"أي جمهورية جديدة إذا كان ابني محبوسًا منذ أكثر من عامين بلا سبب إلا لأنه ينشر على فيسبوك وينتقد أوضاعًا سياسية لا تعجبه؟ وأي جمهورية جديدة إذا كانت سيدة في السبعين مثلي تهان في طوابير التفتيش أمام باب السجن كل أسبوع كي أراه لمدة 20 دقيقة فقط من وراء حاجز زجاجي"؟
كلمات وأسئلة سريعة غاضبة قالتها الحاجة ماجدة وهي تبكي ويظهر على ملامحها علامات الأسى والتوتر بينما تنظر إلى الشاب الواقف أمامها.
كنت في طريقي لحضور حفل توقيع كتاب صدر حديثًا لصديق، حين قررت أن أركن سيارتي في أقرب مكان وأستقل مترو الأنفاق هربًا من قيادة السيارة في زحمة القاهرة، الزحام الشديد في المترو يدل على أنني لم أتخذ القرار الصائب، ومع ذلك شعرت بحسن حظي لأنني أفلت على الأقل من إرهاق قيادة السيارة.
كانت الأصوات تتعالى في نهاية عربة المترو، سيدة سبعينية تبكي وهي تتحدث بينما الركاب ينصتون في اهتمام، كنت في نهاية عربة المترو بينما السيدة التي لمحتها تبكي تجلس في بداية العربة، حال بُعد المسافة بيننا دون قدرتي على سماع ما تقول، لفتت نظري حالة الإنصات التام التي التزم بها كل الملتفين حولها من الجالسين والواقفين على السواء، استبد بي الفضول وقررت الاقتراب قليلًا حتى أسمع حديثها بشكل أفضل؛ كانت السيدة السبعينية تحكي قصتها وهي تتحدث عن إحساسها بالظلم وبالإهانة وبكرامتها التي تنتهك، في البداية لم أفهم الموضوع بشكل دقيق، ولكني مع الوقت والتركيز فهمت قصة الحاجة ماجدة، كما كانت تناديها ابنة شقيقتها الواقفة إلى جوارها، وأدركت أنهم عائدون من زيارة ابنها المحبوس منذ أكثر من عامين.
كنت أنصت إلى حديث الحاجة ماجدة باهتمام، وهي تحكي مختنقة بالدموع عن ابنها الذي ألقت أجهزة الأمن القبض عليه بعد شهرين من زواجه، تقسم أن ليست له علاقة بأي جماعات سياسية وأنه فقط أحد الذين شاركوا فى الثورة المصرية في عام 2011، كان بكاؤها يشتد كلما تذكرت حديث ابنها إليها وقت الزيارة، أو استعادت صورة الحاجز الزجاجي الذي تراه من خلفه، مع استمرار بكائها حاول الملتفون حولها تهدئتها، أحدهم يقدم لها زجاجة مياه لتشرب بينما يحاول آخرون تطييب خاطرها بجمل من نوعية "سيخرج قريبًا، ربنا معاكم"، فجأة تدخل في الحوار شاب غاضب كان يقف أمامها سائلًا بحدة "أين الجمهورية الجديدة التي يبشرون الشعب بها ليل نهار وتمتلئ بها شاشات القنوات التليفزيونية؟ وأجابته الحاجة ماجدة إجابة سريعة غاضبة.
لمدة 25 دقيقة وحتى غادرت المترو ونزلت في محطة الشهداء ظلت الحاجة ماجدة تحكي عن ظروف ابنها في الحبس، وتجيب عن أسئلة الملتفين حولها في عربة المترو، بينما كنت أقف صامتًا مستمعًا بكل دقة لحديثها الذي أصابني بالضيق الشديد، كان اللافت وهي تحكي قصتها ليس فقط مساحة الحزن العميقة التي تملكت منها تمامًا، بل درجة الوعي الكبيرة بالواقع الذي نعيشه.
صاغت هذه السيدة البسيطة بحديثها وبإجاباتها على ركاب المترو واقعنا بدرجة بدت لي مدهشة، حملت بساطة العبارات التي كانت تنطق بها، بلسانها ودموعها على السواء، تشريحًا حقيقيًا لواقع حقوق الإنسان في مصر، والتراجع الفادح والحصار الشامل الذي تعرضت له الحريات العامة في السنوات الخمس الأخيرة، كشفت بعباراتها الحزينة محنة مساحات الحقوق المدنية والسياسية التي تضاءلت حتى كادت تتلاشى، فعلت كل ذلك دون أن تنطق كلامًا كبيرًا، فقط اكتفت بشرح تجربتها الأليمة، وسخرت بلغة بسيطة وبليغة من هؤلاء الذين يتحدثون عن "الجمهورية الجديدة" التي تحكي وسائل الإعلام المحسوبة على السلطة قصتها في اليوم مئة مرة، وانتقدت بحدة كل الذين يتحدثون عن الإنشاءات والطرق والكباري والمدن الجديدة وينسون هؤلاء الذين قُيّدت حريتهم منذ شهور طويلة، تدافع عن حق ابنها ومعه مئات الشباب في الحرية وتتساءل: أليس من الطبيعي أن تكون الحرية والكرامة جزءًا من الجمهورية الجديدة المزعومة؟
كانت كلمات وأسئلة الحاجة على بساطتها، تحمل في مضمونها قضايا كبيرة وكاشفة لطبيعة النظام السياسي في مصر، حاصرتني طوال ذلك اليوم كلمتا الحرية والجمهورية الجديدة وقد توحدتُ مع حكايات السيدة السبعينية تمامًا، فيما صورة المناخ العام الذي نعيشه لا تفارقني وتثير في عقلي المعلومات والصور والأسئلة.
الجمهورية المقدسة
استدعت ذاكرتي كل ما أعرفه عن الحرية والجمهورية، فتاريخيًا ومنذ سقوط النظام الملكي وإعلان الجمهورية عام 1953 أضحت بنود العقد الاجتماعي بين السلطة والشعب في مصر قائمة على منح المواطنين الحد الأدنى من الحقوق الاقتصادية والاجتماعية، في مقابل تقييد الحريات السياسية، وفرض ديكتاتورية محضة تنفرد بالسلطة وتحكم عبر انتخابات شكلية واستفتاءات مزورة، وإبعاد المواطن عن كل ما له علاقة بالسياسة أو الشأن العام، تلك الجمهورية في شكلها القديم كانت مقدسة حتى رفضها المصريون في ثورة 25 يناير عندما أسقطوا كل ما ليس مقدسًا، وطالبوا بجمهورية الحرية والكرامة والعدل الاجتماعي، فكانت الثورة هي المحاولة الأولى لصدام المصريين مع بنود العقد الاجتماعي للجمهورية القديمة، والخطوة الأولى لإعلان تصوراتهم للجمهورية الجديدة التي فيها "السيادة للشعب"، أراد المصريون هذه السيادة وهم يطالبون في الوقت ذاته "بدفن الديكتاتورية والفرعونية السياسية للأبد" بتعبير المفكر وعالم الجغرافيا الشهير جمال حمدان.
اقتربتُ من الوصول لمكان حفل التوقيع الذي كان في إحدى المكتبات الشهيرة في وسط البلد، طوال الطريق ومنذ أن غادرت محطة المترو حتى وصلت إلى مكان الحفل سيطر على عقلي حديث الحاجة ماجدة تمامًا، شعرتُ بالضيق أكثر وأنا أتخيل ما تشعر به وابنها لحظة الحديث من خلف الحاجز الزجاجي، لفت نظري طفل صغير يعبر الشارع بينما أمه تسير إلى جانبه، انتبهت للافتة قديمة معلقة على جدار أحد المنازل مكتوب عليها "الصحافة نبض الجماهير"، تذكرت لحظتها نصيحة أحد ركاب المترو للحاجة ماجدة بأن تحاول الوصول للصحافة ونشر قصة ابنها المحبوس منذ أكثر من عامين بلا اتهامات جادة، وما تتعرض له في سبعينيات عمرها من تعب وإهانة في طوابير التفتيش خارج السجن، ما زلت أتذكر إجابتها وهي تقول في انكسار وسخرية "لا أحد في الصحافة يسمعنا أو ينشر قصتنا، الصحافة ليست لنا".
أوجعتني نبرة السخرية التي ظهرت في حديث المرأة وكانت كاشفة للتناقض الكبير بين التغني بالجمهورية الجديدة وحصار الصحافة وإبعادها عن هموم الناس. سيطرت ديكتاتورية ما بعد عام 2013 على الصحافة بشكل كامل، حتى باتت في أزمة كبيرة طوال السنوات الخمس الفائتة؛ قيود صارمة وقبضة باطشة تحاصرها من كل اتجاه، غابت حرية الصحافة تمامًا فتحولت الصحف، ووسائل الإعلام بشكل عام، إلى نشرات تصدرها الوزارات والهيئات الحكومية، اختفت مساحات الجدل الجاد والتنوع في وجهات النظر، لم تعد الصحافة تمارس دورها الطبيعي في كشف الحقائق وإعلانها للمجتمع، أو التعبير عن اتجاهات الرأي العام وهمومه، أو التنوير والدفاع عن الحرية، ومواجهة الاستبداد، أو كشف الفساد والانحراف.
سيطرت السلطة على وسائل الإعلام بشكل كامل ووفق خطة ممنهجة أدت إلى مشهد شديد البؤس، كشفته أرقام وتقارير المنظمات الدولية، عندما جاءت مصر في عام 2021 في المركز 166 من 180 دولة في مؤشر حرية الصحافة حسب تقرير منظمة مراسلون بلا حدود، هذا المشهد المزري أدى إلى تراجع ثقة المواطنين في الصحافة بعد أن تحولت في أعين الناس إلى نشرات تدافع عن السلطة، وتمجد في خطواتها وسياساتها، وتبشر الناس بأحلام وردية تخاصم الواقع بشكل كامل.
سيف الحبس
وقفت على باب قاعة حفل التوقيع لعدة دقائق قبل الدخول في محاولة لمواجهة إحساسي المتزايد بالتوتر، حديث الحاجة ماجدة عن الحرية والجمهورية الجديدة يحاصرني تمامًا، تذكرت وقت أن كنت عضوًا منتخبًا بمجلس إدارة نقابة الصحفيين عام 2018 ورفضي للقوانين التي أصدرتها السلطة لتنال من الصحافة وحريتها، تلك القوانين التي اعتبرتُ أنها جاءت لتزيد من القيود الكبيرة المفروضة على حرية الصحافة بعدما حملت في نصوصها كلمات وعبارات "مطاطية" تسمح بوقف أو حجب الصحف والمواقع الإلكترونية لفترات محددة أو دائمة، أو تحظر نشر أو بث "أي مادة يتعارض محتواها مع: النظام العام والآداب العامة، أو تحض على التمييز أو العنف أو العنصرية أو الكراهية"، وكلها كلمات لم يضع لها القانون تعريفًا واضحًا لتظل مبهمة ويمكن استخدامها في تقييد الصحافة.
قفزت إلى ذهني تلك النصوص التي تم وضعها للإجهاز على الصحافة بشكل كامل، وتلك الاتهامات التي تعبر عنها كلمات وعبارات من عينة "المواد الإباحية أو التعرض للأديان والمذاهب الدينية أو تكدير السلم العام أو التمييز أو العنف والعنصرية والكراهية أو مقتضيات الأمن القومي والدفاع عن الوطن".
قلت لنفسي بينما كنت أقف على باب القاعة إن الاستبداد نجح في كسب خطوة مهمة على درب بناء جمهوريته الجديدة/ القديمة بحصار حرية الصحافة، وترهيب الصحفيين بسطوة القانون وسيف الحبس، فهكذا بدت البيئة العامة والقانونية التي تعمل فيها الصحافة في مصر: مناخ خانق رصده تقرير لجنة حماية الصحفيين الذي صنف مصر في المرتبة الثالثة في العالم على قائمة الدول التي تحتجز وتحبس الصحفيين في عام 2021، وقدر عدد الصحفيين المحبوسين بـ25 صحفيًا، بعضهم حصل على أحكام قضائية نهائية بالسجن، وبعضهم ما يزال تحت الحبس الاحتياطي، لمدد تتخطى العامين في بعض الأحوال.
دخلتُ إلى القاعة وبدأت أستمع إلى صديقي أثناء حديثه دون تركيز، ألمح وجوهًا أعرفها جيدًا تجلس على منصة الحوار، يبتسمون ويتبادلون التحية مع الحاضرين، بينما تبدو علامات السعادة واضحة على ملامح صديقي المنتشي بالاحتفاء الكبير بكتابه، كانت عناوين الكتب التي تحيط بمكان الندوة جذابة، على غير عادتي مررت بعيني سريعًا عليها دون تدقيق، لفت نظري عنوان كتاب جوليان بيندا الشهير خيانة المثقفين، وتذكرت أجواء قراءتي للكتاب منذ عدة سنوات مضت، خطر ببالي وقتها كيف وجه الكتاب نقدًا شديدًا لكل المثقفين الذين تخلوا عن دورهم في الدفاع عن الحرية والعقل، واستسلموا لإغراءات الحكام وهربوا من قضايا شعوبهم وأوطانهم.
كانت كلمات الحاجة ماجدة ما زالت تتردد في عقلي على وقع حديث صديقي في الندوة وهي تشرح طبيعة السجن المحتجز به ابنها، كانت تقول إنه يجلس في زنزانة ضيقة مع 30 سجينًا جميعهم من السياسيين، وتضيف "كل هؤلاء الشباب كانوا يحلمون أن يسود العدل والحرية والكرامة في وطنهم بعد 25 يناير"، تذكرت اهتمامي منذ سنوات بقراءة العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية وكيف اعتبر أن الحرية والكرامة هما جناحا تلك الحقوق، وتأكيده أنها حقوق مكفولة لكل إنسان، كانت السيدة السبعينية تحكي عن منع ابنها من الخروج من الزنزانة أكثر من نصف ساعة طوال اليوم، وعن البطانية المتهالكة التي ينام عليها بعد أن يفرشها على الأرض، ورفض إدخال أسرّة للنوم، وعن منع ابنها ومن معه من قراءة الصحف أو مشاهدة التليفزيون أو دخول الكتب، كانت تحكي عن تفتيش الزيارة ومنع إدخال بعض أنواع الأطعمة أو أدوات النظافة الشخصية، كانت تسرد كل هذه التفاصيل وتسخر من التبشير بالجمهورية الجديدة.
ذكرني حديثها بتجربتي مع السجن منذ ستة أعوام مضت، حين مررت بنفس التفاصيل وقت أن كنت مقيد الحرية في زنزانتي الضيقة في سجن مزرعة طرة عام 2016، هذا الثمن الذي دفعته من حريتي لعدة أشهر لمجرد تمسكي بحقي في أن أظل صحفيًا مستقلًا لا يخضع إلا لسلطة القانون وسلطان الضمير، زاد تعاطفي مع الحاجة ماجدة وابنها عندما تذكرت حالتي وحالة أسرتي السيئة وقت أن كنت محبوسًا، قفزت إلى ذاكرتي تقارير كنت قرأتها تقدر السجناء السياسيين بـ40 ألفًا على الأقل.
الرغيف بديلًا عن الحرية
كانت المفارقة الكبيرة في كل ما قفز إلى عقلي، بينما كنت أستمع بلا تركيز لحديث صديقي في الندوة، هو الطريق الذي اختارته السلطة لبناء "الجمهورية الجديدة"، حيث قررت فرض القيود على كل صور الحريات العامة بداية من حرية الرأي والتعبير وانتهاء بحرية الصحافة والإعلام، وفي المقابل قررت أن تختصر حقوق الإنسان في خطابها السياسي في الحقوق الاقتصادية والاجتماعية فقط، تمسكًا منها بقواعد الجمهورية القديمة نفسها، وكانت تصريحات الرئيس عبد الفتاح السيسي معبرة عن هذا الاتجاه في أكثر من مناسبة، آخرها ردوده على الصحفيين في منتدى شباب العالم الذي تم تنظيمه في مدينة شرم الشيخ في شهر يناير الماضي، فقال وهو يجيب عن سؤال صحفي حول التضييق على حرية الرأي والتعبير وحجب المواقع الصحفية وحصار المنظمات الحقوقية "إن مجابهة الأمراض والأوبئة والزيادة السكانية هي أمور يجب وضعها في بند من بنود حقوق الإنسان"، وأضاف "النمو السكاني في الدول الغربية متوقف وثابت على مدى 40 عامًا، بما يعني أن بنيتها الصحية ليست بحاجة إلى دعم، لكن دولًا كمصر بها زيادة سنوية بنحو 2.5 مليون نسمة، وكل عام نحتاج إلى تعزيز ليس فقط في البنية الصحية ولكن في البنية التعليمية بما تتضمنه من مدارس وجامعات".
شغل تفكيري وقتها هذا الاتجاه الذي سارت عليه السلطة في مصر منذ سنوات، حديث لا ينقطع عن الحقوق الاقتصادية والاجتماعية في مقابل حصار شامل لكل صور الحقوق المدنية والسياسية، في حين سيطرت هذه اللغة على كل المسؤولين في مصر، فكلما تعرضوا لأسئلة عن الحقوق المدنية والسياسية والحريات العامة أجابوا بالحديث عن الزيادة السكانية والمدن الجديدة و الطرق والكباري، لم يدرك أحد في السلطة أن هذه اللغة القديمة المستهلكة لا يفهمها العالم ولا يتقبلها، لا سيما أنها تجافي المنطق الطبيعي للأمور وتختصر حقوق الإنسان في الإنشاءات والكباري والبنية التحتية، وكأن الإنسان المصري ليس من حقه التمتع بالحرية والكرامة.
بينما كان صديقي يتحدث عن كتابه ويرد على أسئلة الحاضرين كنت شاردًا تمامًا، أشعر أن حديث الحاجة ماجدة أضاف لي إيمانًا جديدًا باستحالة بناء جمهورية جديدة بدون الحرية والكرامة، ترسخ بداخلي من حديث وصدق هذه السيدة البسيطة أنها أصبحت صاحبة نظرية سياسية تضع قواعد الجمهورية الجديدة؛ وتؤكد أنه بمقدار ما يتيحه المناخ العام من حرية الرأي والتعبير والاعتقاد والصحافة والتجمع السلمي، نستطيع الحكم على إمكانية بناء هذه الجمهورية من عدمه بصرف النظر عن البروباجندا الرسمية.
تحت إلحاح حديث سيدة المترو استرجعت كل ما أؤمن به، تصوراتي وقناعاتي والأجواء العامة تحاصرني حصارًا محكمًا، فالمؤكد أن الحريات العامة هي حقوق منحها الدستور للمواطنين، ومع ذلك فإن القبضة الأمنية والاستبدادية فرّغت مضمونها وفرضت عليها قيودًا شديدة بصورة لم تحدث من قبل، وكأن الدستور خلا من وجودها أصلًا.
قفز إلى ذهني تقرير حقوقي قرأته منذ عدة أيام لمؤسسة حرية الفكر والتعبير حول قيام نيابة أمن الدولة العليا بإحالة 67 من النشطاء السياسيين والمدافعين عن حقوق الإنسان إلى المحاكمة أمام محكمة أمن الدولة العليا، وصدرت أحكام قضائية بحبس عدد منهم فعلًا، وزادت دهشتي وقتها بتأكيد المؤسسة أن العدد المذكور لا يمثل إحصاءً دقيقًا بالقضايا التي تمت إحالتها للمحكمة، بل هو العدد الذي استطاعت توثيقه فقط بعد أن رصدت 13 انتهاكًا خلال الربع الأخير من 2021 ضد مستخدمي الإنترنت تنوعت بين القبض عليهم واحتجازهم لأسباب "سياسية أو أخلاقية"، أو بعد تدوينات نشروها على شبكات التواصل الاجتماعي إضافة إلى حصار كبير مفروض على حق التظاهر والتجمع السلمي.
في انتظار الحصاد
انتهيت من حفل توقيع الكتاب وخرجت لأبدأ رحلة العودة إلى المنزل، كان الجو باردًا والغيوم تملأ سماء القاهرة وتنذر بأمطار كثيفة، ربما نحتاج الآن بالفعل إلى المطر ليعيد الدفء إلى الناس: قلت لنفسي.
وصلت إلى بيتي، أغلقت هاتفي ووضعته أمامي كأنني أحاول الهروب من الكلام، استعادت ذاكرتي صورة الزنزانة رقم 1 التي كنت أسكنها وقصة ابن الحاجة ماجدة ومئات آخرين من سجناء الرأي والضمير، أشعلت سيجارة وظل عقلي يسترجع وجه تلك السيدة السبعينية الحزين وهي تحكي مأساتها لركاب المترو، تذكرت حصار الصحافة وحبس النشطاء ومنع التظاهر السلمي، مع توالي الوقائع إلى ذهني وجدتني للمفارقة أبدو في حالة من التفاؤل، اكتشفت أنني ما زلت متمسكًا بإيماني بأن مصر ستنتصر للحرية، وأن الاستبداد ليس قدرًا نهائيًا لبلد صنع ثورة عظيمة في 2011 ؛ مهما كان فإن المؤكد أن هذا شعب جديد، يملك حيوية الشباب الذين يشكلون أكثر من 60% من تعداده.
قلت بينما عقلي مشغول: هذا الشعب الجديد تمرد منذ سنوات على الحكم الأبوي والديكتاتوري، وتغير وعيه العام بعد أن دفع ثمنًا غاليًا من دماء وأرواح أنبل أبنائه، تملكني شعور وظل يهمس بداخلي أن مصر دفعت ثمن الحرية مقدمًا وهي تنتظر أن تجني ثمار ما زرعت، مهما تأخرت لحظة الحصاد، فكل الجمهوريات قديمة إذا غابت الحرية.