الروائية والكاتبة ألمودينا جراندز. الصورة: الأكاديمية الملكية الإسبانية- برخصة المشاع الإبداعي، فليكر

ألمودينا جراندز: بين ذاكرة المتعة والهزيمة

منشور الثلاثاء 7 ديسمبر 2021

"بالكره قضيتِ حياتك.. وبالكره انتهت" بهذه الجملة المختصرة ودع حزب اليمين المتطرف الإسباني، بوكس vox، ذو الميول الفاشية، على شبكة تويتر، الكاتبة والروائية الإسبانية الأشهر والأكثر رواجًا ألمودينا جراندز بعد ساعات قليلة من وفاتها.

كانت ألمودينا قد أعلنت قبل أسابيع أنها مصابة بمرض سرطان الثدي منذ أكثر من عام. تلقف الجمهور الإسباني المحب لها ولكتاباتها الخبر بحزن، لكن بتفاؤل بأنها ستتجاوز المرض. ربما كرر بعض هؤلاء المحبين العبارات التي لا تصدقها أو تستخدمها ألمودينا عن أن الإرادة القوية والروح المقاتلة قادرتان على هزيمة السرطان، علي أمل أن تتجاوز المرض، وتكمل السداسية الروائية التي بدأتها قبل أعوام عن الذاكرة الإسبانية المعاصرة، ذاكرة الشفاء من الحرب الأهلية التي كانت تراها غير قابلة على الانتهاء، بصدور الرواية السادسة شبه المكتملة. لكنها رحلت صباح 27 نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي.

التعبير علانية عن الكره في وداع شخص توفي للتو، بالطريقة التي ودّع بها اليمين المتطرف الكاتبة والروائية ألمودينا جراندز، من ردود الأفعال النادرة في تاريخ الحياة السياسية الإسبانية خلال الخمسة وأربعين عاما الأخيرة، بعد شرعنة الحياة السياسية بموت الديكتاتور الجنرال فرانكو وبداية التحول إلى نظام ديموقراطي، أو ما يسمونه بالنظام الملكي الدستوري البرلماني.

ربما تكون المرة الأولى التي يقف فيها حكام مدريد، المنتمين لثاني الأحزاب حجمًا في إسبانيا، حزب اليمين التقليدي، الحزب الشعبي، الذي تبادل حكم المملكة الإسبانية مع الحزب الاشتراكي خلال الأعوام الثلاثين الماضية، موقف اللامبالاة تجاه وفاة ما يمكن اعتبارها الكاتبة المدريدية الأكثر شهرة وأهمية. الكاتبة التي كانت حريصة على أن تقع أحداث رواياتها في مدريد، وكانت تفخر في كل أحاديثها الغزيرة بأنها مدريدية. فلم يصدر عن عمدة مدينة مدريد، أو رئيسة المحافظة، المنتميان لهذا الحزب، أي رد فعل تجاه وفاتها، بينما كان يودعها، في بيتها، أو في صالة الوداع المؤقتة، أو في المقبرة، أو على وسائل التواصل الاجتماعي أهم النخب السياسية والثقافية والفنية لهذا البلد. وأتي رد الفعل الوحيد بعد أيام قليلة برفض الأغلبية اليمينية لمجلس مدينة مدريد اقتراحًا قدمته أحزاب اليسار بتسمية الكاتبة الراحلة ابنة شرفية للمدينة.

لكن المفارقة، التي لا نعرف إن كانت موجعة لألمودينا أثناء حياتها، ولزوجها الشاعر والأكاديمي ورئيس مؤسسة ثيربانتيس المعنية بنشر الثقافة الإسبانية في العالم، لويس جارثيا مونتيرو، هي أن ابنتهما تنتمي للمعسكر المضاد لهما تمامًا. فهما انتميا دائمًا لليسار، وكان لويس مونتيرو مرشح الحزب الشيوعي واتحاد اليسار لرئاسة بلدية مدريد عام 2015. لكن الابنة تنتمي لمن هم أكثر فاشية ممن وصفوا أمها بالكارهة، فهي عضوة في الكتائب الإسبانية الفاشية، التي تأسست عام 1933، وارتكبت الكثير من عمليات القتل وإثارة الفوضى تمهيدًا للحرب الأهلية الإسبانية، وكتبت أمها كثيرًا عن تاريخها الملوث.

تعبير الكتائب، ودون أن نبتعد كثيرًا عن ألمودينا جراندز، سيلفت انتباه بعض القرّاء العرب بسبب التشابه في الاسم مع حزب لبناني. نعم. ليست صدفة. إذ تأسست لا فالانخي أو الكتائب الإسبانية بإلهام من الكتائب الفاشية الإيطالية، وألهمت بدورها البعض في بلداننا. ففي عام 1936 شارك اللبناني بيار الجميل في أولمبياد برلين، وأعجب بنظام وانضباط الكتائب الفاشية الإسبانية، فعاد إلى لبنان لتأسيس الكتائب اللبنانية.

استعادة ذاكرة الجسد والبلد

"عليكِ دراسة ما هو ملائم للفتيات"، هذا هو التعبير الذي استخدمته والدة ألمودينا جراندز في فترة مراهقتها كي تحول مسارها ورغبتها في أن تكون كاتبة، لتدرس التاريخ والجغرافيا في الجامعة، على أمل أن تتحول لاحقًا إلى معلمة في مدرسة، تشكو من الرتابة والملل وتكرار النصوص.

تُرضي ألمودينا جراندز أمها عبر دراسة "ما يناسب الفتيات". لكنها لم تتوقف عن الكتابة أبدًا، ولم تمتهن أي مهنة أخري. أخذت من دراسة التاريخ الإدمان على قراءة كتبه، ووعيها بأهميته، وحرفيتها في عمل الأبحاث التاريخية والتوثيق قبل وأثناء الكتابة الإبداعية، لتعتمد على التاريخ دون أن تمتهنه، بل لتوظفه في خدمة الخطوط الدرامية لرواياتها.

يصل إليها النجاح مبكرًا، قبل أن تكمل الثلاثين عامًا، وتحديدًا في عام 1989 بنشر روايتها الأولى، الذي ستتحول إلى فيلم في العام التالي تشارك في كتابة السيناريو له؛ أعوام لولو، من إخراج بيجاس لونا المخرج الأكثر جرأة في تناول الجنس في السينما الإسبانية.

تبدأ الكاتبة الشابة مسارها برواية إيروتيكية/ إباحية عن ذاكرة الجسد والفانتازيا الحميمة لسيدة، ربما تكون هي نفسها في بعض ملامحها، في لحظتين مختلفتين من حياتها، وهي مراهقة في عمر الخمسة عشر عامًا، وحين تقترب من سن الثلاثين مثلما كان سن الكاتبة وقت كتابة الرواية ونشرها.

تفوز روايتها الأولى بعدد من الجوائز التي ستتدفق لألمودينا مع كل كتاب تكتبه، لتبدأ شهرتها ووجودها المكثف في الإعلام وفي الحياة الثقافية الإسبانية، وفي كتابة المقالات لواحدة من أهم الصحف الإسبانية، الباييز، خلال أعوام طويلة.

لم يتوقع قراء روايتها الإيروتيكية الأولى، والمعجبين بها وبجرأتها، أن تتحول هذه الكاتبة من كتابة ذاكرة جسدها ومتعته ورغباته وخيالاته، لتلعب دورًا أساسيًا في عملية استعادة الأدب الإسباني للذاكرة الجمعية؛ ذاكرة الضحايا ومهزومي الحرب الأهلية، فتبدأ في نشر سلسلة من الروايات لا تبتعد عن الحميمية النسوية، لكنها تهتم أكثر بما هو متعلق بجرائم الحرب الأهلية والنظام الفاشي، وحجبه لذاكرة الملايين.

إعلان فيلم أعوام لولو


يكمن هنا تفسير كره اليمين الإسباني بتنوعاته، من التقليدي إلى الفاشي القديم والجديد، لألمودينا جراندز، ووصفهم لها بأنها كارهة. فهم من يكرهونها، مثلما كرهت تاريخهم وأفكارهم، وإن تناولت تركيباتهم الإنسانية دراميا برحابة ومحاولة للفهم. إشهار اليمين والفاشية كرههم لألمودينا لحظة موتها هو فعل جديد ونادر، تعبير عن لحظة الاحتقان والاستقطاب التي تعيشها إسبانيا وكثير من البلدان الأوروبية حاليا. كراهية مدعومة بجرأة تأسست خلال أعوام قليلة نتيجة صعودهم الجماهيري الشعبوي والغوغائي السريع.

لكن الكره نفسه قديم وله أسباب كثيرة قبل أن يتم التعبير عنه بوقاحة في لحظة تفترض احترام الموت، فهي الكاتبة المرحة، المدخنة الشرهة، التي تتحدث عن الجنس دون تابوهات، اليسارية، المتمردة دائما حتى علي اليسار الذي أشهرت انتماءها له مبكرا، النسوية، وصاحبة المواقف المبدئية ضد اليمين والفاشية. والأهم أن أغلب رواياتها، وبالذات سداسيتها غير المكتملة حلقات من حرب لا تنتهي، كانت تعتمد على رحلة بحث وتوثيق جادة تتفاعل مع خيوط ما هو متخيل/روائي، لاستعادة ذاكرة البلد الذي انتهكته الفاشية بانقلابها العسكري عام 1936، وبحربها الأهلية التي استمرت ثلاثة أعوام، وبحكم ديكتاتوري دموي خلال أكثر من خمسة وثلاثين عاما، كاشفة عن الكثير من جرائمهم، ومتسائلة عن مصير أبطالها من الضحايا، والمهزومين، والمقاومين المسلحين في الجبال بعد انتصار فرانكو.

هي بهذا المعني تقدم لهم النموذج الذي لا يستطيعون إلا أن يكرهوه، فهي تقف سياسيا في الخندق المعادي. ونسويًا وجنسانيًا وثقافيًا تقف على النقيض منهم. فهم محافظون ومعادون لحقوق النساء، وللمتعة الجنسية إن لم تكن للرجل. ولا يستطيعون تجاهل أن إيروتيكية روايتها الأولى كانت فعل تمرد أيضًا، جاءت من زاوية نسوية مضادة لأطروحات اليمين الذي يشهر ذكوريته في كل المناسبات، وغير القادر على تجاهل أنها تختلف عن "البورنو" المستهلك سريًا من قبل الرجال، وكانت في الثمانينيات وقت نشرها تعبيرًا عن حالة تمرد اجتماعي وسياسي لقطاعات إسبانية واسعة خارجة من كبت الحكم الفرانكي الديني الطويل خلال خمسة وثلاثون عامًا.

 

من الحضور في جنازة الأديبة ألمودينا جراندز. الصورة: باسل رمسيس- المنصة

في المقبرة المدنية

"لا باثيوناريا ليست كبقية النساء. لا يمكن أن تصبح مثلهن لأنها أكثر بكثير من أن تكون مجرد امرأة. هي أيقونة، رمز، صورة دينية، متجردة من النوع الجنسي، وأكثر رقيًا مثل الملائكة. دولورس أم، نعم، لكنها أم للجميع، عذراء مريم الطبقة العاملة العالمية. تمنح الحياة دون أي تتلوث. ودون أي تلوث قادرة على أن تلد أبناء قائد شيوعي، رجل غامض، جاد وشريف، نعم، لكنه محدود الموهبة، وأقل تمكنا منها بكثير. هو ظل عديم المعني لا يستحق عادة إثارة الانتباه". من رواية إيناس والفرحة المنشورة عام 2010 لألمودينا جراندز.

في صباح يوم الاثنين 29 نوفمبر، احتشد بالمقبرة المدنية في مدريد المئات من النساء والرجال، يقدر عددهم بحوالي ثلاثة آلاف، من كل الأجيال، جاءوا لوداع ألمودينا جراندز، رافعين في أيديهم كتبها وبعض الأزهار الحمراء. وهو الطقس المأخوذ من مشاهد وداع الكاتب البرتغالي ساراماجو يوم دفنه في مدينة لشبونة 2010، حين خرج البرتغاليون إلى المقبرة لوداع كاتبهم، رافعين كتبه بين أيديهم.

افتتحت المقبرة المدنية في مدريد عام 1884 كي تتلقى بين أسوارها وأشجارها الكثيرة بعضًا ممن يريدون دفنهم خارج أسوار المقبرة الكاثوليكية، وبعضًا ممن لا تقبل هذه الكنيسة بدفنهم في مقابرها الدينية.

تغطية تليفزيونية لجنازة ألمودينا


بمجرد عبور الباب الرئيسي للمقبرة هناك على اليسار ثلاثة قبور متجاورة، بأحجام متنوعة. أكبرها لـ بابلو إيجليسياس (1850-1925) مؤسس الحزب الاشتراكي الإسباني والاتحاد العام للعمال. وهناك قبران أصغر حجما مغطيان بالرخام الأبيض، وضع البعض من مودعي ألمودينا جراندز الزهور الحمراء فوقهما خلال توجههم للمكان الذي سيصل إليه جسدها. القبر الأصغر لـ ماركوس آنا (1920-2016) الكاتب والشاعر الذي قضى إثنين وعشرين عامًا في سجون فرانكو بعد هزيمة الجمهورية الثانية مباشرة وانتهاء الحرب الأهلية عام 1939. كان مراهقًا وقتها، لم يتجاوز عمره التسعة عشر عامًا، حكمت عليه المحكمة بالإعدام لنشاطه البارز في القطاعات الشبابية للحزب الشيوعي. ونتيجة لحظه الحسن تم تخفيف الحكم بالإعدام إلى السجن المؤبد. فنجا من مصير مراهقين آخرين تم إعدامهم أو قتلهم مباشرة، ودفنهم في مقابر جماعية مجهولة.

بين القبرين هناك مدفن دولورس إيباروري الشهيرة إسبانيا وعالميا بـ لاباثيوناريا (1895-1989)، التي تتحدث عنها ألمودينا جراندز في الاقتباس السابق. واحدة من أهم قيادات الحركة الشيوعية العالمية، والسيدة الأولى التي تتولى منصب السكرتيرة العامة لحزب سياسي إسباني، الحزب الشيوعي، بين عامي 1942 و1960، لتتحول لاحقا إلى رئيسته الشرفية حتى وفاتها في نفس العام الذي نالت فيه ألمودينا جراندز نجاحها الأول بروايتها أعوام لولو.

بتأمل المقطع الوارد من رواية إيناس والفرحة عن لاباثيوناريا تبدو الأرضية الناقدة التي كانت تقف عليها ألمودينا جراندز في رؤية التيار الذي تنتمي إليه، وتهكمها على تحويل الأشخاص إلى أيقونات ونماذج مقدسة غير قابلة للتلوث، ما فوق بشرية. لكنه لا ينفي إعجابها بمن ستكون جارتها في المقبرة. أن تكونا جارتين به بعض المنطقية. فمن من اليساريين واليساريات الإسبان لم يحب لاباثيوناريا؟ هذه السيدة التي بدأت حياتها كخياطة وعاملة تنظيف في المنازل وزوجة لعامل في المناجم في مقاطعتها أستورياس بشمال إسبانيا، لكنها تتمرد، وتنهي زواجها، وتتعلم الكتابة، وتتحول إلى صحفية ودعائية عبر صبرها على القراءة وتعليم نفسها. وعبر مشاركتها في أنشطة الحزب الشيوعي، تتحول لواحدة من قيادات الإضرابات الأهم في بدايات القرن الممهدة للجمهورية الثانية، وهو ما يقودها إلى السجن مرات عديدة، ويقودها إلى برلمان الجمهورية، وللتحول إلى قائدة مباشرة للحزب، وصاحبة الصرخة الأكثر خلودا في مواجهة الفاشية: لن يمروا.

كانت لاباثيوناريا من المهزومين الذين كتبت عنهم كثيرا ألمودينا جراندز، وفي حالتها كان ثمن الهزيمة هو المنفي الطويل بالاتحاد السوفيتي، لتعود إلى إسبانيا، وإلى البرلمان من جديد بعد موت فرانكو عام 1975، تاركة الاتحاد السوفيتي، الذي فقدت فيه ابنها الوحيد المقتول خلال معارك الدفاع عن مدينة ستالينجراد في مواجهة الغزو النازي.

 

دولورس إيباروري أو لاباثيوناريا تخطب في أحد التجمعات. الصورة: ويكيميديا

لن يكون هؤلاء الثلاثة الجيران الوحيدون لألمودينا جراندز في مكانها الأخير، هناك الكثيرون بالمقبرة، من بينهم ثلاثة من رؤساء الجمهورية الأولى التي استمرت سنة واحدة (1873-1874)، مفكرون، وفنانون، ومثقفون، وملحدون، وماسونيون بقبورهم التي تتخذ شكلا هرميًا. وهناك أيضًا مقابر لبعض النازيين، ممن هربوا من ألمانيا إلى إسبانيا بعد هزيمة هتلر في الحرب العالمية الثانية، ليغيروا هوياتهم في ملجأهم الجديد، ويقدمون بعض الخدمات السرية للنظام الفاشي الوحيد الذي استطاع البقاء والصمود بعد الحرب العالمية الثانية، الحليف السابق لألمانيا النازية، ولا تقبلهم الكنيسة الكاثوليكية في المدفن الديني كونهم بروتستانت.

خلال ساعة الانتظار لوصول جثمان ألمودينا، تفتح الكاتبة كارمن بيري واحدة من روايات صديقتها لتبدأ بقراءة مقطعا منه بصوت مرتفع، تنهيه، وتتوالى القراءات. اختارت كارمن بيري نصًا تتحدث فيه ألمودينا عن النازيين المتخفيين بإسبانيا الفرانكية الرمادية. فتقترب شابة لتخبرنا أنها تعمل دليلًا للمقبرة، وتخبرنا بأن هناك على الأقل ثمانية وأربعين قبرًا لقيادات نازية ألمانية.

تبدو كل هذه المفارقات شديدة السينمائية ومبالغًا فيها، ألمودينا وزوجها لم يبغضا شيئًا كبغضهما للفاشية، ومنحا حياتهما لأفكار التحرر والتقدم والعدالة، فتنتمي الابنة لهذه الفاشية. وأن تدفن لاباثيوناريا بالقرب ممن قتلوا ابنها في ستالينجراد ومَن حاولوا اغتيالها عدة مرات، وأن تدفن ألمودينا بالقرب من هؤلاء الذين أبغضت أفكارهم وكتبت عن جرائمهم، وبالقرب أيضًا من لاباثيوناريا التي كتبت عنها، وربما تخبرها أخيرًا بأنها تراها كامرأة غير عادية، لكنها امرأة، ليست مجردة من النوع الجنسي.

الوداع الشاعري

تتزايد أعداد الحضور، مشاهير، فنانون، سياسيون، نقابيون، رئيس الوزراء وعدد من أعضاء حكومته، والكثير من الصحفيين. لكن الغالبية لم تكن من هؤلاء رغم تصدرهم للمشهد وحرص بعضهم أن تلحظ الجموع وجوده. بل كانت لقراء ألمودينا ممن لم يقابلوها أبدًا، أو قابلوها مرات عابرة خلال زياراتها الكثيرة والدائمة لمعرض الكتاب السنوي كي تستمع إليهم أكثر مما تحدثهم. جاؤوا ليمنحوها الوداع الأخير، بعد أن منحوها سابقًا رفاهية أن تعيش حياة مريحة متفرغة للكتابة وفقط، على حسب ما رددت كثيرًا.

احترام ألمودينا جراندز لهؤلاء القراء، وتقديرها لهم، لم يعن لها أن تساوم في اختيارها للمواضيع التي تتناولها في رواياتها، فهي اختارت دائمًا نوعًا من الكتابة يفتح الجروح المغلقة، ويطالب بالعدالة للضحايا والخاسرين. النتيجة الوحيدة لإحساسها بهذا التقدير المقابل هو محاولتها الدائمة ألا تتحول إلى "بيست سيلر" بالمعنى التجاري، وأن تبتعد عن الألعاب الشكلانية والجمالية، عن استعراض شطارتها ككاتبة، لإبهار هذا القارئ، بل السعي إلى أكبر قدر من البساطة وتجنب التعقيد.

يدخل الصندوق الذي يحتوي على جسد ألمودينا في الحفرة الواسعة، يغطونه برخام أبيض، لتقرأ الممثلة والمغنية آنا بيلين أحد نصوصها، تتبعها كلمات شكر من العائلة، وأغنية لـخواكين سابينا وسيدة أخرى متمردة، المغنية المكسيكية الراحلة تشابيلا بارجاس.

أغنية ليالي الزواج لخواكين سابينا وتشابيلا بارجاس


يتساءل البعض بأصوات خافتة إن كانت الابنة حاضرة الوداع الأخير للأم. لا يملك أحد إجابة قاطعة. لكن البعض الأخر يتذكر بضع كلمات قالتها ألمودينا جراندز سابقا حول ابنتها، وأنها تحترم خياراتها وتعبيرها عن تمردها عليها، وعلى التربية التقدمية التي قدمتها هي وزوجها إليها، وبضحكتها الصاخبة وصوتها المتأثر بأعوام التدخين الطويلة كانت تضيف أنها أيضا كانت من الراديكاليين حالقي شعر الرأس في شبابها، وأنها تشجع فريق أتليتيكو مدريد، بينما يشجع الزوج ريال مدريد، فاختارت الابنة الفريق المدريدي الثالث، رايو باييكانو.

تبدأ بعض الأصوات المتفرقة لمن يرفعون في أيديهم كتب ألمودينا جراندز في ترديد كلمات الشكر لها وكأنها هتافات متفرقة. تتزايد كلمات الشكر ليبرز صوت سيدة مجهولة تقف بين الكثيرين من المجهولين "شكرا ألمودينا لأنك جعلتيني أقرب إلي جدي الذي لم أراه".


اقرأ أيضًا: نساء| بعض الأشياء عن أمي

 


اقرأ أيضًا: نساء| في الظلال المُغَبَّرة للعاصمة