"هتعمل إيه في سد النهضة؟" سؤال ارتفع به صوت نائب برلماني وحيد، بينما كان الرئيس عبدالفتاح السيسي يلقي كلمته أمام البرلمان في مطلع الأسبوع الجاري. نبه النائب لتلك القضية الملحة التي لم يرد ذكرها في خطاب الرئيس الذي ألقاه أمام البرلمان.
تجاهل الرئيس سؤال العضو بينما بادر زملاؤه أعضاء البرلمان إلى إسكاته، ومضى الرئيس في كلمته. وبقى موقف مصر ونيتها في التعامل مع أثر السد على حصصها المائية غير واضحين. ويأتي هذا الموقف بعد يومين اثنين من بدء الاجتماع الثلاثي لمناقشة العروض الفنية المقدمة لدراسة أثر سد النهضة على نصيب مصر والسودان في مياه النهر، وذلك رغم انتظام العمل في السد وفق الجدول الزمني، مما يشي باكتماله في الموعد المقرر بحلول العام المقبل.
"من الصعب عودة العجلة إلى الوراء بعد أن بلغت عمليات بناء السد نحو 50%"، هكذا وصف الدكتور حامد علي، أستاذ مشارك ورئيس قسم السياسات والإدارة العامة بالجامعة الأمريكية بالقاهرة، وضع مصر التفاوضي الراهن مع أثيوبيا حول بناء سد النهضة.
أوضح علي في المائدة المستديرة التي نظمتها الجامعة الأمريكية بعنوان: سد النهضة الأثيوبي..التداعيات ومستقبل المياه في دول حوض النيل: أن مصر تجاوزت التفاوض على بناء السد والخزان الواقع خلفه، فضلا عن التفاوض حول سعته التخزينية، إلى التفاوض على المدة الزمنية لملء خزان السد البالغة سعته 79 مليار مكعب، بحيث تكون ممتدة على فترة تتراوح ما بين خمس إلى سبع سنوات، بحيث تكون فترة ملء الخزان "مريحة للنيل وغير مؤثرة علي مصر".
فأثيوبيا التي أوشكت على تحويل مشروعها القومي الذي بدأت أعمال بنائه في مايو 2013، إلى حقيقة بحلول عام 2017، نفت ما نشرته وسائل الإعلام المصرية في ديسمبر الماضي، عن طلب مصر إيقاف بناء السد لحين اكتمال المفاوضات.
بناء السد.. تاريخ من "التعالي" المصري
بحسب بيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء؛ فإن نصيب الفرد من المياه، في تناقص مستمر، رغم أن مصر تستحوذ بالفعل على 66% من مياه النيل. هذا الحيز من المياه مهدد بالتراجع بعد بناء السد الذي سيحتجز خزانهما يعادل مياه النيل الأزرق بالكامل ( أهم روافد النيل). مما يجعل نصيب الفرد الذي وصل لأدنى مستوياته عام 2014 بمقدار 103.4 متر مكعب سنويًا (عشر حد الفقر المائي العالمي البالغ 1000 متر مكعب)؛ مهدد بالمزيد من التناقص ليعاني المواطنون المصريون العطش بشكل أكبر خلال السنوات المقبلة، حتى في حالة ثبات نصيب مصر البالغ ثلثي مياه النهر، وفقًا لاتفاقية تقسيم المياه الموقعة عام 1959.
عند مقارنة الوضع الدبلوماسي الحالي بين البلدين بالسنوات السابقة، يري رئيس قسم السياسات العامة بالجامعة الأمريكية أن البلدين اتخذتا خطوات "متقدمة" خلال العامين الماضيين، عملت على بناء الثقة بينهما، مشيرا إلى أن وزير الخارجية المصري السابق نبيل فهمي وضع في أولويته الاهتمام بالدول الإفريقية، وتمت أكثر الزيارات إلى أديس أبابا في عهد الرئيس السابق محمد مرسي، والحالي عبد الفتاح السيسي.
وانتقد الدكتور حامد علي تعامل رؤساء مصر السابقين مع تطلعات أثيوبيا في بناء السد، قائلا "مصر كانت تتعامل بروح استعلائية مع الدول الإفريقية".
في اجتماع دعت له رئاسة الجمهورية لمناقشة آثار وتداعيات سد النهضة وكيفية التعامل معه، اقترح أحد الحضور استخدام أدوات الأجهزة الاستخباراتية في تأليب الرأي العام في إثيوبيا ضد السلطة الحاكمة لخلق قلاقل تعوق دون استكمال سد النهضة، كما اقترح المتحدث نفسه، د. أيمن نور أن تقوم مصر بقصف موقع سد النهضة في إثيوبيا بالطائرات الحربية.
لم يدرك المتحدثون أن الاجتماع مذاع على الهواء مباشرة سوى بعد أن نبههم رئيس الجمهورية الأسبق محمد مرسي لذلك، ولكن بعد فوات الأوان. وجدت تلك الواقعة طريقها إلى إثيوبيا التي كانت قد أتمت بناء حوالي 23% من هيكل السد قبل عقد هذا الاجتماع بشهرين، واتمت 40% من السد في أكتوبر 2014.
تسببت تلك التصريحات في إفساد العلاقات بشكل أكبر بين البلدين ونجحت في كسب انحياز المزيد من دول القارة لصالح إثيوبيا بسبب ما وصفته صحيفة الإيكونوميست "بالتعالي المصري غير المبرر على جيرانها الأفارقة". وانضمت المزيد من الدول لاتفاقية عنتيبي، التي تقلص من حصة مصر من مياه النيل لصالح باقي دول الحوض، التي ستستفيد من الكهرباء المتولدة عن السد وتسد احتياجات سكانها من المياه بعد الاتفاقية الجديدة.
لم يكن هذا الموقف جديدًا على الدولة المصرية في تعاملها مع قضية سد النهضة، فمنذ أعلنت إثيوبيا عن اعتزامها بناء السد، ووجهت بتجاهل من الدولة المصرية، ثم تهديدات باستخدام حق الفيتو الممنوح لمصر بموجب اتفاقية النهر الموقعة عام 1929 لوقف بناء السد نهائيًا. وعقب ثورة 25 يناير أرسلت مصر "وفدًا شعبيًا" حمل مطالب الحكومة المصرية بوقف العمل في السد كشرط أساسي للتفاوض حول بنائه، وهو الشرط الذي رفضته إثيوبيا، واستمرت في مضيها نحو بناء السد.
عقب تظاهرات الثلاثين من يونيو التي قادت لإنهاء حكم الرئيس الأسبق محمد مرسي بعد بيان قرأه الرئيس الحالي عبدالفتاح السيسي عندما كان وزيرًا للدفاع؛ كانت عملية بناء السد قد شارفت على الاقتراب من 40%، ولم تعد مطالبة مصر بوقف بناء السد مجدية؛ ونظرًا لظروف المرحلة الانتقالية لم تتخذ مصر تحركات ملموسة نحو تحسين موقفها من التغيرات الجديدة التي ستطرأ على النهر؛ إلا بعد انتخاب عبدالفتاح السيسي رسميًا لرئاسة الجمهورية.
في مارس 2015، أدلى الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي بخطاب أمام البرلمان الأثيوبي بعد يوم واحد من توقيع اتفاقية اعلان المبادئ بين القاهرة والخرطوم وأثيوبيا، والتي تنازلت فيها مصر ، دون تصديق برلماني، عن حق الفيتو الذي كان مكفولاً لها بموجب اتفاقية 1929، والذي كان يمنحها الحق في الاعتراض على أية مشروعات تقام على النهر، بعد ان صار المشروع أمرًا واقعا؛ وذلك مقابل تعهد خطي من إثيوبيا بعدم المساس بحصة مصر من المياه، وهو التعهد الذي لا توجد معلومات عن موافقة إثيوبيا عليه عقب الاجتماع.
في 29 ديسمبر 2015، وقع رؤساء مصر والسودان وإثيوبيا "وثيقة الخرطوم"، التي نصت على احترام إثيوبيا لما جاء في وثيقة إعلان المبادئ، التي نشرها موقع الأهرام ويكلي باللغة الإنجليزية، وتنص على احترام إثيوبيا لنص المادة الخامسة في اتفاقية إعلان المبادئ؛ والتي يمنح بموجبها الحق لمصر والسودان في مراجها الخطة الإثيوبيةالسنوية للتعامل مع السد واشتراك الدول الثلاثة في وضع الخطط للتعامل مع المياه بعد بناء السد خلال 15 شهرًا من تسلم الدراسات الفنية.
نقاط مسكوت عنها في التفاوض
في الوقت الذي تقف فيه المفاوضات اليوم بين دولتي المصب: مصر والسودان، ودولة المنبع إثيوبيا، عند إبداء ملاحظاتهم بناءً على دراسة العرض الفني المشترك الذي قدمه مكتبان استشاريان فرنسيان لإجراء دراسات حول تأثير بناء السد، نبهت االدكتورة شيرين البرادعي، أستاذ مساعد بقسم البناء والهندسة المعمارية بالجامعة الأمريكية بالقاهرة إلى أهمية دارسة الآثار المناخية والجيولوجية للسد، قائلة: "رغم أن دراسة التأثير المناخي للسد، من أهم النقاط المطروحة في المفاوضات، إلا إنه لم يتم التوصل لإجابة لها بعد"، داعية مصر وأطراف التفاوض الأخرى أن تولى اهتمامها إلى هذا الجانب.
ولفتت شيرين إلى ما وصفته بالـ"تعتيم" على الناحية الجيولوجية للموقع، فيما يتعلق بمخاطر انهيار السد، أو تعرض التربة إلى نشاط زلزالي أُثناء فترة ملء البحيرة خلف السد.
وضع مصر المائي
تعد مصر من أكثر دول العالم إهدارًا للمياه النظيفة، وتوجد دراسات عديدة حول فرص مصر الضائعة في إنقاذ نفسها من "الشح المائي"، الناجم عن سوء توزيع المياه وفشل الدولة في الترويج لطرق جديدة في الري الزراعي؛ المسؤول وحده عن إهدار 3 مليار متر مكعب سنويًا من المياه. وذلك رغم أن 6% فقط من الأراضي المصرية صالحة للزراعة.
هذه العوامل وضعت مصر في قائمة الدول العشر المهددة بالشح المائي والعطش عام 2025. خاصة مع استمرار الدولة في التساهل مع المصانع التي تضح صرفها الصناعي من المعادن الثقيلة شديدة السمية في مياه النيل، بشكل يهدد بجعل مياهه غير صالحة للاستخدام خلال سنوات، ويتزايد ذلك الاحتمال مع تناقص حصة مصر من المياه وتناقص معدل تجدد مياه النيل بعد بناء السدود على المصب، ومن بينها سد النهضة الإثيوبي.
مفاوضات "الحد من الخسائر"
في الوقت الذي تُعَوِّل إثيوبيا على أهمية السد في توفير الطاقة الكهرومائية للبلاد، وهو المجال الذي تتقدم فيه مصر على نظرائها الأفارقة، كما قال الدكتور حامد علي رئيس قسم السياسات العامة بالجامعة الأمريكية في الندوة السابق الإشارة إليها؛ فإن مصر قلقة على حصتها الحالية 55 مليار متر مكعب والتي تستهلك الأراضى الزراعية منهم 85%. فحسب الدكتور سويلم، فمصر هي الدولة الإفريقية الوحيدة التي تعيد استخدام الصرف الزراعي لأن حصة مياه النيل لاتكفى احتياجاتها، لتصبح بعد إعادة التدوير 75 مليار متر مكعب.
وبناء عليه، وصفت الدكتورة جاسمين موسي، أستاذ مساعد للقانون الدولي في الجامعة الأمريكية، المفاوضات الجارية بأنها: "محاولة منع الإضرار لأكبر حد ممكن بالمصالح المصرية". وتوقعت انخفاض في حصة مصر من مياه النيل بواقع 12% إلى 25%، إذ جرى ملء الخزان في فترة ما بين خمس إلى سبع سنوات. مضيفة أن هناك أخطار على المدى البعيد تتمثل في: انخفاض مستوى المياه، وزيادة ملوحتها، بما يؤثر سلبا على جودة الأرض الزراعية، و انحفاض قدرة مصر علي توليد الكهرباء من السد العالي.
وتري شيرين البرادعي، أستاذ مساعد بقسم البناء والهندسة المعمارية بالجامعة الأمريكية: أن المفاوض المصري انتبه إلى أهمية طريقة إدارة السد في التقليل من الخسائر. مشيدة بالاتفاقيات التي تجريها مصر للتفاوض حول عدم إغلاق فتحات السد الست في أوقات ري الأراضي الزراعية المصرية.
ما موقف مصر لو فشلت المفاوضات؟
تأخرت مصر أكثر من عشر سنوات لوضع إطار سلمي لحل النزاع من إثيوبيا؛ التي رعت توقيع عدة دول إفريقية لاتفاقية إطارية جديدة لدول حوض النيل، طرحتها إثيوبيا عام 2004 ردًا على تلويح مصر باستخدام الفيتو ضد بناء السد؛ ورفضت مصر والسودان التوقيع عليها رغم تزايد عدد دول حوض النيل المنضمة لها وصولاً لعام 2010.
ولتدارك هذا التأخير الذي أضاع على مصر فرصة التفاوض المبكر على وضع آمن مائيًا لمواصفات السد؛ اقترح الخبراء أن تستعد مصر لاحتمال فشل المفاوضات بإعداد ملف ب"البدائل القانونية الدولية". في الوقت نفسه، أكدوا على أن استعداد مصر لهذا المسلك لا يعبر عن أزمة؛ بقدر ما يمثل تأكيد علي حقوقها بطريقة سلمية وعادلة ومنصفة للجميع.
وعن الاتفاقيات الدولية التي تدعم موقف مصر في هذا الملف، قالت الدكتورة جاسمين موسي إن مصر لديها حجج قوية في إطار تطبيق الاتفاقيات الدولية التاريخية التي وقعت عليها البلدين، نافية ما يتردد حول أن إعلان المبادئ يحل محل الاتفاقيات السابقة. فأوضحت أنه اتفاق جديد برمته، ويتعامل مع موضوع محدد للغاية "قواعد الملء والتشغيل لسد النهضة، ويلحق به اتفاقيات تكميلية".
ومع استبعاد الخبراء الخيار العسكري نهائيا، أشار إلى أنه لا يمكن إجبار أثيوبيا على الدخول في سلك التقاضي، وإذا ما رفضت ذلك يبقى الحل الوحيد أمام مصر هو اللجوء إلى مجلس الأمن، لإجبارها على الالتزام بالقانون الدولي.