فليكر برخصة المشاع الإبداعي (USAID Egypt)
طلاب في إحدى المدارس المصرية

العربية ليست وصمة: رحلتي لهجر مدارس اللغات

منشور السبت 9 أبريل 2022

 

في مثل هذا التوقيت من كل عام، تبدأ رحلة البحث المحموم عن مدرسة مناسبة، كل يرغب في مدرسة قوية وتعليم رفيع لأطفاله، وعبر إحدى مجموعات فيسبوك، طرحت أم سؤالًا بشأن التعليم باللغة العربية، هل هو خيار جيد لطفلها؟ فجاءت الردود عنيفة للغاية لمجرد أنها تفكر في الأمر، لكن التعليق الأبرز كان ذلك الذي كتبته واحدة، قالت إنها تعمل بقسم الموارد البشرية في أحد الشركات، قبل أن تؤكد أنها "تستبعد السير الذاتية التي تظهر أن الطالب في طفولته كان في مدارس تدرس باللغة العربية".

كنت انخرطت في الحيرة ذاتها قبل سنوات، واهتديت مثل الكثيرين، إلى أن التعليم بلغة مختلفة أفضل بالتأكيد، فطفلي يتحدث العربية بالفعل في البيت، والشارع، لذا سيكون من المفيد لو تعلم بلغة مختلفة، ويا حبذا لو كان ذلك بلغتين، هكذا قدمت أوراقه حين كان عمره بعد ثلاث سنوات ونصف، ليلتحق بأحد المدارس الفرنسية العريقة في القاهرة، التي يعود تاريخ تأسيسها إلى القرن التاسع عشر، حيث كان من المقرر أن يدرس العلوم والرياضيات باللغة الفرنسية، إلى جانب اللغة العربية، واللغة الإنجليزية لاحقًا في الصف الأول الابتدائي.

في البداية كنت سعيدة بتلك الكتب الملونة المميزة جدًا، حين تقارنها بكتب الوزارة الرسمية في مصر، سبق وأن تعاقدت الوزارة مع دار نشر أجنبية لتقديم الكتب المميزة التي ياتي بعضها مرفقا بـ CD جميل، وكم الكتب الضخم، والأغنيات الفرنسية اللطيفة، والاتيكيت الفرنسي اللذيذ.

انبهار رغم الركاكة

انقضى العام الأول من مرحلة كي جي، مع طفل يتقن العد على عشرة بالفرنسية، ويتقن كتابة الحروف بطريقة مختلفة (مشبكة) مع بعض الأغنيات، بما فيها نشيد الصباح، ليس النشيد المصري الأصلي، بكلمات فرنسية ركيكة، يبدو أن تأليفها تم على عجل، لم أكن أبتلعه لكنني كنت أسعد بصغيري وهو يتحدث بكلمات فرنسية إلى جانب لغته العربية .

في العام الثاني، من مرحلة كي جي، كان الموعد مع جائحة كورونا، حيث لم نقض نصف العام تقريبًا في المدرسة، وهنا وجدتني في اختبار حقيقي مع اختياري، في توقيت وجه فيه وزير التربية والتعليم باللجوء إلى التعليم الإلكتروني، لم نحصل من مدرستنا سوى على عدة مقاطع فيديو، يفترض أن يشاهدها صغيري فيتعلم لغة أخرى كاملة، والمشكلة أنه ليس ثمة مقاطع فيديو على موقع يوتيوب، أو أي منصة أخرى لشرح المنهج الفرنسي خاصة لتلك المرحلة المبكرة.

صار الحصول على دروس خصوصية فرض عين، وإلا فلا أنا ولا الوزارة نملك مساعدة الطفل الذي لن يعرف شيئًا عما يفترض به أن يتعلمه.

صدمة ما بعد الانبهار

هكذا قدرت أن الأمور يمكن أن تتحسن في الصف الأول الابتدائي، لكنني في تلك المرحلة بالذات بدأت اكتشاف مدى فداحة ما فعلت بحق ابني، خاصة مع منهج العلوم الجديد "اكتشف"، إذ بات يتوجب عليه أن يعرف أمورًا بشأن السير مجدي يعقوب، وقدماء المصريين، الفصول، وبلده الأم مصر، بلغة غير لغة البلد، لم يستوعب طفلي أي شيء، وكيف لطفل ما يزال يتهجى الحروف الأولى من لغة معينة أن يتعلم العلوم والرياضيات باللغة ذاتها، أي منطق هذا؟ وجدتني أتساءل كيف يمكن أن ننجو؟

انتهى الصف الأول الابتدائي بشعور أن طفلي ليس متسقًا مع ما يدرس، وليس سعيدًا أيضًا، في ظل حالة من عدم الفهم، انعكست ليس فقط على غربته عن المدرسة بل على السياق ككل، صار الاستيقاظ صباحًا للذهاب إلى المدرسة ضربًا من العذاب، لا يحب المدرسة، ولا يملك صداقات تقريبًا، ولا يشعر أنه مميز بأي شكل.

ثلاث سنوات شعرت خلالها أننا داخل مأساة، أقنعه بصعوبة أننا يجب أن نذهب إلى المدرسة البعيدة عن محل سكننا، التي التحقنا بها طمعًا في تعليم جيد، فانتهى الأمر إلى حالة من التيه، لم نعد أفضل كما كنت أتمنى، وصار صغيري تائهًا.

حيرة يحسمها العلم 

ماذا لو نقلته إلى مدرسة عربية؟ هل سأصير أمًا ظالمةً؟ هكذا دخلت في حيرة عنيفة، اللغات هامة للغاية، ألمس أثر أهميتها كل يوم، في عملي وحياتي فرص ضائعة كنت لأقتنصها لو كانت لغتي الإنجليزية أفضل، لكنه ليس سعيدًا في مكانه، ما العمل؟

 

عندها سلكت الطريق نفسه الذي سلكه الكثيرين قبلي، فتحت فيسبوك وقصدت أحد أشهر المجموعات الخاصة بالتعليم الأساسي، وسألت، أيهما أفضل التعليم باللغة العربية أم اللغات؟ فأمطرتني الإجابات التي تعتبر مجرد السؤال ضربًا من الخطل، كان ثمة إجماع على أن اللغات أفضل قطعًا، و كان من بين الإجابات، تلك الإجابة التي تقلصت معها معدتي "بالطبغ اللغات أفضل، الواقع يقول ذلك، بعيدًا عن مستوى المدارس العربية، لن تجدي وظيفة الآن، جيدة، لا تشترط اللغة، الفارق ضخم بين من تعلموا اللغة منذ طفولتهم وهؤلاء الذين تعلموها في مراحل لاحقة".

لم تقنعني الإجابات في ظل واقع مغاير أعيشه مع طفلي، فهي تدفعني أن أتركه في ذلك الجحيم سنوات أخرى، لذا قررت اللجوء إلى العلم، لعلي أجد فيه هدى، هل حقًا تعلم الطفل للمواد العقلية والمنطقية كالرياضيات والعلوم، بلغة غير لغته الأم يؤثر عليه نفسيًا وذهنيًا، بالسلب أم بالإيجاب؟

في الهند، حيث العديد من اللهجات واللغات، اتخذت وزارة التعليم قرارًا بأن تصير اللغة الأم هي اللغة الأساسية في التعليم حتى الصف الخامس على الأقل، ويفضل أن تستمر حتى الصف الثامن، وفي أحدث نسخة من سياسة التعليم الوطنية، أشارت إلى أنه سيتم توفير الكتب المدرسية، بما في ذلك العلوم  بلغات الوطن "اللغة الام" لضمان عدم وجود أي فجوات بين اللغة التي يتحدث بها الطفل ووسيلة التدريس، لذا تم التأكيد على أن لغة التعامل بين الطلاب والمعلمين هي لغة المنزل.

عثرت أيضًا على  دراسة أعدت حول أهمية التعلم باللغة الأم، خلاصتها أن اللغة الأم قيمة لأسباب عديدة، وأن تعلم التحدث بها ضروري لنمو الطفل بشكل عام، ويفيده بعدة طرق، ليس فقط لأنه يربطه بمستقبله، ولكن لأنه يضمن التطور المعرفي المُعزز، ويربط الطفل بثقافته، بل ويدعم تعلم اللغات الأخرى، تلك النقطة الأخيرة كانت هامةً جدًا بالنسبة لي، فبحسب الدراسة "يفهم الطفل أولًا ما يدور حوله من خلال اللغة التي يسمعها من والدته، وهي تتواصل معه قبل أن يولد ويفكر".

وتضيف الدراسة أن الكثير من أبناء العالم النامي يتعلمون القليل جدًا في المدرسة، وهي حقيقة يمكن ربطها بالتدريس بلغة لا يفهمونها، ممارسة يتم اعتبارها سببًا في التعليم المحدود، أو غياب اكتساب المعرفة والمهارات.

بحسب الدراسة ذاتها، فثمة توصية بعدم تجاهل اللغة الأم، على الأقل في السنوات الأولى، لأن ذلك يمكن الطفل من التعلم بشكل أكثر فعالية، باختصار، يساعد التعليم باستخدام اللغة الأم في السنوات الأولى المعلمين على التدريس بشكل أفضل، والطلبة على التعلم بشكل أفضل.

العودة إلى اللغة الأم

حسمت أمري كليًا بعد أن اطلعت على دراسة صادرة عن منظمة اليونسكو، عن أهمية الدراسة باللغة الأم، وأنه في حالة دراسة لغتين في العملية التعلمية، تكون الغلبة والأساس للغة الأم. الفكرة ذاتها طبقتها إثيوبيا عقب دراسات خلصت إلى النتيجة التي سبق لليونسكو وعدد من الباحثين التأكيد عليها.

 روتو، منظمة دولية معنية بجعل التنوع اللغوي والثقافي هو المعيار في التعليم بالنسبة للسكان الأصليين والأطفال الذين ينتمون إلى أقليات أو خلفيات مهاجرين. كانت المنظمة أعدت تقريرًا عبر موقعهم الرسمي، قاموا خلاله بتفنيد أهمية التعلم في سنوات التعليم الأساسي بلغة الطفل، التي يفهمها ويتحدث بها مع والدته في البيت، تلك تجعله يتعلم بشكل أفضل، فضلًا عن عدة فوائد أهمها "منع التأخير في التعلم، حيث يتعلم الأطفال بشكل أفضل وأسرع في حال تم استخدام لغتهم الأم داخل المدرسة".

ويضيف التقرير أن الأطفال يستمتعون بالمدرسة أكثر ويشعرون أنهم ليسو غرباء في حالة الدراسة باللغة الأم،  وأن الطفل يشعر بذاته ويصير أكثر ثقةً واحترامًا لنفسه، زيادة مشاركة الوالدين، ومساعدتهم في أداء الواجبات المنزلية، والأنشطة المدرسية. 

 باقتناع تام، نقلت ابني من مدرسته الفرنسية إلى مدرسة خاصة تدرس العلوم والرياضيات باللغة العربية، خضت رحلة نقل الأوراق من محافظة لأخرى ومن مدرسة لأخرى، والحق أنها كانت رحلة شاقة، حيث الكثير من الأوراق الرسمية، والمشاوير التي قطعتها طوال 7 أيام بصورة يومية حتى انتهى الأمر بسلام.


اقرأ أيضًا: الكتب إجبارية ولو تأخرت: البيزنس يحكم المدارس التجريبية

 


عقب النقل، تأكدت أن قراري كان صحيحًا، رغم صعوبته، اللغات مهمة بالفعل، لكن أهميتها تأتي عقب أهمية اللغة الأم، قررت في النهاية أنني لن أضغط عليه في المدرسة العربي، هكذا تركته يتعافى من أثر ثلاث سنوات ظل خلالها من أقل التلاميذ في التقديرات، منحته ما يكفيه من الوقت كي يهدئ ويستقر نفسيًا وعقليًا حتى حدث المراد، واتسق ابني أخيرًا مع السياق الذي وجد نفسه فيه.

صار قادرًا على فهم ما تقوله أستاذته في الفصل، ليس مضطرًا لبذل مجهود مضاعف كي يستجمع تركيزه في فهم لغة ما يقال، هو بالفعل يفهم اللغة وبالتالي ينصب تركيزه على استيعاب الموضوع، هكذا صار أكثر ثقة في نفسه، الآن أقول الإجابة بثقة، نعم، الإجابة  "مدرسة عربي"، رغم خجل البعض من أن يصرحوا أن أطفالهم يدرسون في مدرسة عربي، حيث صار التقييم الاجتماعي والتقدير المادي يترتيب على لغة الدراسة وحجم الأموال المدفوعة في المدرسة.