في أواخر شهر أغسطس/ آب من عام 2015، توقف إصدار العدد اليومي من جريدة التحرير، إحدى أبرز صُحف ما بعد ثورة 25 يناير التي كانت تحمل اسم ميدانه الأشهر والأكثر رمزية. حينها، تحوّل فريقها من التفاؤل بالتجربة الصحفية إلى الإحباط، وكان من بين هؤلاء، محمود عبد الرازق جمعة، الذي وجد وزملاؤه تلك النافذة الصحفية على بداية طريق قصير للإغلاق، طال فيما بعد حتى موقعها الإلكتروني.
لكن جمعة سرعان ما وجد متنفسًا بعد التحرير، وذلك بنافذة لا تطل مباشرة على مهنة الصحافة وإن كانت وثيقة الصلة بها بإطلالة على أحد أعمدتها الأساسية؛ اللغة العربية، التي لم ينظر إليها كمجرد لسان أو لغة أم، بل تعامل معها بعشق منذ الطفولة؛ ألهمه في وقت الإحباط بإطلاق العنان لمخيلته لخلق مساحة لتعليم قواعدها وتصويب أخطائها.
في 2015، دشّن عبد الرازق عبر فيسبوك صفحة تحمل عنوانًا على قدر كبير من التعبير عمّا ستقدمه من مضمون؛ نحو وصرف. كلمتان طالما شكلتا معضلة لكثيرين، سواء دارسين أو متعاملين بها في مهنهم. فاختار هو الشرح والتبسيط لقواعدها، بمنشورات تمس تفاصيل الحياة اليومية؛ فكان المردود انتشارًا وجماهيريةً تحققت في سنوات معدودة صارت فيها اللغة سببًا للمتعة، حسبما حكى في حواره مع المنصّة، في اليوم العالمي للغة الأم.
عشق الطفولة
"اللغة عندي وسيلة للحياة. أعمل بها وأتسلى، أحزن وأفرح، أجِدّ وأهزل..." هكذا يرى الصحفي الأربعيني محمود عبد الرازق جمعة لغته الأم، العربية، التي جذبته منذ الصبا كطالب يتدبّرها "كنت في المرحلة الإعدادية أفكّر في قواعد النحو والصرف طوال الوقت، وأوجه أسئلة إلى معلِّمِي عمَّا يدور بخَلَدي".
وفي هذا الأمر، يردّ الطالب الفضل إلى مَن أرشده "ساعدَني على هذا أستاذي الكريم هاني وردة، بارك الله في عمره، مدرِّس اللغة العربية في إعدادية قرية سندوب، الذي لم يكن يبخل عليَّ، لا بالإجابة ولا بالبحث ولا بالتوجيه".
ومن قريته سندوب التي تقع بالقرب من مدينة المنصورة حيث المولد والنشأة، حدد الطالب وجهته وعرف مساره "تخرّجت في كلية التربية بجامعة المنصورة، شعبة التعليم الابتدائي، قسم اللغة العربية"، ليشتغل بعدها بمهنة الصحافة حتى حصل على عضوية نقابتها، لكن لم تخلُ رحلته معها من منغصات لم تقتصر على إغلاق التحرير، الجريدة التي يردّ إليها الفضل أيضًا في "تعلّم الكثير من أساسيات وفرعيات العمل الصحفي".
فعن منغصات ما بعد الإغلاق، يقول "انتقلت للعمل في جريدة أخرى. ولم أكن سعيدًا بتجربة العمل فيها. ولكن لم يكن أمامي سواها"، ما جعله يصف حالته خلالها بأنه كان "شديد الإحباط".
نافذة المُتعة
ومن عتمة الظروف المهنية، طرأت على بال جمعة الفكرة. النافذة التي ستمكّنه من التعامل مع اللغة بطريقة تخدم المحيطين وتُمتعه هو شخصيًا، حسبما حكى "دافعي الأساسي كان شخصيًّا، هو التعبير عن محبّتي للغة العربية، ولو لم يهتمّ أحد. كنت أريد مجرَّد متنفَّس".
وهكذا بدأ يجد دربه "طرأت على بالي فكرة إنشاء صفحة أنشر من خلالها ما نشرتُه من قبل في كتابي (الأخطاء اللغوية الشائعة في الأوساط الثقافية) الصادر عام 2008، وإضافات كثيرة وددتُ أن أضيفها".
وكمحب للغة، سارع الصحفي إلى تحويل الفكرة لواقع "بدأت تأسيسها في شهر أكتوبر (تشرين الأول) 2015، ونشرت أول منشوراتها يوم 30 أكتوبر".
ومنذ البداية، كان المنهج في تعامل الصفحة مع اللغة وأخطاء متحدثيها، واضحًا ومحددًا، حسبما شرح "الخطة العامة كانت التبسيط. فلم أكن أعمد إلى مصطلحات صعبة، ولا إلى نصوص مُعقَّدة، ولا إلى شواهد مندثرة. فاللغة العربية، وأي لغة، تتطور وتتغير، شاء مَن شاء وأبى مَن أبى".
حينها، وجد جمعة تشجيعًا من أصدقاء وزملاء يشاركونه الاهتمام والمحبة نفسها للغتهم الأم، ولا ينسى مساندتهم له حتى اليوم "في البداية، وجدتُ مساعدة كبيرة من كثير من الأصدقاء، مثلًا الصديق الشاعر مصطفى الجزار ساعدني بإعداد وتصميم لوجو الصفحة وصورتها الشخصية والغلاف، لأنه أفهَم منِّي في الجرافيك".
وهذا الدعم لم يكن بمساعدات تتعلق بتأسيس الصفحة، بل والترويج لها أيضًا، وفقًا لقوله "الصديق حسام مصطفى إبراهيم ساعدني بترويج الصفحة والدعاية لها على صفحته الرائدة (اكتب صح)، ومثله فعل الصديق الشاعر محمود سلام على صفحته (صحّح لغتك). بالإضافة إلى عدد كبير من الأصدقاء الذين أعجبتهم الفكرة ورحّبوا بها ودعوا إليها، حتى زاد عدد متابعي الصفحة خلال أول يوم على ألف وخمسمئة، وهو أكبر بكثير مما كنت أتصوّر".
تلك الزيادة في عدد متابعي الصفحة، انتظمت منذ وقت التأسيس حتى قارب الآن عددهم على المليون. الأمر الذي فاق ما كان في بال جمعة من أحلام وأهداف "لم أكن أتوقع هذه السرعة في الانتشار ولا هذا القدر من النجاح. كان الهدف تحقيق متوسط مئة إعجاب جديد كل يوم، أي سبعمئة كل أسبوع، فكان العدد يزيد عدة آلاف كل أسبوع، وأحيانًا عدة آلاف كل يوم".
اللغة الحيّة
ربما يعود سر الانتشار لأمرين، أولهما ما تعانيه اللغة العربية حاليًا من "مُشكلات" يراها بعض متحدثيها، وهو ما يردّه جمعة إلى أسباب، قال إن أهمها يتمثل في "ضعف المناهج التعليمية، وعدم استعمال طرق التعليم الحديثة في تدريسها".
هذه ما يراه جمعة من مُشكلات، لكن هناك مشكلة أخرى تعانيها اللغة منذ أعوام، وتتعلق بحكم البعض عليها بالموت. الأمر الذي يرفضه الصحفي تمامًا، بقوله "من المؤسف أن يحكم المرء على أي شيء من منطلق ابتعاده عنه. فلا أحد يقول إن اللغة العربية ميتة إلا إذا كان هو نفسه بعيدًا عنها".
وهذه الرؤية بشأن اللغة وبقائها حيّة ومُتجددة، هي ما يدلل عليها بقوله "النظرة العامة تشير إلى صدور آلاف الكتب كل عام باللغة العربية، وتقول إن ملايين الأشخاص يزورون معرض القاهرة الدولي للكتاب لشراء الكتب العربية، ومثله معارض أخرى للكتاب في الرياض وبغداد، والإسكندرية، وغيرها كثير من المعارض"، مُعلّقًا "ولا يكون هذا مع كُتُبٍ كُتِبَت بلغة ميتة".
اللغة ليست ميتة، هكذا يراها جمعة وغيره من مُحبيها وما بقواعدها من بلاغة. لكن، على الأقل، هناك شيء من ركود ينتابها، وفقًا لآراء، تستند إلى بُعد العربية عن المتطلبات الأساسية للعصر من علوم وتكنولوجيا، مقارنة بلغات أخرى، وذلك رغم كونها لُغة ملايين البشر. هؤلاء الذين يُلقي الصحفي عليهم اللوم في هذا الحال الذي وصلت إليه اليوم.
يقول جمعة "اللغة ابنة أهلها ومِرآتهم، تتطوّر بتطوُّرهم وتتدهور بتدهوُرهم. واللغة العربية محفوظة بحفظ قواعدها التي لم تتغير منذ عُرفَت، فلا الفاعل نُصب ولا المجرور رُفع ولا المفعول به جُرّ. ولكن المشكلة في الألفاظ، والأصل أن اللغة تُنتِج ألفاظها، فيموت القديم المهجور، وينشأ الحديث المطروق، وبين هذا وذاك تدخل كلمات أجنبية عن طريق التعريب ونحوه".
ويتابع "فإذا كان المتكلمون باللغة مُنتِجين للعلم؛ فإنهم يفرضون ألفاظهم العلمية. وإذا كانوا مجرَّد مستهلِكين؛ فإنهم إما يترجمون الكلمات الأجنبية، كما ترجمنا الكمبيوتر بالحاسب الآلي، والتليفون إلى الهاتف. وإما يأخذون الكلمة كما هي بتغيير حروفها إلى ما يناسبها من لغتهم، كما أخذنا التليفزيون والميجا وغيرهما. وإما يعرِّبون الكلمة (كما عُرّب لفظ الإستبرق الفارسي الذي ذُكر في القرآن. باختصار، اللغة غير قاصرة، ولكن المتكلمين بها مقصّرون في مجال العلم".
.. ومعضلات استخدامها
يتحدث صاحب فكرة نحو وصرف عن الترجمة والتعريب كطرق لتعامل أهل اللغة مع العصر الحديث ومتطلباته. وكذلك يُشير أيضًا إلى أمرين آخرين مثيرين للجدل، أولهما الكلمات والعبارات الأجنبية المندسة وسط الأحاديث العربية، وثانيهما يتعلق بالكتابة أكثر من المحادثات، وهو ما يُعرف بـ الفرانكوآراب، ومعناه كتابة الكلمة العربية بحروف إنجليزية واستبدال أعداد ورموز بالأحرف العربية التي لا يوجد لها مقابل في الإنجليزية، كالعين والخاء والحاء وغيرهم.
عن العادة الأولى يقول الصحفي "استعمال اللغات الأجنبية طبيعي. لأن المتعلّم في أي مكان في العالم يبحث عن التعليم الذي يؤهّله ليعمل عملًا كريمًا، يُدِرّ عليه دخلًا ميسورًا ويضمن له مكانًا ومكانةً بارزَين".
أما الـ فرانكوآراب، فهذه ينظر إليها جمعة باعتبارها أمرًا منتهيًا، بقوله "جعلتُ من منطلَقات الصفحة أن من يكتب بطريقة الفرانكوأراب هو في الأصل مضطر إلى هذا، لأن أساس الكتابة بهذه الطريقة أن بعض الأجهزة الإلكترونية لم يكن بها إمكانية الكتابة بالحروف العربية، فما كان من المستخدِمين إلا أن كتبوا منطوق الحروف العربية بالحروف الأجنبية، ومع الوقت شاعت هذه الطريقة فصارت ظاهرة".
واستدرك الصحفي "لكن بعد زمن، انحسرت هذه الطريقة انحسارًا شديدًا، لأن لوحة المفاتيح العربية أصبحت متاحة على جميع الأجهزة، فأصبحت المهمة أسهل، ولا يحتاج إلا إلى توضيح يسير".
هناك أمور يتفق الغالبية على كونها مُشكلات، وهي بخلاف خلط الإنجليزية بالجمل العربية وكتابة الفرانكوآراب، تضم أيضًا "ازدواجية" يرى البعض أن اللغة العربية تعاني منها، التي تتعلق باختلافها بين الفصحى المُستخدمة في التعاملات الرسمية والعامية المُستخدمة في الحياة اليومية؛ ما قد يولد مخاوف من اندثار الفُصحى على مرور الزمن، في ظل اختلاف العامية بين بلد عربي وآخر.
لكن جمعة لا تشغله هذه المخاوف، إذ يقول "الحقيقة أنني لا أرى في الأمر ازودواجية، خصوصًا في مصر"، موضحًا أنه "كان للمصريين لغة يتكلمون بها قبل دخول العرب والعربية إلى مصر، هي اللغة المصرية، ويمكن أن نسمّيها القبطية، هذه اللغة التي تعبّر عن المضارع بالباء (باحب - باشتغل - بالعب...)، وإذا استعملنا المضارع بلا باء دلّ على المستقبَل، مثل (باشرب شاي) و(أشرب شاي) مثلًا، أو بين (بتشرب إيه) و(تشرب إيه؟)".
لهذا، يؤكد جمعة أن الازدواجية "تكون عند وجود تعارُض بين اللغتين، الرسمية والشعبية"، مُضيفًا "لكن ما بينهما هو اختلاف لا تعارُض، فأنا أتكلم بالمصرية وأكتب بالعربية، وأتكلم بالعربية إذا تَطلَّب السياق، وفي كل هذا لا أرى أزمة أو تناقُضًا. فكلتا اللغتين لها قواعدها ومبادئها، ولكن المشترَك بينهما هو كمّ كبير من الألفاظ".
بل ويُشير الصحفي إلى ما يدلل أكثر على التناغم بين العامية والفُصحى، بقوله "حتى أن المعاجم العربية تذكر ألفاظًا مصرية صريحة، مع توضيح أنها مصرية، ككلمة (البطاقة).. فإذا بحثنا في اللغة العربية، لن نجد أي اشتقاق من هذه الكلمة. ولعلّ هذا متكرر في كثير من اللغات.. فإذا تأمّلنا الفرق بين الإنجليزية الشعبية في أمريكا، والإنجليزية الأصلية في بريطانيا، وجدناه كبيرًا. وليس في هذا تعارُض أو تناقُض، إلا إذا استُعملت إحداهما في سياق يستدعي استعمال الأخرى".
تبسيط وسلاسة
العامل الثاني لانتشار الصفحة بخلاف ما يُحيط باللغة من مُشكلات وجدال، كان ما اتبعته من أسلوب في التعامل مع هذه الأمور، من خلال منهج قائم على التبسيط، والنزول بالقواعد من البُرج العاجي الذي طالما حصر البعض اللغة العربية فيه، بكل ما فيها من قواعد بلاغية ونحوية؛ فكانت النتيجة خلطها بلغات أخرى أو اللجوء إلى تلك اللغات كبديل لها.
لهذا، وبعد تفكير، حدد الصحفي قراره ومساره "كان الأصل عندي في الترويج للغة العربية ألاّ أعرضها بصورة المنافس للغات الأخرى. لأن الأمر ليس منافسة بل تكامل. فالله سبحانه وتعالى خلق الناس مختلفين وجعل لهم لغات مختلفة، ولا أظن أنه هدى الإنسان إلى ابتكار اللغات ليقول له في النهاية إن هذه اللغة تكفي وتلك لا قيمة لها".
وضرب جمعة مثالاً على منهجه هذا بقوله "حتى إنني في الصفحة أحيانًا أشرح بعض المنشورت باستخدام لغات غير العربية، ولا أرى بأسًا بهذا إذا كان المعنى أكثر وضوحًا. مثلًا إذا تكلمنا عن كلمة خِيار، فهي تعني Choice وتعني cucumber وتعني Good (جمع خَيِّر). وكل كلمة من هذه لو كتبتها بالعربية لاحتاج إلى شرح أطول نسبيًّا من مجرد الكلمة الإنجليزية، فلا بأس إذًا ما دامت الكلمات الإنجليزية مفهومة لعموم جمهور الصفحة".
بجانب هذه الطريقة التي اعتمدتها الصفحة كحلّ، وهو ما في يدها، يقترح مؤسسها أمورًا أخرى لا يمتلك تنفيذها إلاّ جهات مسؤولة، وتتمثل في "خلق توجُّه عامّ ومشروعات قومية في البلدان العربية للتطوُّر العلمي نفسه، لإنتاج العلم لا الاكتفاء باستهلاكه"، مؤكدًا أنه عند حدوث هذا الأمر "فسينعكس مردوده على المرآة/ اللغة".
مُنغّصات الرحلة
أن تشب عاشقًا للغة، وأن تُخلص في تخطيطك لتبسيط قواعدها ونشرها، فهذا أمر يُعينك على الصبر والصمود أمام كل ما في الطريق من عقبات، لم تتمثل في الصعوبات الخاصة بالشرح أو بإدارة الصفحة، بل وصلت لأمور أخرى تمسّ مشروعك، بل وذاتك أنت شخصيًا.
عن هذه العقبات، يقول جمعة "أصعب ما واجه الصفحة، ويواجهها، الرغبة المُلِحَّة في تصنيف مسؤولها. تَعوَّدت منذ بدايات الصفحة أن أنشر منشورات تعايش الأحداث اليومية، في الرياضة والسياسة والثقافة والفن والاجتماعيات... في مصر وكل البلدان؛ فاتُّهمت مرات بأنني من الإخوان، ومرات بأنني تابع للنظام، وأخرى بأنني أهلاوي أو زمالكاوي، وأخرى بأنني لستُ مسلمًا، وأخرى بأنني أدسُّ السمَّ في العسل لإبعاد الناس عن لغتهم ودينِهم، ثم بالإساءة للذات الإلهية، ثم بالكفر الصريح، وغير ذلك".
وعن التعامل مع هذه الإهانات، يقول "كنت في البداية أردّ وأفصّل الأمور وأجتهد لإثبات أن الصفحة بلا توجُّه، لا سياسي ولا ديني ولا غيرهما. حتى اكتشفت أنه لا طائل من وراء كل هذا. فلا أحد يغيّر طريقة تفكيره ولا توجُّهه الفكري بمناقشة على فيسبوك؛ فآثرت تجاهل المسيئين والاستمرار في أداء رسالتي، ومَن زاد على حده في الإساءة حظرته من الصفحة، سواء في ذلك المسيء لي أو للصفحة أو لرُوَّادها".
ويسترجع الصحفي واقعة إساءة تدخل في نطاق الكوميديا السوداء، قائلاً "ومن المُضحِكات في هذا الأمر، أنني في منشور واحد كنت أصحح فيه تغريدة للاعب الأهلي المعتزل محمد أبو تريكة، قيل لي إنني أنشر تغريدته لأنني مثله من الإخوان، وقيل في نفس الوقت إنني من أتباع النظام لأنني أسيء إلى أبو تريكة الخلوق المهذَّب المتديّن، ولا أدري حتى الآن كيف يُكتشَف كل هذا من تصحيح حرف أو إضافة همزة أو تعديل علامة ترقيم".
التجاوزات لا تقتصر على رمي الصفحة ومسؤولها بالتهم الجادة السياسية أو الخفيفة الكروية فحسب، بل يصل الأمر أحيانًا إلى السباب لمجرد تصحيح الصفحة لمنشور أحد المشاهير، حسبما يذكر مُديرها مُتعجّبًا "وكأن التصحيح إساءة أو تقليل من شأن المخطئ في اللغة"، مشيرًا إلى أن الصفحة "كانت تفقد في يوم واحد أكثر من ألف متابع".
وهذه الخسارة علّق عليها بقوله "لكن لا بأس بهذا، فما قيمة المتابعين بهذه الأخلاق؟ وما قيمة المتابعين الذين يظنون أن الصفحة لا بد أن تعبّر عن أفكارهم، بطريقتهم، في الوقت الذي يريدونه؟".
.. وحصاد السعي
على مدار يُقارب السنوات الست، أخلص جمعة لحلمه، وذلك رُغم انشغاله مهنيًا، فهو المُقيم منذ ما يقارب عامين ونصف العام في مدينة إسطنبول التركية، التي انتقل إليها من مدينة الرياض السعودية، في تنقلات من القاهرة إليهما بهدف "وجود فرصة عمل أفضل"؛ فكان أن عمل محررًا ومدققًا لغويًّا لدى أحد مراكز الدراسات الكبيرة في الرياض، وحاليًّا هو مدقق لغوي في إحدى القنوات التليفزيونية.
ورغم هذا، لم يُهمل الصحفي في حق صفحته، التي أكد أن اهتمامه بها "لا علاقة له بمكان إقامته"، بقوله "فقد تَغيَّر وسيتغيَّر غالبًا. ولكن الأمر خارجٌ منِّي حيثما كنت".
ولهذا؛ كان للعمل الجاد والمُخلص حصاده، ظهر فيما يصلها من ردود فعل، كان بعضها من مشاهير لا ينساهم جمعة "مرةً ردّ علينا الفنان حمزة نمرة؛ فظهر ذلك لمتابعيه، وهم ملايين، فازداد التفاعل مع الصفحة.. ومرة ردّ علينا الشيف أبو جولي ردًّا فكاهيًّا زاد الصفحة في يوم واحد ستة عشر ألف متابع. ومن متابعينا الشاعرة والصحفية فاطمة ناعوت، التي تتفاعل باستمرار مع الصفحة فيكون لتفاعلها مردود طيب على الصفحة والتفاعل معها وانتشارها".
ويتابع "على الجانب الآخر، فإن الغالبية العظمى من متابعي الصفحة يفهمون منهجها، لأنها تنشر اللغة العربية، بطريقة سهلة، مع محاولة إضفاء لمسة من الفكاهة. فننشر المعلومات، وفي الوقت نفسه نصحح منشورات الشخصيات العامة من كل التيارات والاتجاهات".
ويضرب أمثلة على ذلك بقوله "نصحح لصفحة الرئيس المصري والتركي، ونتفاعل مع هزيمة الأهلي والزمالك وانتصاراتهما، ونرثي الراحلين وندعو لهم. وفي كل هذا نربط ما ننشره باللغة العربية، ربطًا مباشرًا وغير مباشر".
وبالفعل، كان لهذا الجُهد حيال اللغة "تأثيرًا واضحًا"، يتذكره جمعة بعدّة وقائع، فيقول "حدث مرتين أن صححنا خطأً في منشور لصفحة الرئيس المصري، وبعدها بدقائق صُوّب الخطأ في المنشور الأصلي. كذلك أسعد حين يشارك الفنان نبيل الحلفاوي تغريدة للصفحة على تويتر، وهو من أكثر الفنانين اهتمامًا باللغة العربية واحتفاءً بها ونشرًا لها. كذلك حين نشرنا نعيًا للأديبة الراحلة رضوى عاشور، وشارك المنشور ابنها الشاعر تميم البرغوثي؛ كان هذا من دواعي الامتنان رغم موقف الحزن العظيم".
السعادة لا تنتاب مؤسس نحو وصرف من تفاعل المشاهير فحسب، بل وأيضًا من متابعيها، وبعضهم كان من كارهي العربية، بحسب الصحفي الذي يقول "أكثر ما يُسعِدني أن يراسلني من يقول إنه كان معقَّدًا من النحو، والصفحة حبّبته إليه.. وبحمد الله حدث هذا مئات المرات. كذلك أصبح يتابع الصفحة كثير من تلاميذ الثانوية والإعدادية، ومعلّمون ومدققون وصحفيون ومحامون وقضاة".
قد يتعجب البعض من دخول بعض المهنيين ضمن متابعي الصفحة. لكن هذا الأمر يُشكّل عامل طمأنينة بالنسبة لجمعة، وهذا لسبب يقول عنه "الأخطاء أخطاء، لا سبيل لجعلها صوابًا، لا انتشارها وشيوعها، ولا تأويلها وإقحامها. والمخطئ مخطئ، وكونه شخصية عامة لا يجعل خطأه مقبولًا. وسبب انتشار الخطأ الشائع هو شهرة المخطئ. والمشكلة أن بعض المعاجم الحديثة يعتمد فكرة الانتشار ليذكر الكلمة، فيظنّ غير المتخصص أنها صحيحة فصيحة".
وهذه المشكلة هي ما يرى الصحفي حلّها يكمن في "المقاومة"، موضحًا قصده "أن يقول مَن له علم بهذا الخطأ إنه خطأ، ويوجّه دائمًا إلى الصواب، فتحدث موجة مضادة من التصويب ترجّح كفة الميزان الصحيحة".
أحلام للمستقبل
يشرح جمعة ويُبسّط ويقاوم التطبيع مع الأخطاء. لكنه في الوقت نفسه لا يعترض على وقوعها، ويعتبر الأمر طبيعيًا وليس مدعاة لخجل، حسبما يؤكد "إننا جميعًا نخطئ، لا سيما في اللغة العربية. والخطأ في اللغة العربية من أهوَن ما يقع فيه الإنسان من خطأ. وتصويبه من أهوَن ما يتكلفه المرء، وليس الخطأ في اللغة ذنبًا، وليست الإشارة إليه إساءة، وليس تصويبه إهانة".
بهذه المرونة في التعامل مع الأخطاء، والذكاء والسلاسة في نشر اللغة وشرح قواعدها، شمل الحصاد أيضًا ردود فعل، كان منها عروضًا لشراكات، حكى عنها الصحفي "عُرض كثير من الشراكات، ولكن لا أحب أن أذكر الجهات، وكنت أرفض الشراكة لأن الهدف كان دائمًا استغلال نجاح الصفحة للدعاية للجهة المشاركة".
رفض جمعة الشراكات التي قد تستغل اسم "نحو وصرف" لما لها من جماهيرية، وهذه الأخيرة هي نفسها ما تُمثّل حافزًا له للتوسع بها لأكثر من الصفحة، حسبما ذكر فيما يتعلق بالآتي، وقال "بالتأكيد فكرت، وما زلت أفكر، وأنشأت قناة على يوتيوب لمثل هذا الهدف، ولكن مشاغل الحياة، وعدم توافر الأدوات المناسبة، وعدم وجود فريق عمل لمثل هذا، كل هذا يحبطني كلما بدأت".
ويختتم حديثه بعبارات متفائلة، قائلاً "أنا مجرد شخص واحد، يعمل في أكثر من وظيفة ليضمن قوت يومه ويرعى أسرته، وتصوُّري عن قناة تمثل الصفحة يستدعي وجود فريق غير كبير وأدوات متطورة. ولكن الهدف قائم، وبإذن الله سيتحقق".