عندما سمعت والدة حنان عن شهادات استثمار قناة السويس في 2014 تحمست لوضع مدخراتها المتواضعة فيها دعمًا للمشروع القومي بتوسعة القناة، في هذا الوقت كانت مترددة بشأن تغيير ثلاجة المنزل والتي كان سعرها ستة آلاف جنيه ولكن حسمت قرارها بالادخار.
امتد أجل شهادات السيدة لثلاث سنوات، مرت خلالها البلاد بدراما التعويم، التي أحدثت طفرة في أسعار الفائدة ما أدى لرفع سعر العائد على شهادات السويس من 12% إلى 15.5%، وعندما استلمت مدخراتها في نهاية المدة وجدت أنها زادت من 7 آلاف إلى حوالي 12 ألف جنيه، شعرت السيدة بأن الوقت قد حان للاستفادة من هذا المبلغ في تلبية احتياجات المنزل، ولكنها تفاجئت بأن سعر الثلاجة تضاعف تقريبًا إلى 11 ألف جنيه.
تشير التقديرات الرسمية إلى أن نحو 28 مليون مواطن انجذبوا لحمى زيادة الفائدة في سنوات التعويم، ومن قبلهم أكثر من مليون استجابوا لنداء الدولة بشأن تمويل السويس، هؤلاء عاشوا السنوات الماضية في حسابات معقدة مع الفائدة الصاعدة والهابطة من أجل تأمين أفضل ربح ممكن لمدخراتهم.
نسعى في هذه القصة لرصد بعض من هذه القصص، ونسأل أصحابها إذا ما نحجوا في تكوين ثروات صغيرة أم أن تكاليف المعيشة بعد التعويم التهمت أرباحهم؟
"في تلك الأيام كنا نعيش حالة من التزاحم الشديد بسبب تردد العملاء علينا من أجل كسر شهاداتهم القديمة والشراء في الشهادات مرتفعة العائد، عادة ما يكونون من صغار العملاء ممن يدخرون 100 أو 200 ألف جنيه ويريدون العائد لاستكمال مصروفات البيت"، يقول موظف في خدمة العملاء بأحد البنوك واصفًا الفترة من 2016 إلى 2017، وقت أن طرحت البنوك شهادات بعوائد فائقة الارتفاع، وهو ما جاء بتوجيه من البنك المركزي بهدف سحب السيولة والسيطرة على التضخم المتفاقم بعد التعويم.
أيام الفائدة العشرينية
قبل هذه الوقائع بحوالي عامين، كانت ظاهرة التزاحم في البنوك بدأت بفضل شهادات "السويس"، حيث أعلنت 4 بنوك حكومية عن جمع تمويل لمشروع قناة السويس الجديدة بقيمة 60 مليار جنيه من خلال شهادات للاستثمار.
اجتذبت هذه الشهادات 1.1 مليون مواطن بفضل عائد سنوي 12%، كان مرتفعًا مقارنة بالعوائد المعروضة في هذا الوقت، لكن سرعان ما تحولت هذه الفرصة إلى ورطة مع اتجاه البنوك الحكومية بعد التعويم لطرح شهادات جديدة بعوائد 16% لمدة سنوات وتصل لـ20% في شهادات استمر طرحها لعام ونصف.
"مدخراتي كانت محدودة للغاية. حوالي 7 آلاف جنيه، وعندما سمعت عن شهادات السويس سحبتهم من دفتر التوفير واشتريت الشهادات. بعد التعويم كنت أرغب بشدة في الانتقال إلى الشهادات الأخرى ذات العائد المرتفع ولكن كنت أخشى أن يتسبب كسر الشهادة القديمة في خسارة جزء كبير من المبلغ" تقول حنان وهي تتحسر على ضياع فرصة عائد الـ20%.
استطاعت الشهادات الجديدة جذب أكثر من 28 مليون مواطن، ادخروا فيها ما يقرب من 800 مليار جنيه، وسعى الكثير للخروج من شهاداتهم القديمة من أجل الدخول في شهادات التعويم، حتى أن بعض مدخري "السويس" أخذوا هذا المسلك، ما دفع البنوك لرفع الفائدة على شهادات مشروع القناة إلى 15.5% في محاولة لتشجيع المواطنين على الاستمرار في الشهادات وعدم كسرها لشراء الجديدة.
"العملاء كانوا قلقين من الخسارة بسبب كسر شهادات ما قبل التعويم، لأن البنك في هذه الحالة يقوم بخصم الفوائد التي صرفها العميل على هذه الشهادة، ومن استطاع منهم أن يشتري شهادات جديدة لم ينج من القلق أيضًا ولكن بسبب التضخم كانوا يسألوننا دائما إذا ما كانت الفائدة سترتفع في الفترة المقبلة"، كما يضيف موظف خدمة العملاء، الذي تحدث معنا بشرط عدم ذكر اسمه.
بحسب بيانات البنك المركزي، فإن البنوك كانت تتكبد خسائر ضخمة من الشهادات مرتفعة العائد، تجاوزت 350 مليارًا، ولهذا تحدث مسوولي المصارف بشكل صريح منذ 2017 عن أن الفائدة لن تزيد عن 20% تحت أي ظرف.
"أتذكر يوم أن ذهبت للبنك سنة 2017 وهذا التزاحم الشديد على شراء الشهادات" كما يقول نصار حسن، 52 سنة، والمتقاعد عن عمله حديثًا بمعاش مبكر .
كانت لدى حسن الفرصة لاستغلال الفائدة المرتفعة، فهو على عكس حنان يتقاضى أجرًا كبيرًا من وظيفته يساعده على الادخار، في حدود 10 آلاف جنيه شهريًا، ولديه سيولة كبيرة في البنك "دائمًا ما أكون حريصًا على عدم وضع البيض كله في سلة واحدة، قبل التعويم كانت لدي استثمارات في العقارات ولكن كنت أجنب بعض السيولة، بعد التعويم كنت مترددًا بين استثمار هذه السيولة في شراء أرض أم في شهادات الاستثمار، ولكن عندما سمعت عن الفوائد المرتفعة وجهت هذا المال فورا للشهادات".
هل هي أموال حقيقية؟
لكن في مقابل هذه الفوائد السخية، فإن تتبع أسعار فائدة الشهادات خلال 2017 يعكس عجزها عن ملاحقة التضخم، ما يعني أن الأسعار كانت كفيلة بالتهام مكاسب الفائدة في هذا العام.
إنفوجراف المنصة. المصدر: بيانات البنك المركزي المصري والبنك الدولي
التضخم اتجه للتراجع بدءًا من 2018، لكن من المهم أن نلتفت إلى أن جزءًا من تفسير تراجع التضخم يعزى لأسباب حسابية ولا يتعلق بتحسن تكاليف المعيشة، ففي 2018 كنا نقارن الرقم القياسي لأسعار المستهلكين بمستويات بالغة الارتفاع في نفس الفترة من 2017 وهو ما جعل تضخم 2018 يبدو منخفضًا، كذلك قام الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء في 2019 بتعديل سنة الأساس لمؤشر التضخم من 2010 إلى عام 2017-2018 وهو ما تسبب في خفض المؤشر بقوة. بمعنى إذا كان سعر علبة اللبن قبل التعويم 9 جنيهات وارتفعت بعده لتصبح 13 جنيهًا، ثم 14 جنيها بعد عام، فإن مقارنة سعر العلبة لن يكون مع الـ9 جنيهات بعد تعديل سنة الأساس، وإنما ستكون المقارنة مع الـ 13 جنيها وليس الـ9 جنيهات.
وفي كل الأحوال فإن انخفاض التضخم يعني فقط هدوء وتيرة ارتفاع الأسعار، ولا يعني أن الأسعار عادت إلى مستوى ما قبل 2016، فصدمة تضاعف الأسعار في الأسواق بعد التعويم ظلت باقية معنا.
ولكن بحسابات البنوك، فإن انخفاض التضخم يعني بالضرورة خفض الفائدة، خاصة وأن شهادات التعويم كانت تكبدها خسائر كبيرة، وتسبب قرار البنوك في زلزلة الحسابات الشخصية للعديد من الأسر التي كانت تتزاحم على شراء الشهادات منذ 2016.
عائلة هناء نموذج العائلات التي اعتبرت عائد الشهادات في فترة ما بعد التعويم بمثابة راتب شهري لدخل الأسرة، الأسرة انزعجت كثيرا من انخفاض هذا الراتب مع تراجع الفائدة.
عادت هناء وزوجها من الخليج ، قبل نحو خمس سنوات، بعد 30 سنة من العمل هناك، وكانا في سن متقدمة بما يكفي لجعلهما غير راغبين في العودة للعمل بشكل منتظم في مصر، لذا وضعا كل مدخراتهما في الشهادات لتكون أحد مصادر الدخل المنتظمة تعينهم على الحياة، وعلى مدار الفترة من 2017 حتى الوقت الراهن، كانت هناء تتابع كيف ينخفض العائد على شهاداتها "ما كانت تدره الشهادة بقيمة مائة ألف جنيه انخفض من 1500 جنيه شهريًا في 2016 إلى 1200 جنيه ثم إلى 950 جنيهًا حاليًا رغم ارتفاع كلفة المعيشة".
وأمام هذا التراجع لم تجد هناء بدًا غير تقليص نفقاتها الشخصية لتستطيع أن تعيش بالدخل الشهري الجديد "أمسك يدي عن أشياء كانت بالنسبة لي أساسيات، والآن أصبحت من الكماليات".
كذلك اضطر نصار حسن لإنفاق جزءًا كبيرًا من مدخراته خلال السنوات الماضية، وفي ظل ارتفاع الأسعار المستمر قرر أن يضع ما تبقى من أمواله السائلة، حوالي 500 ألف جنيه، في شهادتين جديدتين "على أمل أن يرتفع العائد مجددًا".
الزواج في زمن التعويم
ربما من حسن طالع محمود شحاتة، موظف بشركة خاصة، أنه تمكَّن من الزواج وهو في مقتبل الثلاثين، ولكن توقيت زواجه كان قبل عام واحد من التعويم.
لم يشعر شحاتة بالقلق من نفقات الزواج لأنه يستثمر في الشهادات منذ 2006، ولديه عوائد متراكمة كانت كافية لمساندته في هذا الظرف الحرج. وخلال سنوات زواجه بعد التعويم كان يجدد آجال شهاداته محافظًا على عادته القديمة، إلا أن مسؤولياته الأسرية الجديدة مع إحساسه بوطأة الغلاء وتواضع الفائدة دفعوه لأول مرة للسحب من مدخراته الأصلية.
"منذ زواجي كسرت الشهادات الأصلية 4 مرات، انخفضت طبعًا قيمة المبلغ لنحو النصف، ومع تراجع الفائدة مرة أخرى، انخفض العائد لكنه ما يزال مفيدًا" بحسب محمود.
يعيش محمود في منزل ملك العائلة لذا فهو لا يتحمل تكلفة إيجار، ويبلغ إجمالي دخله الشهري نحو 8 آلاف جنيه، لكن مسؤولياته كانت تتزايد مع إنجابه فتاتين وتضاعف نفقات البيت الأساسية مع نفقات الدراسة على دخله المتواضع "ارتفعت تكلفة كل شيء، خلال الفترة الماضية، مثلا مصاريف إحدى بناتي على بند التعليم ارتفعت من 5 آلاف ونصف إلى 9 آلاف جنيه ثم إلى نحو 15 ألف جنيه هذا العام".
وفي مواجهة الغلاء، فكر شحاتة في تعديل طريقته في استثمار أمواله بأساليب عدة، مثلًا اتجه إلى الحصول على قرض بضمان الشهادات، على أن يخصم قيمة القسط الشهري للقرض من عوائد الشهادة، كذلك كان يلجأ أحيانًا للدخول في جمعية للمساعدة في المعيشة.
يقول شحاتة "أحاول الحفاظ على المبلغ المتبقي في الشهادة، وبعدما ينتهي القرض قد تساعد العوائد على المصروفات، أتمنى أن ترتفع أسعار الفائدة أيضًا، لأنه لم يعد ممكنًا أن ادخر من جديد .. دلوقتي كله رايح".
مواجهة الغلاء كمستثمر صغير
أما أمير رأفت، فاستطاع أن يستفيد من انخفاض الفائدة، لأنه بجانب كونه مدخرًا فهو أيضًا مستثمرًا.
أصبحت الشهادات البنكية، أساسًا في تعاملات رأفت منذ عامين، عندما بدأ عمله الخاص، وأسس شركته لاستيراد وتجارة الكشافات، بينما كانت قبل ذلك مجرد وسيلة لحفظ مدخراته.
كان رأفت يعمل في شركة دولية ويتقاضى راتبًا كبيرًا، أصبحت قيمته تصل إلى 25 ألف جنيه في الفترة التي تلت التعويم، وكان يوجه فوائض دخله لشراء الشهادات مرتفعة العائد.
وفي 2019 ، العام الذي شهد انخفاضات في أسعار الفائدة، قرر ترك عمله في الشركة وتأسيس شركته، ومن ثم بدأ في استغلال الشهادات في أعماله الاستثمارية "إذا احتجت لأموال يمكنني سحب حتى 80% من قيمة الشهادة كقرض "حساب مدين" وهي ميزة لأصحاب المشروعات بخلاف الأفراد العاديين". وبهذه الطريقة يشعر رأفت أنه خرج مستفيدًا من الفترة التالية للتعويم، ففي أوقات ارتفاع الفائدة كان مدخرًا، وفي أوقات انخفاضها كان مقترضًا ومن ثم كانت أعباء الاقتراض القائمة عليه في تراجع.