل، فكان يكتب اسمه على المخطوط بنفس الطريقة التي يكتب بها توقيعاته الشهيرة على كتبه.. لكنه اكتشف متعة الكتابة على اللابتوب "فضاء اللابتوب بيديك إمكانيات هائلة للتعديل، بتعرف عدد الكلمات، بتبقى شايف المسألة بشكل أفضل، تشيل مقطع وتحطه مكان مقطع، طبعًا ده كان متعب جدًا في الورق، أنا كنت بقعد أكتب كتير وأبيّض وأعيد كتابة، أو أقطع مقطع أحطه مكان مقطع، وأعمل عمليات مونتاج بدائية.. كانت مسألة صعبة جدًا".
لا يكتب طارق في مكان محدد، فيكتب في البيوت، المقاهي، الأماكن العامة.. وعندما كان يكتب بالقلم كانت له تجارب للكتابة في المواصلات، والأوتوبيسات... يقول "عوّدت نفسي على استجلاب الإلهام، لازم تخلق في أي ظرف فكرة إنك تكتب" وعندما تحتدم الكتابة، يصبح مُدخِّنًا شرهًا، ويكتب طوال الوقت، صباحًا وليلًا، ولا يشتته شيء عن الكتابة.
أحلام وأغاني
"أنا شخص بلا موبايل" هكذا عبر طارق بشكل قاطع عن حالته أثناء الكتابة، حيث يضع هاتفه على الوضع الصامت، ولا يرد على أي مكالمة، بل لا يقوم من مقعده إذا رن جرس الباب. وفي السنة الأخيرة من كتابة ماكيت القاهرة، انفصل تمامًا عن العالم، وعن عمله في الصحافة والكتابة النقدية؛ لم يستطع أن يمارِس أي كتابة أخرى بجوار كتابة روايته.
هذا الاستغراق في الكتابة قد يجعله يحلم بها، وربما يستحضِر فكرة ما من عالم الأحلام؛ في رواية طعم النوم مثلًا، التي تتحدث عن فتاة نائمة، حلمَ طارق بنفسه نائمًا، فتساءل "طب الحلم بتاعي أنا عارفه، طب الشخص اللي نايم جوة الحلم ده، بيحلم بإيه؟". كما آتته المسز في أحلامه (إحدى شخصيات ماكيت القاهرة) ولكن في صورة كوابيس مرعبة، إذ ما يزال طارق يخاف من الأشياء التي كانت ترعبه وهو طفل "فيلم سفير جهنم ما زال بيرعبني، لو شوفته أغيّر.. بخاف فعلًا".
أثناء الكتابة يستمع طارق إلى الأغاني المصرية التسعينياتية، وبخاصة لمصطفى قمر، "مرتبطة بجيلي، وجزء من إيقاعي" وفي "الماكيت" كان يستمع إلى أغنية عيني لحميد الشاعري ويجعلها في وضع Loop لا يتوقف، حتى إنه أطلق على المقهى المذكور في الرواية مقهى عيني، الاسم المرتبط بقصة بلياردو أحد مرتادي المقهى، حيث فقد عينه في أحداث محمد محمود. كذلك كان يستمع لاسكتش حبيبي شغل كايرو للفنان شكوكو، حيث استلهم منه اسم جاليري شغل كايرو، الذي يتم فيه صنع ماكيت القاهرة بالرواية.
أغنية عيني لهشام عباس وحميد الشاعري
"أنا بكتب بطريقة غريبة" يقول طارق إن لديه مشاريع عديدة غير مكتملة، يتوقف عن كتابتها ويبدأ في أخرى؛ فماكيت القاهرة كانت تراوده فكرتها سنة 2004، وكتب متنها الأساسي ما بين عامي 2011 و2013، وحتى وقت صدورها في 2021 كتب خلالها طعم النوم ومدينة الحوائط اللانهائية. أثناء كتابة الماكيت كان يقول لأصدقائه المقربين "الرواية دي جريدتي اليومية" فعشر سنين من كتابة واقع الثورة الممتد أثره عبر الزمن، جعله في كل مرة يشعر أن الرواية لم تنته بعد. كما أن لديه نوفيلا منتهية من 2013، لم ينشرها حتى الآن، بل ظل بعدها لخمس سنوات لا ينشر أية أعمال "كان ممكن أنشرها، بس لا، حاسس إن فيها شيء ما ناقص مش عارف هو إيه لسه".
ولكن هناك من أعجبته هذه النوفيلا ويرى أنها صالحة للنشر، إنه المترجم والناقد السيد إمام. حينما سألت طارق عن محرر أدبي خاص أو إن كان يرسل مخطوطاته لبعض الأصدقاء الكتاب، قال بشكل قاطع "أبويا.. أبويا راجل مثقف ومترجم، وهو الوحيد اللي بيقرا مخطوطاتي وبيقولي ملاحظاته "لا يرسل صاحب الماكيت مخطوطاته للعرض على أحد غير أبيه، ولهذه اللحظة يقرأ النوفيلا، فلا يجد بها أي مشكلة، ولكنه يشعر دائمًا أنها ينقصها شيء ما، لا يعلم ما هو.
بذرة الكتابة
تتولد لدى طارق بذرة الكتابة عن طريق فكرة مجرَّدة، أو عنوان، أو جملة يأتي بها الإلهام تصلح أن تكون في رواية، أو مدخلًا لها. "في هدوء القتلة مثلًا، برزت في ذهني فكرة شخص ما بيقتل بإيد علشان مقابل ده يكتب قصيدة بإيد" لكنه لم يكن يعلم أي شيء عن الحكاية، حتى كتب قصة قصيرة، ثم ضمها برمتها في رواية هدوء القتلة. كما أن روايته "الأرملة تكتب الخطابات سرًا" كانت في الأصل قصة قصيرة بعنوان "أرملة الغراميات المنسية"
أما ماكيت القاهرة، فكانت تجربة فريدة لم يشهد طارق مثلها من قبل في كتاباته؛ عادة يختار عنوان العمل بعد الانتهاء منه، ولكن هذه المرة جاء كعنوان في مرحلة مبكرة قبل كتابة الرواية نفسها. كما أن جملتها الأولى (جملة أوريجا) هي نفسها التي بدأ بها كتابة الرواية، وهذا لم يحدث سوى في الماكيت، وهذه الجملة، مع جملتي بلياردو ونود يمثلون بذرة الرواية.
هناك تعدد أصوات في الماكيت، تبدأ بأوريجا، ثم نود، ثم بلياردو، لكل شخصية جملة افتتاحية مدهشة، غرائبية، ومربكة للعقل، تطبق مفهوم الـ mind-blowing بحذافيره. هذه الجمل الثلاث أتت في رأس طارق كضربات إلهامية "الفكرة الأولى بتيجي، بتباغتني، وأنا ماشي في الشارع، لو معايا ورقة في نفس اللحظة بكتب، معاييش بختزنها وبحاول أحافظ عليها لأنها بتجيلي ملتبسة بلغتها، مش مثلًا كصورة بصرية، لأ، بتجيلي شِبه مكتوبة، بتجيلي مِتصاغة"
تكنيك الكتابة
الجملة الأولى لها وضع خاص في كتابات صاحب الماكيت، إذ يرى أن القارئ يعقد اتفاقًا مبكرًا مع الكاتب، لذا، فالمدخل الروائي ينبغي أن يحتوي على العناصر الأساسية للعمل، وطبيعته على مستوى النوع، فانتازيا أم واقعية؟ واللغة، شعرية أم ساخرة أم رصينة؟
كما أنه يميل للبدايات الخاطفة "بحب أبدأ من لحظة ذروة ما". في الماكيت يبدأ بحادث قتل، وفي الأرملة يبدأ بخطاب غرامي يحطم النافذة ويستقر بجوار امرأة نائمة. يُفَضِّل طارق هذه البدايات، ليس فقط لأنها تجذب القارئ، ولكن لأنها تجذبه هو أيضًا كي يكمل الكتابة "الكاتب عنده مسؤولية تانية، إن هو نفسه يخلي نفسه يكمّل روايته، يعني إحنا أحيانًا محتاجين نفاجئ نفسنا بردو، أو محتاجين نجد حافز إن إحنا نكتب ونلهث إحنا كمان".
لا يحضِّر طارق خريطة للرواية وجداول للشخصيات كما كان يفعل نجيب محفوظ "أنا لا أكتب مخططات، الرواية بتبقى في ذهني" ومساحة الارتجال لا وجود لها تقريبًا إلا في تفاصيل فرعية، والتي تظل تخدم الإطار الأساسي للفكرة، فإن كانت خارج الإطار، يقوم بحذفها. فالرواية تتحقق بقدر من "البراءة والقصدية" لا يمكن الاستغناء عن إحداهما "فيه إضاءات، فيه لمعات، فيه ارتجالات، فيه مفاجآت بتحصل.. بس أيضًا مفاجآت تسمح بيها البنية، وإلا بقى هايبقى حشو يعني".
"الرواية هي فن المصير" يكتب طارق الرواية وهو يعلم كل شيء تقريبًا عن الصفحات المقبلة، والنهاية. عندما كتب مدخل نود كان يعلم أن هناك جملة متعلقة بالمدخل سينهي به الرواية "أنا عمري ما أكتب رواية غير لو أنا عارف الأحداث الرئيسية والمصائر، الناس دي طالعة من نقطة (أ) ورايحة للنقطة (ي)".
قد تحدث مفاجآت أثناء الكتابة، ربما يأتي خيار أفضل، لكنه لا يحطّم المخطط الذي توّلد في ذهنه، هناك التزام صارم. في "الماكيت" انتهى بلياردو في القسم الأول راكضًا، وفي القسم الثاني كان المخطط أن ينتهي ببلياردو راكضًا أيضًا هربًا من المسز، لكن طارق قرر اللعب في المخطط، فجعل بلياردو يقتل المسز. هذا المساس بالمخطط الأصلي وضعه في حيرة "وأنا بكلمك دلوقتي بفكر إن ربما الخيار الأول كان أفضل... ماعرفش".
ولكتابة الرواية يحتاج طارق بشدّة إلى جمع المعلومات، كي يتقمص الشخصية. "لابد الكاتب تكون عنده معرفة شمولية" ليقنع نفسه قبل القارئ ويتخيل لو أنه مكان البطل، فإن كان صانع ماكيت مثلًا، فيجب على الكاتب أن يعرف كل شيء عن صناعة الماكيتات، وبعد جَمَع المعلومات ستتولى المخيلة الأدبية بقية المسألة "أنا لما قريت العجوز والبحر قلت لا بد يكون همنجواي ده صياد سمك"، ولكن في حالات أخرى، لسنا بحاجة لأن نصبح قتلة كي نكتب عنهم، يقول مازحًا "ما أنا عندي رواية عن قاتل، هل هانزل ميدانيًا أقابل قتلة؟".
لذا، فالرواية عند طارق هي فن "التقمص"، فالكاتب يؤلف القصص الخيالية، والشخصيات لا تعبر بالضرورة عن الكاتب نفسه، إنما يتقمص شخصية ما "أنا ضد مقولة: أن تكتب ما تعيشه.. يعني إيه أكتب ما أعيشه يعني؟ طب الرواية التاريخية تكتب ما تعيشه؟ هل السريالية تكتب ما تعيشه؟ الخيال العلمي؟ مافيش حاجة اسمها تكتب ما تعيشه، في حاجة اسمها إن الروائي عنده مجموعة أفكار متصارعة، وفي حالة جدل بتتجسد في قصة".
وصاحب الماكيت لا ينتظر الوحي كي يبدأ في الكتابة، بل يأتي به ويمسك بدفة القيادة، ويسوقه "أنا بستحضر الإلهام.. بعتبر إن الإلهام جزء من روتين الروائي؛ إنه يكون قادر في كل لحظة يجلس فيها إلى الكتابة أن يستحضر الإلهام" خاصة في الروايات، فنحن أمام بناء كامل، شخصيات، صراع، مصائر "الرواية بناء، في رأيي".
الجوائز الأدبية
في أواخر الثمانينيات، وفي مدرسة الجمعية النسائية لتحسين الصحة بدمنهور، فاز الطفل طارق إمام في المرحلة الابتدائية بأول جائزة في حياته، عن أفضل موضوع تعبير على مستوى الجمهورية، وحصل على شهادة استثمار بقيمة خمسة جنيهات، ومن بعدها.. توالت الكتابات والجوائز.
"كنت شاطر في الكتابة، بحبها من ابتدائي" يقول صاحب الماكيت إن الرسم كان ينافس الكتابة، حتى إن أهله كانوا يظنون أنه سيصبح رسامًا "كنت بعمل مجلات أطفال.. مجلة كاملة من الغلاف للغلاف، بمواضيع برئيس تحرير بكوميكس بقصص مكتوبة.. يعني كان فيها كل فنون الصحافة" وظل الرسم يسير بجانب الكتابة حتى انجذب أكثر لقراءة أدب الكبار.
يحاول طارق أن يتذكر تلك المرحلة الفارقة تحديدًا، تضيق عينيه قليلًا ثم ينظر لأعلى كأنه يبحث عن ذكرى تائهة "مع نهاية الإعدادية وبداية الثانوية، نشرت أول قصة سنة 92 في مجلة أدب ونقد. كان عندي 14 سنة، في أولى ثانوي. بالبريد لحلمي سالم... حلم الكتابة من الإعدادية".
وفي عام 2002، بعدما أنهى طارق دراسته بكلية الآداب جامعة الإسكندرية، حصل على أول جائزة أدبية حقيقية، وهي جائزة سعاد الصباح للإبداع الأدبي، عن مجموعة قصصية بعنوان ليلة الماريونيت المجموعة التي تطورت وتحللت ودخلت قصصها في مجموعات أخرى نُشرت بعد ذلك.
ثم توالت الجوائز: الجائزة المركزية لقصور الثقافة مرتين، وجائزة ساويرس مرتين، وجائزة الدولة التشجيعية، وجائزة متحف الكلمة العالمية... سألته "هل تكتب عملًا ما من أجل الحصول على جائزة؟" فاستنكر السؤال قائلًا "أبدًا.. مش عارف يعني، إزاي الرواية تتكتب من أجل جائزة؟" ثم ذكر أنه رُشِّح للبوكر ثلاث مرات من قبل ولم يصل للقائمة الطويلة أو القصيرة "أنا بحب التجريب".
وعن توقعه أن تصل ماكيت القاهرة للقائمتين الطويلة والقصيرة في البوكر قال "لما بعتها لخالد الناصري في المتوسط، ماكانش في ذهني خالص الجايزة، بس قلتله دي حلم عمري، دي حلم حياتي.. يعني حتى هذه اللحظة" لم يطلب من الدار ترشيحها للبوكر، ومع مرور الوقت وقر في ذهنه أنها أرسلت الروايات المرشحة، وأن "الماكيت" لن تنافِس، ولكن في آخر لحظة، وقبل إغلاق باب التقدم بأيام، تلقى اتصالًا يخبره أن روايته رُشحت، وكانت أول رواية له تصل للقائمة الطويلة، ثم القصيرة.
مكانة ماكيت القاهرة
العمل الذي يعد نقلة نوعية في مسيرة طارق إمام الأدبية كان رواية "هدوء القتلة"، فقد وجد خلالها إيقاعه "أعتز بهدوء القتلة بشكل خاص"، ولكن عندما سألته "أكتر من الماكيت؟" ابتسم بثقة قائلًا "لأ.. أنا كنت بكتب كل الحاجات دي عشان أكتب ماكيت القاهرة".
إذا سألنا صاحب الماكيت سؤالًا افتراضيًا: لو خُيِّرت بين أعمالك ليبقى معك عمل واحد، ماذا ستختار؟ سيختار ماكيت القاهرة. ولا يعتقد أنه سيكتب عملًا في المستقبل يحل محل الماكيت أو يعلو عليه "بصعوبة، وممكن مايجيش. يعني أعتقد إن الرواية دي ممكن تكون هي عملي المركزي".
ماكيت القاهرة هي أكثر رواية لطارق تصل لنجاحات كبرى على مستوى القراءات النقدية، المبيعات، ووصلت للقائمة القصيرة للبوكر، الأمر الذي جعل طارق يقلق لأول مرة في حياته حيال العمل الأدبي القادم "أنا لأول مرة أبقى قلِق تجاه عملي القادم. أنا في الكتابة بيبقى عندي مشروع هاكتبه، ماليش علاقة الكتاب نجح أو لا. أنا أول مرة أحس بخوف من كتابي الجاي، فعلًا".
البحث عن قصيدة
يرى طارق إمام نفسه أقرب للواقعية السحرية منها للفانتازيا، فأعماله دائمًا يمتزج فيها الواقع بالخيال، ويحاول أن يطرق أبواب الأدب الأخرى من خلال نفس التيار "بحاول أنوّع في إطار من مزج الواقعي بالخيالي". ولا يرى في ذلك عيبًا أن يلتزم الكاتب بتيار فني محدد لأعماله، فماركيز معروف بالواقعية السحرية، وكامو بالعبثية، وجويس بتيار الوعي "ما المانع إن الكاتب يبقى بيشتغل من جوة تيار وبيأصَّل فيه وبيعمَّق فيه؟".
يقول إمام "فيه نوعين من الكُتَّاب: الكتابة بشبهها بالعمران، في واحد يبني عمارة لفوق، يعني طابق فوقيه طابق، فيصنع ناطحة سحاب. ممكن تكون في حيز مكاني مش واسع، لكن ارتفاعها عالي جدًا. فيه واحد تاني يشتغل بشكل أفقي، يعني طابق جنبيه طابق جنبيه طابق، فتلاقي رواية واقعية ورواية فانتازية ورواية ديستوبية...".
كما يرى أن اختيار الكاتب لتيار معين له علاقة برؤيته للواقع "أنا بشوف الواقع كدا، آه ملتبس بالخيال، أرى إنه مافيش فصل حقيقي بين الواقع والخيال" فالخيال فاعل في الواقع "إلى الآن نذهب للأولياء، ونحاول البحث في المخزون الديني والخرافي وفي الأحلام والنبوءات عن تفسيرات لهذا العالم المادي" يرى طارق أن الثقافة العربية ثقافة روحية بالأساس، وموروثها الفني كألف ليلة وليلة يذهب للخرافي والعجائبي. لذا يستنكر طارق قائلًا "فلماذا ننكره حين نحاول توظيفه في كتابة جديدة؟ ولماذا ننبهر بيه حين نجده عند ماركيز وباولو كويلو وبورخيس؟ يعني لماذا حين يُصَدَّر إلينا ننبهر، وحين نكتبه نحن، ونحن أبناؤه، يتقالك وفين الواقعي؟".
في النهاية، سألت الكاتب طارق إمام إن كان بإمكانه تلخيص مشروعه الأدبي في جملة واحدة، فسكت قليلًا متأملًا يفكر، أخذ نفسًا عميقًا من سيجارته، ثم قال "علاقة الفرد بالمدينة كتمثيل للوجود من خلال باب فني يمتزج فيه الواقع بالخيال..." سكت صاحب الماكيت، وتجمدت ملامحة كأنه تحول إلى مانيكان... شكرته على المقابلة وكدت أهم بفصل التسجيل، إلا أنه قاطعني مكملًا "استنادًا للغة تخلق أفقًا شعريًا" قال إن هذا الأمر مهم جدًا بالنسبة له "أنا بكتب الروايات بحثًا عن قصيدة.. ببحث عن الشِعر".