ما تأثير التغير في سعر الفائدة على عاملة منزلية تكسب في الشهر 2000 جنيه من تنظيف ورعاية المنزل؟ قد يبدو سؤالًا غريبًا للوهلة الأولى، فعالم المال والفوائد يظل مرتبطًا في أذهاننا بأصحاب الياقات البيضاء ممن يجلسون أمام شاشات أسعار الأسهم، ويربحون الملايين من أنشطة المضاربة والوساطة في الأصول المالية.
لكن في الواقع فإن أسعار الفائدة لها أثر اجتماعي عميق يتجاوز بكثير هذه النخبة. نسعى في هذه المقال أن نبرز مدى التأثير الاجتماعي لارتفاع أسعار الفائدة، وكيف أن تبَنّي الدول لأسعار فائدة عالية لجذب العملة الصعبة، مثلما حدث في مصر في سنوات ما بعد التعويم، هو أمر تُجبَر عليه دول الجنوب العالمي في الظاهرة التي عرَّفها بعض المعلقين بـ"الأمولة التابعة".
يجادل المقال أن التعويم أفسح المجال لصعود هذه الظاهرة في مصر، فهذه الأمور الهيكلية الكبرى التي تعمل بشكل يقترب من الماورائيات في جمعها ما بين قوة التأثير والخفاء، أثرت على حياة الجميع حتى الأشخاص الأكثر ابتعادًا عن عوالم الاستثمار المالي بسبب موقعهم الاجتماعي، بل لعل التأثير السلبي يزيد كلما ابتعد الشخص عن هذه العوالم.
قبل أن نقوم بتعريف "الأمولة التابعة"، دعنا نرى كيف يؤثر ارتفاع أسعار الفائدة بهدف السيطرة على أسعار الصرف على السيدة التي تكسب في الشهر نحو 2000 جنيه من تنظيف ورعاية المنازل. دخل بسيط لا يمكن معه تخيل فوائض كافية للاستثمار في القطاع المالي أو شراء أوراق مالية تصدرها الحكومة في شكل أذون خزانة وسندات.
حتى لو لم تحصل السيدة على أي قروض فستظل تؤثر فيها أسعار الفائدة المرتفعة بأكثر من طريقة لعل أهمها:
1- زيادة تكلفة الاقتراض على الحكومة بشكل يضطرها في أوقات كثيرة لزيادة ضرائب الاستهلاك والتي عادة ما تؤثر سلبًا على المُفْقَرين، وبالتالي تضطر الحكومة لخفض الإنفاق الاجتماعي أو الإنفاق على الدعم الذي تستفيد منه هذه السيدة في شكل مواد غذائية مدعمة، أو كهرباء ووقود رخيص يقلل من تكلفة استخدام الأجهزة الكهربائية في المنزل أو تكلفة إعداد الطعام وكذلك أعباء الإنفاق على الانتقالات.
2- البعد الآخر ربما يكون أكثر بنيوية وغير مباشرة وهو تشجيع ارتفاع أسعار الفائدة على الادخار والاستثمار في أوراق مالية ذات دخل ثابت في مقابل الاستهلاك والاستثمار في أوراق مالية ذات دخل متغير، وأثر ذلك السلبي على خلق فرص عمل التي قد تستفيد منها هذه السيدة أو أعضاء أسرتها.
3- عادة ما تلجأ الفئات منخفضة الدخل إلى الاقتراض لإقامة مشروع متناهي الصغر، أو توفير مصاريف تزويج البنات والأبناء أو حتى توفير أساسيات الحياة من مأكل ومشرب. بالطبع لا تلجأ تلك الفئات الاجتماعية للقنوات المصرفية الرسمية للاقتراض حيث إنها عادة ما تكون مسدودة أمامهم بشكل يجعلهم أكثر عرضة لاستغلال المُقرضين غير المصرفيين أو غير الرسميين. ويتسبب ارتفاع أسعار الفائدة في الاقتصاد في دفع تلك الفئة من "المقرضين غير الرسميين"، مثل أصحاب محال بيع الأدوات المنزلية، للمطالبة بفائدة أعلى، ولعل قضية الغارمات خير دليل على معاناة فئات الدخل الأدنى مع منظومة الاقتراض الشعبية. لذا فاحتمالات أن ينتهي المطاف بهذه السيدة إلى السجن بسبب الديون أعلى من غيرها من الفئات الاجتماعية الأخرى.
الفائدة الوحيدة المحتملة التي تحصل عليها هذه السيدة جراء رفع سعر الفائدة هو السيطرة على الأسعار، في حال فقط كان ارتفاعها نتيجة لزيادة الطلب، لأن ارتفاع سعر الفائدة يشجع الناس على الادخار والاستثمار في أوراق مالية ذات دخل ثابت بدلًا من الإنفاق الاستهلاكي والاستثماري كما أشرنا.
بنظرة سريعة على العالم سنجد أن أسعار الفائدة المرتفعة هي من خصائص اقتصاديات العالم الجنوبي أو ما جرى تسميته في الاقتصاد الشائع بـ"الدول الأقل نماء" أو "الدول النامية"، وأن أسعار الفائدة في اقتصاديات الشمال أو ما جرى تسميته بـ"الاقتصاديات الصناعية المتقدمة" أقل كثيرًا ولهذا العديد من الأسباب البنيوية يمكن تلخيصها في الآتي:
1- انخراط دول الجنوب في علاقات تجارية غير متوازنة تضع عملتها تحت ضغط مستمر، بالتالي يجب عليها أن ترفع سعر الفائدة لجذب الأموال الأجنبية لاقتصادها، وفي نفس الوقت تشجع الناس على الاحتفاظ بالعملة الوطنية وبالتالي الحفاظ على قيمتها من الانهيار.
2- العلاقات التجارية غير المتوازنة تلك ليس سببها أن هذه الدول ليس لديها ما تُصدّره للعالم، بالعكس أغلبها يعتمد اقتصاده على تصدير كميات كبيرة من المنتجات المختلفة لكنها منتجات منخفضة القيمة المضافة في المتوسط. وتستورد هذه الدول كمية محدودة من المنتجات عالية القيمة المضافة من الشمال مما يجعل غياب التوازن التجاري مرتبط أكثر بالقيمة التبادلية للمنتجات (أي سعرها النقدي) وليس بالضرورة بكمها أو بالقيمة الاستخدامية أو الحيوية للمنتجات (الخصائص الملموسة للسلعة التي تلبي متطلبات وحاجات بشرية مباشرة).
المثال الأوضح هو حقوق استخدام العلامات التجارية والذي يشتمل على تحويلات كبيرة إلى العالم الخارجي لكن بدون تلقي منتجات ذات قيمة استخدامية تذكر، وعلى النقيض تتخصص دول الجنوب عادة في تصدير المواد الأولية أو مواد مصنعة ذات قيمة مضافة منخفضة تباع عادة بمقابل هزيل نسبيًا.
منذ بدء ما يسمى بالتعويم في أواخر عام 2016 ومصر تمتلك واحدًا من أعلى أسعار الفائدة في العالم. يجدر الإشارة سريعًا هنا إلى أن مصطلح "تعويم" ليس دقيقًا حيث ما زالت الدولة تحتفظ لنفسها ببعض آليات التحكم في سعر الصرف، والمصطلح الأدق هو "تخفيض سعر الجنيه المصري"، لكننا نستخدم مصطلح "التعويم" بسبب ارتباطه بالظاهرة محل النقاش الحالي.
معدلات التضخم العالية ونقص موارد العملة الصعبة أجبر مصر على تبني أسعار فائدة مرتفعة للغاية كادت تلامس الـ 20% عام 2017، وبرغم هبوطها على مدار السنوات الأخيرة لكن الفائدة الحقيقية (وهي الفارق بين سعر الفائدة الإسمية ومعدل التضخم) ظلت من أعلى المعدلات في العالم، واضعة ضغوطًا ضخمة على الموازنة العامة للدولة التي تتكبد نحو 600 مليار جنيه في السنة لتسديد الفوائد فقط، مما يعني أن المال العام المتاح للإنفاق التنموي والاجتماعي يواجه منافسة وضغط شديدين.
إنفوجراف: المنصة. المصدر: بيانات البنك المركزي
هناك انفجار في الأدبيات حول ما اصطلح تسميته بـ"الأموَلة" خلال العقود الأخيرة، لا سيما منذ الأزمة المالية العالمية عام 2008. تعني هنا "الأمولة" ببساطة زيادة حجم ودور وتأثير النشاط الاقتصادي التمويلي في مقابل النشاط الاقتصادي الإنتاجي.
غالبًا ما تربط هذا الأدبيات بين زيادة عدم المساواة العالمية والأزمة الاقتصادية العميقة، والدور المتنامي للقطاع التمويلي، مما دفع العديد من الباحثين والمعلقين إلى دراسة تأثير القطاع المالي المتنامي على الأداء الاقتصادي بشكل عام وأيضًا على قضايا النمو وعدم المساواة وخلق فرص العمل على وجه الخصوص. لكن بسبب نمط نظام الفائدة التراجعي (أي أن عبئها يزيد كلما قل الدخل)، والذي يستخلص معدلات فائدة عالية كلما زاد احتياج الناس للاقتراض وكلما تضاءلت قدراتهم الاقتصادية، كانت معدلات الفائدة تزداد كلما ازدادت حدة الأزمة الاقتصادية وضعفت قدرة الدولة الاقتصادية فيما يعرف بنظام "التصنيف الائتماني"، الذي يصنف الدول ائتمانيًا حسب قدرتها على الوفاء بالتزاماتها المالية. وكلما انخفض تصنيف الدولة الائتماني كلما طالب المقرضون بمعدلات فائدة أعلى.
أدت هذه الدينامية إلى فرض معدلات فائدة مرتفعة جدًا على دول الجنوب مقارنة بدول الشمال التي أحيانا ما تقترض حكوماتها بمعدل فائدة سلبي خصوصا في سنوات ما بعد الأزمة المالية العالمية، حيث كان الاتجاه العالمي هو خفض سعر الفائدة لتحفيز النشاط الاقتصادي ومواجهة الركود.
تجاهلت أغلب الأدبيات التأثيرات الاجتماعية والاقتصادية لهذا النمط من الأموَلة على دول الجنوب، فأغلبها لا يفرق بالضرورة بين الأموَلة المدفوعة بالاستثمار في أصول منتجة تحمل قدر من المخاطر (كأسهم الشركات وإقراض القطاعات المنتجة) والاستثمار في الأصول ذات معدل فائدة ثابت ومضمون وعادة ما تكون أوراق مالية تصدرها حكومات في الجنوب مجبرة على الاقتراض بمعدلات فائدة عالية.
لحسن الحظ التفت قلة من الباحثين لهذا النمط وأطلقوا على النمط الجنوبي "الأمولة التابعة" (Subordinate Financialization)، فيجادل مثلًا أستاذ الاقتصاد برونو بونيتزي بأن الأموَلة في الاقتصادات الأنجلو أمريكية، المتقدمة، تستند إلى ارتفاع أسعار الأصول المالية (مثل الأسهم والسندات) ، بينما في "البلدان النامية"، تحدث الأمولة غالبًا من خلال زيادة دخل الفائدة كنتيجة لارتفاع التضخم. ويوضح بونيتزي أن الحاجة إلى تشجيع تدفقات رأس المال الوافدة وتثبيط التدفقات الخارجة في ظل ظروف التضخم المرتفع التي دفعت حكومات الجنوب العالمي إلى تبني معدلات فائدة مرتفعة.
عرّف أيضا أستاذ الاقتصاد اليوناني كوستاس لابافيستاس مفهوم الأموَلة التابعة كحالة يمكن [فيها] لرأس المال التمويلي تأمين الأرباح وإخراجها من البلاد بأمان، بينما يدفع رأس المال الصناعي ضريبة انخفاض القدرة التنافسية". يجادل بونيتزي أيضًا بأن توافر الاستثمارات المالية عالية العائد/ قصيرة الأجل قد أدى في العديد من البلدان النامية إلى انخفاض في الاستثمارات الإنتاجية.
ويوجد بعض المؤشرات على حدوث الظواهر الاقتصادية التي يتحدث عنها هؤلاء المنظرين في مصر منذ بدء عصر الفائدة المرتفعة. كما هو واضح من الرسم أدناه فحتى لحظة التعويم ظل صافي استثمارات المحفظة يحوم حول معدل صفري حتى قفز إلى نحو 8 مليارات دولار في كذا ربع على التوالي، وقد تكون أغلب استثمارات المحفظة في مرحلة ما بعد التعويم من استثمارات في أوراق دين حكومية مرتفعة العائد. حدث هذا في حين ظلت معدلات الاستثمار الأجنبي المباشر التي تذهب لمشروعات في القطاع الحقيقي مستقرة عند معدلات منخفضة وذهب أغلبها الساحق للقطاعات الاستخراجية والعقارية ذات الأثر التنموي المحدود أو حتى السلبي.
ومنذ عام 2016/2015 انخفضت قيمة قطاعات عدة بالنسبة إلى إجمالي الناتج المحلي مثل الصناعة والزراعة والتعليم والصحة والقطاع الحكومي وتجارة التجزئة وزادت قطاعات الغاز والبترول والإنشاءات. على سبيل المثال، زاد قطاع الاستخراجات من نحو 8% إلى حوالي 12% من الناتج المحلي الإجمالي، وزادت أصول القطاع المصرفي من أقل من 70% في عام 2015 إلى أقل قليلا من 90% من الناتج المحلي في 2017، في حين زاد قطاع التشييد والبناء من 5.4% في العام المالي 2015/2016 إلى 6.2% من الناتج المحلي في 2018/2019.
هذا النمط من الأمولة التابعة يؤثر بشدة أيضًا على الإنفاق والاستثمار الحكومي والذي يخلق ويحافظ على ملايين من فرص العمل، في قطاعات الصحة والتعليم والحكومة العامة كثيفة العمالة بشكل عام والعمالة النسائية بشكل خاص، والتي بدورها تُشغل من وراءها العديد من القطاعات المرتبطة في القطاع الخاص، فنرى مثلا أن حجم الحكومة العامة من الناتج المحلي الإجمالي شهد أكبر معدل انكماش من 10.3% في 2015/2016 إلى 6.75% في 2018/2019. حتى أهم القطاعات الإنتاجية والمشغلة التي يسيطر عليها إلى حد كبير القطاع الخاص، وهي الزراعة والصناعة، انخفض كلاهما بنحو 0.6% من الناتج المحلي الإجمالي. وكذلك القطاع التجاري الأهم من حيث التشغيل وهو تجارة التجزئة، انخفض هو الآخر في سنوات ما بعد التعويم.
إذا عدنا هنا لمثال العاملة المنزلية فنجد أن هذا قد يؤثر عليها من زاويتين. الزاوية الأولى هو تأثير ذلك على قدرة أفراد أسرتها ومجتمعها المباشر على إيجاد فرص عمل مما يؤثر على رفاه أسرتها ومجتمعها وبالتالي على رفاهها؛ والزاوية الثانية هو تأثير انخفاض معدلات التشغيل على دخول عملائها، وعادة ما تلجأ الأسر حين ينخفض دخلها الى خفض الإنفاق الموجة للعمالة المنزلية.
قد يتساءل البعض عن أسباب انخفاض نسب البطالة رغم كل هذه الانخفاضات في القطاعات كثيفة العمالة، والأمر هنا يعود لسببين رئيسيين؛ أولًا نجح التوسع في قطاع التشييد والبناء والتوسع في مشروعات البنية التحتية من تشغيل عدد كبير من المواطنين لكنها وظائف مؤقتة تنتهي بانتهاء المشروع أو بحدوث أي تباطؤ في هذا القطاع؛ ثانيًا، يرتبط الموضوع بطرق قياس نسب البطالة، ففي حوار لها مع مدى مصر، قالت هبة الليثي أن بالرغم من انخفاض معدلات البطالة (وهو مؤشر يحسب عدد العاطلين عن العمل الذين يبحثون عن عمل بشكل نشط من إجمالي نسبة المشتغلين) إلا أن معدلات التشغيل (وهو المؤشر الذي يحسب نسب المشتغلين من إجمالي السكان في سن العمل) انخفض هو الآخر انخفاضًا حادًا مما يعني أن انخفاض معدل البطالة لا يعكس خلق فرص عمل لكن يعكس توقف الكثيرون عن السعي بسبب اليأس من إيجاد فرصة عمل؛ الفئة الغالبة من هذا القطاع هم النساء الذي انخفضت بشدة نسبة مشاركتهم في سوق العمل في سنوات ما بعد التعويم.
قد يظن كثيرون أن معدل الفائدة هي أمور تخص المستثمرين والمدخرين، وينتهي تأثيرها عند زيادة عوائد ودائع هنا أو زيادة أقساط قروض استهلاكية أو إنتاجية هناك، لكن كما وضحنا في هذه المقالة، يخضع الجميع لتأثيرات ارتفاع سعر الفائدة وفقًا لموقعهم الاجتماعي. المهم هنا هو الإشارة للعوامل البنيوية التي تجعل من "الأمولة التابعة" مصير يصعب الفكاك منه دون إحداث قدر من التوازن في المنظومة التي يعمل وفقها الاقتصاد العالمي، بما فيها الأدوار التي تلعبها الدول والمناطق المختلفة في سلاسل القيمة العالمية التي تدفع الكثير من دول الجنوب للانخراط في منظومة من التبادل اللامتكافئ تضع ضغوطًا هيكلية كبيرة على عملاتها.
يذكرنا البعد البنيوي العالمي للآثار الاجتماعية العميقة لظاهرة مثل "الأمولة التابعة" (أنظر الشكل أدناه والشرح المصاحب له) بضرورة تطوير مجالات للبحث والنضال الاقتصادي الجنوبي يعمل على تصحيح العديد من الاختلالات الهيكلية والدوائر المفرغة التي تعاني منها دول الجنوب، ولعل أبسطها هي معدلات ومدفوعات الفائدة شديدة الارتفاع، حيث عادة ما ينتهي المطاف بـأرباح الاستثمارات التي تم جنيها من الفوائد العالية في الجنوب إلى المراكز المالية الكبرى في الشمال، مما يؤدي بدوره لمزيد من الضغوط على العملات الوطنية لدول الجنوب العالمي وبالتالي الحاجة إلى مزيد من الإغراء لرؤوس الأموال العالمية بأسعار فائدة جذابة.