هذه واحدة من المرات القليلة، أو النادرة ربما، التي ينتصر فيها أديب/ فنان لحرية الإبداع داخل قبة البرلمان، فالمؤسسة التشريعية التي اعتادت، في نسخها القديمة والحديثة، تبني دعوات مصادرة الإبداع في صوره المتعددة، رفضت، أمس، لأول مرة في الفصل التشريعي الحالي، مشروع قانون حكومي، بمنح النقابات الفنية سلطة الضبطية القضائية.
اللافت في الأمر أن الذي رفض مشروع القانون المقترح، منذ عرضه للنقاش على لجنة الثقافة بالمجلس، كانت نائبة واحدة هي الأديبة ضحى عاصي، من تمسكت بموقفها حتى النهاية في مواجهة اللجنة التي أقرت التعديلات متأثرة بما استمعت إليه من نقيب المهن الموسيقية عن ضرورة ما سماه "مواجهة الإسفاف".
وأنهى رفض المجلس التعديلات المقدمة من الحكومة على قانون تعديل بعض أحكام القانون رقم 35 لسنة 1978 فى شأن إنشاء نقابات واتحاد نقابات المهن التمثيلية والسينمائية والموسيقية، الذي تنص المادة 70 منه على "يصدر وزير العدل بالاتفاق مع النقيب المختص قراراً بتحديد من لهم صفة الضبطية القضائية في تنفيذ أحكام هذا القانون".
غير أن مشروع القانون كان يتضمن تعديلات أخرى تستهدف زيادة موارد النقابات الفنية، لكنها رفضت بالتبعية، وسط صمت الحكومة وعدم دفاع ممثليها عن المشروع كعادتهم لمواجهة اعتراضات النواب على مشروعات القوانين، ما يوحي باتفاق في الكواليس بين الحكومة والأغلبية التي لم يتحدث ممثلها عن رفض مشروع القانون، أو على أقل تقدير ترك الأمر لتوجهات القاعة.
احذروا.. حرية الإبداع
كانت علامات الرفض بادية منذ افتتاح الجلسة، التي بدأها رئيس مجلس النواب حنفي جبالي، بكلمة قصيرة، اعتبرها بعض النواب تحذيرًا مستتر من مشروع القانون، إذ قال إن مشروع القانون "يتعلق بحرية التعبير والإبداع،" مضيفًا "هناك مسائل دستورية وقانونية واجبة الانتباه، أرجو الانتباه بدقة لمشروع القانون".
أما موقف الأغلبية فلم يكن واضحًا، فلم يعلن رئيس كتلة الأغلبية (مستقبل وطن) أشرف رشاد، أو نائبه عاطف ناصر، موقفًا من مشروع القانون، فيما تحدث نواب ينتمون للكتلة البرلمانية للحزب مؤكدين رفض مشروع القانون، ولكن في لحظة التصويت رفضت الأغلبية في القاعة. ويرجح نائب تحدث إلى المنصة طالبًا عدم ذكر اسمه، أن القرار كان متروكًا للنواب، فيما اعتبر آخر أن نواب الحزب تخوفوا من عدم دستورية القانون، حسب تصريحات أدلى بها إلى المنصة.
فيما قالت النائبة نشوى الشريف، عضو تنسيقية شباب الأحزاب والسياسيين ، إن "العمل النقابى لايصلح معه الضبطية القضائية، وفي حال منحها للنقابات الفنية سيفتح المجلس الباب أمام نقابات أخرى للمطالبة بالحصول على الضبطية القضائية".
فيما قال النائب أحمد الشرقاوى، أن تعديلات قانون نقابات المهن التمثيلية والسينمائية والموسيقية، تصطدم بمواد الدستور التى تم تفسيرها بشكل خاطئ من اللجنة البرلمانية التي أعدت تقرير مشروع القانون، وتساءل "كيف ستحاكمون مطربي المهرجانات؟"، مضيفًا "الطعن فى الأعراض أو المساس بالأخلاق أو التنمر هو الشيء الوحيد الذى يعاقب عليه القانون".
كما اعترض النائب مصطفى سالم، من حزب مستقبل وطن، على منح الضبطية القضائية للنقابات، وتساءل "لما كل النقابات هتاخد الضبطية القضائية مين اللي هيتحبس؟ هل سيقضي هذا القانون على الفن الهابط؟".
وأمام اعتراضات النواب، حاولت النائبة درية شرف الدين، رئيسة لجنة الإعلام والثقافة والآثار، قبيل التصويت على مشروع القانون، إقناعهم بضرورة منح الضبطية القضائية لمواجهة الإسفاف والفن الهابط، متحدثة عن تراجع المستوى الفني، وقالت "لابد من وقفة خاصة أن جهاز الرقابة على المصنفات لدينا شبه معطل، على مستوى الجمهورية"، مضيفة "الموضوع عندنا في مصر سداح مداح المختصين غير مؤهلين للحكم على الأعمال الفنية، لذلك فكرنا فى منح تلك الرقابة لأعضاء النقابات الفنية بصفتهم مؤهلين للحكم وتقييم تلك الأعمال".
لكن جاء التصويت النهائي في القاعة رافضًا لمشروع القانون، مخيبًا آمال نقيب الموسيقيين هاني شاكر، والنائبة المعينة، درية شرف الدين التي ساندته في اللجنة، ورفض النواب دعوة على استحياء من رئيس المجلس بالموافقة من حيث المبدأ، مع إجراء تعديلات في مناقشات المواد.
هاني شاكر يدافع عن "سلاحه"
في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي أقرت لجنة الثقافة والإعلام والآثار بمجلس النواب، التعديلات المقترحة، عدا النائبة عن حزب التجمع ضحى عاصي، لكن اللجنة اقتنعت بما ساقه نقيب الموسيقيين هاني شاكر، الذي شارك في الاجتماع، من ضرورة حصوله على تلك الضبطية لتمكينه من مواجهة أغاني ومطربي المهرجانات الذي رفض سابقًا منحهم تصاريحًا للغناء.
وقال شاكر، خلال مداخلته، إن الضبطية القضائية "سلاح في مواجهة إسفاف المهرجانات"، واعتبر أن عدم النص عليها يمنع النقابات من تنظيم العمل على الساحة الفنية والثقافية، معتبرًا أن قراراته برفض منح المطربين تصريح الغناء في الحفلات لا تكفي وحدها لمواجهة ما يعتبره إسفافًا.
سجلت مضبطة اجتماع اللجنة شكوى نقيب الموسيقيين من عدم وجود أدوات تمكنه من التصدي للإسفاف الفني في الحفلات الغنائية أو داخل الفنادق أو القرى السياحية، وقال إن "موظفي النقابة يتم منعهم من مزاولة أعمالهم في بعض المرافق والقرى السياحية، لا تستطيع النقابة سوى تحرير محضر، والمحاضر تعطل".
لكن طموح شاكر تخطى السيطرة على الحفلات التي يمكن للنقابة تحرير محاضر بشأنها، إلى السيطرة على الفضاء الإلكتروني عبر يوتيوب، قائلًا "عندما يكون فيديو على يوتيوب، لأغاني فيها أشياء سيئة أو مخلة وبعضها زبالة، ماذا نفعل كنقابة؟ إحنا وصلنا إلى مرحلة صعبة".
كلمات شاكر عن الإسفاف والمهرجانات، أقنعت أعضاء لجنة الثقافة والإعلام، بضرورة منح النقابات الفنية عمومًا الضبطية القضائية، لا نقابة الموسيقيين فقط، بل أوضحت النائبة هند رشاد، أمين سر اللجنة، في تصريحات للمنصة أنها تشمل أيضًا سلطة نقابة المهن التمثيلية لتتمكن من السيطرة على ورش التمثيل غير المرخصة.
الأدب ينتصر
كان صوت النائبة الروائية ضحى عاصي، هو صوت الاعتراض الوحيد داخل اللجنة، لكنها لم تنطلق فقط في اعتراضها، من أن عدم دستورية التعديلات سيؤدي للطعن عليها، وإنما كانت ترى أنه من غير الممكن أن يحارب الفن بـ"الضبطية القضائية والسجن".
وتقول عاصي، التي تحتفل بانتصارها بعد إقرار رفض التعديلات، للمنصة "بقى لي 3 شهور بقول مش ممكن قانون زي ده يعدي"، مضيفة "خطورة هذا النوع من النصوص أنه يتغول على حربة الإبداع والحرية النقابية، القانون يضرب بندين في الدستور المادة 67 التي تنص على ألا تحرك أي دعاوى قضائية ضد المبدعين أو المفكرين إلا من خلال النيابة العامة، والمادة 77 التي تضمن استقلال النقابات".
وتشرح عاصي أنه "بحكم القانون ممنوع بموجب قانون الإجراءات الجنائية منح الضبطية القضائية إلا لموظف عام، وهو في هذه الحالة لا تنطبق على النقابة الشروط، ولو أصبح تابع للنائب العام تتأثر العملية الانتخابية في النقابات".
وتتسائل عاصي "كيف نعطي مجموعة من الناس سلطة رقابة على الذوق العام؟"، واعتبرت أن ربط الضبطية القضائية بمحاربة الإسفاف توجه خاطئ، مشيرة إلى ضرورة رفع مستوى التعليم والاهتمام بحصص الموسيقى وتفعيل المسرح المدرسي، "الفن لا يحارب بالضبطية القضائية والسجن".