ما زالت سلوى* التي تسكن في حي حدائق القبة مع ابنتها الوحيدة، وتعمل في إحدى الهيئات الحكومية في حي الدقي، قلقة من فكرة الانتقال إلى العاصمة الإدارية رغم شكواها المستمرة من ازدحام الطريق، بسبب عدم رغبتها في قطع تلك المسافة الكبيرة وتغيير المدرسة الخاصة بابنتها وعدم معرفتها بمواعيد العمل الجديدة في العاصمة.
فمع التوجيهات الرئاسية للبدء في الانتقال التجريبي للحي الحكومي بدءًا من ديسمبر/ كانون الأول الماضي الجاري ولمدة ستة أشهر، وعقد أول اجتماع حكومي كامل في العاصمة الجديدة، والإعلان عن استكمال إنشاء الوحدات السكنية الخاصة بالموظفين المنتقلين البالغ عددهم 42 ألفًا، يقترب الانتقال الفعلي لهؤلاء الموظفين المختارين، بعد إجراء اختبارات لتقييم كفاءتهم، تشمل ما يسمى "الجدارة السلوكية" مع التركيز على الوعي بـ"حروب الجيل الرابع" والتوجهات السياسية للموظفين، وهو ما تروي لنا سلوى كواليسه، وانطباعات الموظفين عنه، وعن التعامل مع الانتقال للعاصمة الجديدة.
وتركز هذه الامتحانات، إلى جانب المهارات الوظيفية، على التوجهات السياسية والقناعات الدينية، وفقًا لما ذكرته سلوى في حديثها إلى المنصة، وهو ما يتنافى مع القوانين المصرية والاتفاقيات الدولية التي تحكم علاقات العمل ووقعت عليها مصر.
وينص قانون الخدمة المدنية الذي يحكم عمل موظفي الحكومة في مادته الأولى على أن "الوظائف المدنية حق للمواطنين على أساس الكفاءة والجدارة، وهي تكليف للقائمين بها لخدمة الشعب، وتكفل الدولة حقوقهم وحمايتهم، وقيامهم بأداء واجباتهم في رعاية مصالح الشعب. ويُحظر التمييز بين الموظفين في تطبيق أحكام هذا القانون بسبب الدين أو الجنس أو لأي سبب آخر".
ووقعت مصر على اتفاقية التمييز (في مجال الاستخدام والمهنة) التي تعتبر أن أي استثناء أو تفضيل يتم على أساس الرأي السياسي هو تمييز يشكل انتهاكًا للحقوق المنصوص عليها في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.
متى بدأ التقييم؟
عندما كان المفترض أن تُفتتح العاصمة الإدارية في 30 يونيو/ حزيران 2020، بدأت عملية تقييم الموظفين في صيف 2019 مع وصول البريد الإلكتروني الرسمي والذي يبدأ بـ "بناء على التكليفات الرئاسية لتقييم أداء العاملين بالدولة سيتم إجراء امتحانات للموظفين"، سادت بين الموظفين حالة من الارتباك والتساؤل حول طبيعة تلك الامتحانات وهدفها.
كانت البداية بامتحانات الكمبيوتر (وورد، باوربوينت، إكسل) واللغتين العربية والإنجليزية، التي عُقدت صباح أحد أغسطس/ آب 2019، في معهد اللغات التابع للقوات المسلحة في مدينة نصر، في أجواء جدية داخل قاعات المعهد، حيث يتم التعرف على الموظف من خلال الرقم القومي على جهاز الكمبيوتر ليبدأ الامتحان، وبترتيب خاص لكل موظف يختلف عن زميله، منعًا للغش، وبتوقيت محدد لكل سؤال. وشملت الامتحانات جميع الموظفين بداية من الدرجة الرابعة وصولًا للمديرين والقيادات.
ركز امتحان اللغة العربية على التركيب الصحيح للجملة والنحو والأخطاء الخاصة بالمكاتبات الرسمية، وكذلك جاء امتحان اللغة الإنجليزية مستهدفًا لفهم اللغة وإجادة المراسلات، أما الكمبيوتر بفروعه الثلاث فتضمن كل امتحان عشرة أسئلة عملية ونظرية.
تعامُل الموظفين مع فكرة الامتحان جاء متباينًا "فيه اللي كان مبسوط واللي قلقان وفيه نوع تالت مش فارقة معاه"، تقول سلوى للمنصة، فبالإضافة لاختبار قدرات الموظفين في اللغات والحاسب الآلي، هناك اختبار "الجدارة السلوكية"، الذي تصفه سلوى "ده زي كشف الكدب كده، وقت محدد فيه 11 اختبار، وكل واحد فيه من 10 إلى 24 سؤال، ومطلوب تجاوب عليهم في مدة محددة، ده كان عبارة عن أسئلة بتديك اختيارات كلها ألعن من بعضها". وتذكر سلوى مثالًا من تلك الأسئلة "في سؤال بيقول: زميلك في العمل من ديانة مختلفة، وبيديك اختيارات: تقطع علاقتك به، أو تتمنى رحيله فورًا، أو في نفسك شيء لا تستطيع التعبير عنه".
الامتحان تضمن سؤالًا آخر، بحسب سلوى، عن فتاوى رجال الدين، وهل هي صحيحة أو متناقضة أو محايدة، وسؤالًا ثالثًا عن المشاعر؛ غالبًا ما تشعر بـ: النقص، أو الاضطهاد، أو الخوف. وآخر عن "الموضوعات التي تتحدث فيها مع زملائك في العمل" والاختيارات هي: الرياضة، أو الفن، أو التنمية المجتمعية، أو السياسة.
وتعتبر سلوى أسئلة امتحان الجدارة السلوكية قريبة من السياسة بشكل ما "هي أسئلة ملمسة سياسة، يعني هو عايز يعرف توجهاتك إيه، والناس بتتكلم في إيه، وفيها أولوياتك، يعني في سؤال انت بتفخر بنفسك ولا أهلك ولا بلدك؟ واختار واحد بس من التلاتة".
ومع عدم وضوح الهدف من تلك الامتحانات، تعددت تكهنات الموظفين حول وجود أغراض خفية لها، فهناك من اعتبر أن الهدف هو تقييم الموظفين لنقل من يعتبر "واجهة مشرفة" منهم للعاصمة الجديدة أو كمبرر لنقل البعض دون الآخر، وهناك من رأى أنها طريقة لإجبار الموظفين على الحصول على دورات تدريبية على حساب وزاراتهم حتى تستفيد ميزانية وزارة التخطيط ماديًا، ومنهم من رأى أن المطلوب هو انتقال تلك الإيرادات لوزارة الدفاع عن طريق إقامة الدورات في معهد التكنولوجيا الخاص بالقوات المسلحة، أو ربما تكون رغبة حكومية في اظهار موظفي الحكومة بشكل غير كفء وغير قادر على التعامل مع التكنولوجيا لأسباب سياسية وإظهارهم كعبء على الدولة.
"الجدارات" وحروب الجيل الرابع
الاهتمام بالبرامج التدريبية على وجه الخصوص "الجدارة السلوكية" يتضح من خلال تشديد الحكومة عليها، وكانت رئاسة الوزراء أكدت على وجود تكليفات رئاسية مستمرة بمتابعة هذا الملف.
هذه التدريبات تنفذ بالتعاون مع الأكاديمية الوطنية لمكافحة الفساد، وتشمل البرامج تزويد الموظفين بالموضوعات المتعلقة "برفع الوعي الوطني وباللياقة الوظيفية، ومفاهيم وأبعاد الأمن القومي، وتحديات الأمن القومي المصري، وشرح مفهوم حروب الجيل الرابع، ومقومات نجاح الدولة، ونطاقات الأمن القومي، والتوعية بمؤسسات الدولة المصرية والمشروعات الكبرى التي يتم تنفيذها في المجالات المختلفة، ومفاهيم الحوكمة ومكافحة الفساد، فضلًا عن أساسيات الكتابة الرسمية باللغة العربية والمهارات الأساسية لاستخدام الحاسب الآلي".
وبحسب رئاسة الوزراء تضم الخطة التنفيذية تدريب الموظفين المرشحين على "حزمة برامج الجدارات التي تُبنى على أساس نتائج تقييم الجدارات السلوكية التي قامت بها وزارة التخطيط، وفي هذا الإطار تم الانتهاء من إعداد كارت تدريبي لكل موظف مرشح للانتقال، بحيث يكون المتدرب مستجيبًا للاحتياجات من الجدارات السلوكية التي تم التقييم على أساسها، وعليه سيتم تدريب من يحتاج إلى جدارة معينة وفقًا للتقييم، وتشمل هذه الجدارات السلوكية كلا من: الدافعية للإنجاز، والاتزان الوجداني، وفعالية الاتصال، وكفاءة التعامل مع الواقع، وكفاءة الأداء، والانفتاح على الخبرة، والثقة بالنفس، والعمل الجماعي، واتخاذ القرار، وإدارة الوقت".
انطباعات الموظفين بشأن النقل للعاصمة كان أغلبها سلبيًا، ولكن ليس بسبب ما تضمنته الامتحانات من تفتيش في الضمائر بل بسبب بعد المسافة، كما تقول سلوى "أغلب الناس قلقانين ومش عايزين النقل، المسافة مش هينة نهائي وهيكون نوع من أنواع التطفيش وإذا كان عاجبكم ومن ناحية تانية، الموظفين واخدين على التزويغ وده في العاصمة الجديدة هيقل أو هينعدم، باعتبار إن الأمن مش هايكون من داخل الوزارات هايكون تابع لشركة العاصمة، وكمان الناس هاتفضل مرتبطة بمواعيد الباصات اللي بتتحرك من هناك".
ولكن هناك أيضًا أصحاب الطموح في الانتقال لمكان جديد ومنصب أفضل وأغلبهم من الملتحقين ببرنامج وطني 2030 أو الحاصلين على درجة الماجستير في الادارة المعتمد من الحكومة، فالامتحانات مكوِّن أساسي في الترقي الوظيفي والصعود لمناصب ودرجات أعلى، في الامتحانات ظهر التفاوت الكبير بين موظفي الوزارات المختلفة، فهناك المهندسون والدارسون لبرامج الكمبيوتر وهناك من لا يعرفون عنه سوى القليل أو لا يزالون يعملون ويتعاملون ورقيًا، "موظفات من وزارة الزراعة كانوا بيدخلوا الجنينة اللي فيها الانتظار قبل الامتحان يطلعوا السندوتشات والترامس ويعزموا علينا، وبيقعدوا يقولولنا إحنا أصلًا مش عايزين نروح في حتة ومبنتعاملش بالكمبيوتر وممكن تقولولنا الامتحان جاي في إيه وتغششونا؟".
ولم يقتصر التقييم على النواحي المعرفية، بل بدأت الحملات الصحية تصل للهيئة الحكومية التي تعمل سلوى بها، لتحليل المخدرات وضغط الدم والسكر والوزن والطول، والحديث مع الموظفين عن "المظهر المشرف" لمن يرغب في الانتقال للعاصمة الجديدة.
رب كورونا نافعة
بعد شهور من تلك الامتحانات سيتغير العالم كله وستجتاحه كورونا، وهو ما سيؤدي لتأجيل افتتاح العاصمة ونقل الموظفين من 30 يونيو 2020 إلى 30 يونيو 2022، وهو ما سيمنح فرصة لاتخاذ الحكومة لإجراءات أكثر رشدًا وتنظيمًا بدلًا من حالة التسرع التي كانت سائدة في صيف 2019، فأعلنت الحكومة عن بدل انتقال بحد أدنى 2000 جنيه للموظفين المنقولين للعاصمة، أو خيار الحصول على شقق في مدينة بدر القريبة نسبيًا من العاصمة بأسعار مدعمة، وكذلك الاقتراب من توفير وسيلة مواصلات عامة للعاصمة وهي المونوريل، وعمل استبيان للموظفين عن ما يمكن أن يحتاجوه عند الانتقال للسكن الجديد من نوادٍ ومدارس، وهو ما غير كثيرًا في نظرة سلوى وزملائها لفكرة الانتقال للعاصمة، وأصبحت الغالبية العظمى ترحب بالانتقال "لما عرفوا ان فيه مزايا انتقال بقوا مبسوطين".
كذلك منح التأجيل فرصة لاستكمال التدريب اللازم للموظفين، وإعطاء دورات تدريبية في الإدارة والتخطيط ومدونة السلوك الوظيفي ومكافحة الفساد والحوكمة وإدارة الأزمات، ومتابعة نتائج الامتحانات فمن لم يحصل على 80% في نتيجة امتحان الكمبيوتر أو اللغات حصل على تدريب بالكامل فيما رسب فيه، و كانت النتيجة تصل للموظفين عن طريق البريد الإلكتروني مباشرة من الوزارة.
كان الراسبون من مختلف الفئات، بحسب سلوى، فمنهم مهندسون وإداريون وأصحاب درجات علمية متميزة، وهو ما أدى ببعضهم لإخفاء خبر الرسوب في بعض المواد خجلًا من زملائهم، أما سلوى فلم تنجح في "الجدارة السلوكية"، وحصلت على ورشة عمل لمدة يوم واحد ذات شقين أكاديمي و تطبيق عملي لتجتاز المادة وتستمتع بوجبة الغذاء والمشروبات المخصصة للمتدربين.
ولكن لا يزال هناك بعض الغموض في توفير وسائل المواصلات لأربعين ألف موظف من المفترض أن ينتقلوا كدفعة أولى قبل نهاية يونيو المقبل، وفي مدى جاهزية أماكن عملهم لاستقبالهم، وفي تحمل الموظفين للانتقال يوميًا لإرهاق التحرك لمسافة بعيدة ومدى ملاءمة ذلك لمواعيد مدارس الأولاد وعمل الأزواج وفي مصير من لا يرغبون أو لا يقدرون على الانتقال، بين توزيعهم على إدارات أخرى، أو عمل من يرتبطون بالإدارات الخدمية من خلال النظام الرقمي، وهي الأسئلة التي ستظهر إجاباتها تباعًا، بداية من منتصف العام الجاري لتوضح مدى نجاح المرحلة الأولى من عملية الانتقال الحكومي للعاصمة الإدارية الجديدة.
* اسم مستعار بناء على طلب المصدر