الموضة تتحرك مع الهواء من حولنا.
أكتب عن الموضة وسط بحر من التنظيرات الحديثة التي تدور حولها، وبالطبع حول جسد الإنسان، وهويته، بوصفها أحد محددات هذه الهوية. أصبح للموضة صبغة وجودية، تحتاج دومًا لتحليل وتفسير، لذا تتقاسمها الآن عدة تخصصات: علم الاجتماع والأنثروبيولوجي وعلم النفس والسياسة، والفلسفة بشكل عام.
أحاول هنا أن أنقل انطباعاتي عن نموذجين للموضة لفتا انتباهي بقوة في السنوات الماضية، أحدهما التصميمات المثيرة للدهشة والانبهار، للمصممة الهولندية الشابة إيريس فان هيربن، التي تعتبر الفستان عملا فنيًا خالصًا، مكانه هو المتحف، كباقي الأعمال الخالدة. أما النموذج الآخر فهو بيت الأزياء المصري نجادة، بواسطة ميشيل باستور وهو مصمم أزياء سويسري، وشريكته مصممة الأزياء اللبنانية سيلفيا نصر الله، وله خط إنتاج شديد التميز، يستلهم أغلب تصميماته من أرشيف الأزياء المصرية التقليدية.
ربما الذي يجمع بين النموذجين هو مفهوم "العودة" لمرجع به اتساق بين الإنسان وما حوله: كالعودة بجسد الإنسان، للطبيعة، أو رده لحالة كونية متسامية، كما عند إيريس فان هيربن. أما عند ميشيل باستور تجسد المفهوم، في استعادته لأنماط من الأزياء التقليدية والتصميمات وخامات الأقمشة، بكل ماتحمله من رمزية، كانت حاضرة بقوة في أرشيف الأزياء المصرية التي تخص المرأة في صعيد مصر وأريافها، كالجلباب والملس والحَبْرة والطرحة والتلي، بعد تطعيمها بقيم وأفكار حديثة تبعا للسياق الجديد لاستعمالها.
اختلف مفهوم العودة، باختلاف السياق الحضاري والفلسفي لكل منهما. فالعودة في تصميمات إيريس فان هيربن، تتم عن طريق منظومة من الأفكار الفلسفية، تخص جسد المرأة والرغبة وغيرها من المفاهيم، بجانب استخدامها المكثف للتكنولوجيا الحديثة والعلوم الأخرى، لتجسيد فكرتها الجمالية.
أما مفهوم العودة لبيت أزياء نجادة، فأكثر بساطة وتجريدًا، عبر استخدامه لأقمشة وتصميمات تقليدية، كانت مواكبة لحياة المرأة المصرية في الريف، ولم تتغير طوال قرون وقرون، فاكتسبت أصالة من صمودها أمام الزمن، فالموضة أي كان الطريقة التي تعبر بها عن نفسها، جزء من الثقافة التي تدور حولها. تصف مصممة الأزياء العالمية كوكو شانيل الموضة قائلة "الموضة ليست مرتبطة بالأزياء فقط. إنها شيء يتحرك من حولنا في الهواء، إنها النسائم التي تحمل معها الصيحة الجديدة، ستشعر بمجيئها وتشم عبيرها في الهواء وفي الشارع؛ فالموضة مرتبطة بالأفكار وأسلوب حياتنا، وما يحدث من حولنا".
الشكل يغير العاطفة
ولدت إيريس فان هيربن عام 1984 في بلدة Wamel الصغيرة، وتخرجت من معهد ArtEZ للفنون في أرنهيم بهولندا، وتقيم بشكل أساسي في أمستردام. تصل إيريس، كما تصفها الموسوعات، بين الموضة والتصميم والتكونولوجيا، والعلوم بشكل عام، وتشتهر باستعدادها للتجريب واستكشاف أقمشة جديدة مبتكرة، يتم تخليقها بمزج عناصر مختلفة ومتباينة كالفولاذ مع الحرير، أو برادة الحديد مع اللدائن، وأحيانا تقوم باستخدام تقنيات ثلاثية الأبعاد.
تصف فان هيربن فلسفتها في الموضة "الموضة بالنسبة لي، تعبير عن فن وثيق الصلة بي وبجسدي، تعبير عن هويتي مصحوبًا بالرغبة والحالة النفسية والثقافة. أحاول في كل أعمالي، أن أوضح أن الموضة هي عمل فني، وليست مجرد أداة وظيفية، أو تجارية، خالية من المضمون. لا أوافق على الشعار الذي يقول إن "الشكل يتبع الوظيفة"، على العكس، أجد أن الأشكال تكمل وتغير من الجسد، وبالتالي وظيفته، وعاطفته".
تستند في أعمالها إلى كل من الطبيعة، بجانب رؤى العالم المعاصر وتساؤلاته وتحولات الإنسان. لذا تحمل أعمالها أكثر من زمن، تبعًا لفكرتها المركبة. تعتبر أعمالها مشاريع فنية خالصة قابلة للعرض في المتاحف، أكثر من كونها ملابس صالحة للارتداء. حضور عناصر الطبيعة في فساتينها، ليس موجهًا للطبيعةفقط، ورد المرأة إليها، ولكن أيضًا بحثًا عن المنطق الذي يختفي وراء هذا النظام اللا مرئي الذي يحكم الطبيعة، وربما المرأة هي الممر للوصول لهذا النظام. تقول إيريس في حوار معها أجري عام 2020 في المركز الأوربي للأبحاث النووية CERN "نحن لا نتشارك مع الطبيعة. علينا حقًا أن نتعلم طرقًا مختلفة، أن نتعلم الإبداع بطريقة جديدة تمامًا".
كائنات فان هيربن الخرافية
في بداية حياتها كانت إيريس تتدرب على الباليه، ومن هنا أصبحت الحركة عنصرًا أساسيًا في تصميماتها. بدأت، بهذه الذاكرة القديمة، تُبدع أشكالًا جديدة لتجسيد حركة هذا الجسد. بالطبع كانت تهتم بالحضور الأنثوي للمرأة، ليس عن طريق الاهتمام بجسدها فقط، ولكن بالفضاء الذي يحوطه، "كانت تريد أن تحلق بالفستان خارج هذا الجسد"، كما تذكر في أحد حواراتها. وربما هذا الفضاء الذي تبحث عنه، هو ميراث ذاكرتها من دروس الباليه، فكل شخوص الباليه، كانت تتحرك وسط فضاء حكاية أسطورية تؤدى.
"الحركة، ضرورية جدًا، ولاتقل أهمية عن أي عنصر آخر في عملي، سواء خارج الجسد أو داخله. أحاول تحقيق الوضع الأمثل للتوتر والحركة، في التصميم، من خلال المزج بين الشكل والهيكل والمواد بطريقة جديدة".
مثلا هناك تصميم لفستان له أجنحة، كأنه مصمم لشخصية في أحد عروض الباليه. يشعرك التصميم بتناسخ الأجنحة، عبر الخداع البصري، من بعضها البعض، أثناء حركة العارضة، كأنها تطير. الحركة الميكانيكية للأجنحة أحالت لوضع الطيران، ليس بمسبب خارجي، ولكن بعلاقتها بالتصميم وحركة الجسد الذي يحملها.
تتولد الشاعرية هنا من العلاقة بين الحركة والأحلام وأفكار التسامي التي يحملها جسد العارضة. فالأجنحة رمز شديد الخصوصية والعمومية في آن، لو كان لحشرة، أو فراشة، فهناك فضاء واسع أتت منه، وتريد العودة إليه، فهي تحمل داخلها قانونا أكبر منها للتحول والانتقال.
أتصور أن هذا الفضاء المتسامي الذي تضع هربن المرأة فيه، جزء من مفهومها عنها، لذا تتجنب أي تمثيل سياسي لجسد المرأة، فتلجأ لاستعمال أدوات تعبير جديدة، تصوغ بها مفهومها الخاص عن المرأة، وجسدها ورغبتها، لوضعها ضمن هذا السياق الكوني المتسامي. يمكن من خلاله أن تكون فراشة، أو طائرًا، أو حتى كائنا بحريًا، فتصميماتها إما تمثلات جديدة متخيلة، أو تجسيد رمزي لمفهومها عن كونية المرأة.
الجسد ضمن هذا المفهوم جزء من المعجزة التي تدور من حوله، وليس هو البطل الوحيد. هو منزو بدون إخفاء، له حضور ولكن عرضي، هو حامل المعجزة، ولكن الإبهام من حوله هو الأساس، وباتجاه هذا الغموض والإبهام تتجه التصميمات والحركة من أجل كشفهما. لايكون للعري حضور طاغ، كما في باقي اتجاهات الموضة الحديثة، التي تتعلق بالرغبة. فإن كانت الطبيعة، مع إيرفن، هي الغاية، فلها منطق آخر خيالي، غير رغبوي، لتجسيدها وتمثليها في تصميماتها. كأننا داخل عرض باليه، من يلعب دور الشرير سيكون له أيضًا شاعرية في ملابسه وفي حركته، فنحن نعيش داخل حكاية أسطورية، لها أبعاد فلسفية، أبطالها هن العارضات.
عن طريق المواد التي تستخدمها كاللدائن الشفافة مثلًا، تضع الجسد في سياق شاعري شفاف، أو أن يخرج جناحان من الجسد، كحشرة كافكا، ولكن بدون مسخ بل بتسامٍ. أو تضع ريشًا للجسد، أو فروع أوراق شجر. فالطبيعة، وعناصرها، مكان التسامي، والصعود الجمالي بهذه الأجساد المتحفية التي ستصبح من كلاسيكيات الذاكرة، مثل حشر كافكا، أو أحدب نوتردام، أو بجعة تشايكوفسكي.
الفستان عمارة فلسفية
في أعمالها يتم المزج بين الجسد والطبيعة، ولكن هذه المرة، ليس بتجريد الجسد وتعريته من حداثة الملابس والاكتفاء برمزيتها، ولكن عن طريق تشييد ملابس من نوع جديد، لها طابع مفهومي، تعري الفكرة وليس الجسد.
يتحول الجسد/ التصميم إلى منحوتة أو بناء معماري، يمتزج في بنائه التقدم التكنولوجي مع رهافة الفكرة. فالموضة بناء معماري شديد التعقيد، يقترب في تعقيده من روح الثقافة والفلسفات الذي تحوط به في التاريخ الآوربي الحديث. فالفستان يتكون من أجزاء متناهية في الصغر، يتم تجميعها يدويًا. تذكرك هذه الطريقة بالخياط القديم، الذي يسهر على الفستان ويلبس نظارة تتدلى على أنفه ليتابع حركة الإبرة على القماش. ولكن المادة هنا ليست القماش، ولكن اللدائن والجلود ورقائق الذهب، والقطن والأسلاك، والحراشف المغناطيسية. كل هذا منتظم داخل ميكانيزم يتحرك، بحركة العارضة، فالأجزاء ليست ثابتة، ولكنها تتحرك تبعًا للشكل الذي ترمز إليه، أو تمثله في الطبيعة.
في مجموعة فساتين تسمي "التَبلُّر"، سعت إيريس إلى تصميم فستان يتدلى حول من يرتديه مثل دفقة من الماء. أرادت في البداية طباعة الفستان ثلاثي الأبعاد، لكن القيود التقنية جعلت من المستحيل تحقيق الشفافية التي تريدها، فاختارت في النهاية إنشاء العمل يدويًا بالكامل، باستخدام مسدسات الهواء والكماشة للتلاعب بمادة اللدائن ( البلوميرات) الشفافة وتثبيت جزيئاتها جنبًا إلى جنب، لتصنع شكل دفقة الماء.
النسخة الواحدة الفريدة
بعد انتهاء عروضها، يذهب الفستان للمتحف، بعد أن يتخلى الجسد عنه، أو يتخلى هو، بتساميه كجسد خالد، عن هذا الجسد الفاني الذي كان يحمله لساعات. لذا العمل الواحد يستغرق وقتًا طويلًا لإعداده مع فريق عمل كبير، لا تريد من وراءه المكسب الذي يعتمد على الإنتاج الواسع، الذي يتم من خلاله نسخ الموضة وتعميمها، والذي بدوره يلغي جوهرها الفني وفرادتها. لكن عملًا واحدًا فريدًا ومميزًا يخرج من تحت يدها يرفع كفة هذا الجانب الفني في الموضة، وليس التسويقي، الذي تدلف عنه دائمًا.
تثبيت المشهد
تسعى إيريس لتثبيت تلك الحركة التي تزوي سريعًا في الحياة اليومية، لتعيد تخليدها داخل الفستان. مثل المصور الفوتوغرافي الذي يؤبد لحظة ما، سواءً كان تجسد سيولة الماء، أو رفرفة جناحي إحدى الفراشات حول جسد العارضة. لتجسيد هذه الحركة شديدة البساطة، والصعوبة في آن، تستعين فان هربن بمتخصصين في استخدام التكنولوجيا. تستخدم ميكانيزم شديد الدقة لضبط الحركة. واشتركت مع فنان عالمي لخبرته في تجسيد ظواهر الطبيعة في أعماله الفنية. في أحد الفساتين استخدمت هربن حراشف مغناطيسية يتكون منها الفستان، فعندما تتحرك هذه القوة المغناطيسية باليد، تتحرك بدورها الحراشف، ويظهر الفستان كأنه يرقص.
الجسد هنا، ليس وحيدًا ولا منكفئًا على نفسه، بل منفتحًا على كل ما حوله، وجزء منه، فالجسد موضوع داخل سياق حركة وفضاء أكبر، مثل حركة الماء التي تجسدها على جسد العارضة باستخدام تقنية الأبعاد الثلاثية، فيظهر الجسد مغلفًا بحركة المياة الشفافة، التي ربما تكون موجة، أو مشهد سينمائي شديد الشاعرية. ولا ننسى العلاقة الأبدية بين الماء والجسد، كفعل خلق، وخروج الحياة ومعها الجسد، من الماء.
المواد المستخدمة والأفكار
هناك ابتكار للأفكار التي تخلق من خلالها تصميماتها، كأنها مشاريع فكرية، أو تجسيد لنظريات، فعلى سبيل المثال هناك مجموعة فساتين تسمى "الغزو الإشعاعي"، تجسد فيها الوجود المخيف والمدهش، في الوقت نفسه، للطاقة المشعة التي تحيط بالإنسان المعاصر. هناك مجموعة أخرى اتخذت لها اسما سيرياليًا "القرصنة البيولوجية"، تتساءل فيها سؤالًا جوهريًا: هل أصبحنا المالكين الوحيدين لأجسادنا، في عصر أصبح من الممكن فيه شراء براءات اختراع لجيناتنا، وتزداد فيه سهولة اختراق الحدود بين الخاص والعام؟ هناك مجموعة أخرى اسمها "أثر الفراشة"، تقصد بها ذلك التغيير الصغير في الظروف الأولية، الذي يؤدي إلى مجموعة غير متوقعة من التغييرات. هناك مجموعة أخرى باسم "نظرية الفوضي"، وغيرها وغيرها.
أما المواد المستخدمة فهناك تجريب لمواد وخامات جديدة مُصنَّعة، وغير تقليدية، كالسيلكون، وبوليمرات، ومطبوعات ثلاثية الأبعاد، سلاسل فضية، ألياف نباتية مصنعة، ألواح أكريليك شفافة معالجة بالليزر، رقائق ذهبية، بحانب الأقمشة والجلد والقطن والشاش وغيرها، وفي النهاية لا يعرف المشاهد ما يراه بالضبط: إنه أمام عرض خيالي متكامل بسبب طبيعة المواد الغريبة وطبيعة حركتها، أحيانًا تستخدام موادًا لها انعكاسات مع الضوء، يسبب خداعًا بصريًا، فيحيل الفستان لكائن متحرك مع الضوء.
شطحات ذات أصل فلسفي
أتعامل مع أعمال إيريس فان هربن كشطحات جمالية، لها أصول فلسفية، تتماهى فيها الحدود بين العلوم والتخصصات التي تشارك في صياغتها وتكوينها. هي صورة من صور عمل وحركية الثقافة الغربية، وبالطبع مخزونها المعرفي، في شكل تعاملها مع الجسد، والابتكار، والعلاقة بالطبيعة وما ورائها.
الشطح هنا يجد مرجعه داخل الثقافة، التي تبحث عن التسامي والاتحاد مع الطبيعة وكائناتها، والبحث فيما يقع وراءها. هناك خيال يتسامى داخل فضاء جديد. تسام ليس من أجل الاتحاد بكائن أعلى، كالتسامي الصوفي، بل لربط الإنسان بالحيوان بالطبيعة في وحدة واحدة، للخروج من وحدته القاسية في العالم الاستهلاكي، ومن هنا تأتي معاصرة تصميماتها.
الموضة لم تكن لها هذا الاهتمام في مصر، دخلت مباشرة في علاقتها بالتنظير الديني، أو الاجتماعي، فلم تستثر فكرًا نظريًا موازيًا يرصدها، ويتتبع تحولاتها وتغيراتها.
ربما هناك نظرة فلسفية أخرى للموضة، غير واضحة، تلحظها في هذا الاتساق القديم الحاصل بين الجسد والملابس التقليدية في صعيد مصر وأريافها. كانت هذه الملابس التقليدية لها سمة مجردة وزخارف مستمدة من البيئة المحيطة وألوانها. كانت الجلابية، على سبيل المثال، تشكل للمرأة هذا الفضاء الحميم والمتسع الذي تتحرك فيه براحة تتناسب مع وظائف الحياة اليومية، فجاءت الملابس لتجسد، بصورة رمزية، هذا الاتحاد مع الفضاء الخارجي/ الطبيعة، عبر هذه الملابس الفضفاضة شديدة التجريد.
تقول الدكتورة سامية قدري، أستاذة علم الاجتماع وصاحبة كتاب الجسد بين الحداثة وما بعد الحداثة، عن علاقة الموضة بجسد المرأة في مصر، في حوار لها بجريدة الأهرام عام 2013، إن "جسد المرأة دفع الثمن في صراع الموضة، والربط بينها وبين الإباحية والخروج علي الثوابت الاجتماعية لدي فئات اجتماعية وشرائح حددت ضوابطها وقواعدها وحددت نمط العلاقة المطلوب للمرأة من خلال الزي. وهنا تحول الزي إلي هوية، وطالما هو يمثل هوية اجتماعية، تصبح له قيمة اجتماعية رمزية لدرجة تتجاوز مجرد ذوق من ترتديه أو رغبتها، فهو وسيلة مقاومة للحفاظ علي الهوية وتوضيح علاقة الأنا بالآخر، وهو يعكس مدي التأزم الذي تعيشه النساء المنشطرات بين الطاعة والانصياع، كما أن له دلالة أخلاقية تقسم الفضيلة والأخلاق حسب الجنس وربطها بالتدين، ويصبح الحجاب شعارا للعفة وتجريد السافرة من الفضيلة".
يتضح من هذا أن الموضة في مصر سُيَّجت بمجموعة أفكار وضعتها في مكان المسائلة الأخلاقية دومًا، ربما ماجعلنا نفتقد تطورها، أو نشوء علم يختص بها، كما حدث في الغرب. لذا كان الرجوع لأصل ما، له جمالياته، وتقاليده، وقبوله، أحد الحلول لربط أفكارنا بملابسنا، بالطبيعة، حتى ولو كانت هناك قفزة في الزمن للوراء، وهو ماكان أحد اختيارات بيت أزياء نجادة.
تجربة نجادة
أسس مصمم الآزياء السويسري ميشيل باستور وشريكته في الدار اللبنانية سيلفيا نصر الله، والاثنان يعيشان في القاهرة، بيت أزياء نجادة عام 2000. يعود الاسم لقرية قديمة في محافظة قنا تشتهر بأنوال النسيج اليدوي. المفارقة طبعًا أن يكون المصمم الأجنبي، هو من يولي اهتمامه وينشيء تصميماته على الملابس الشعبية والموضات التقليدية في الصعيد والريف.
اكتشاف أهمية هذه الملابس، وتحويلها إلى موضة، ولكن نخبوية؛ جاء على يد نساء طبقة المثقفين اليساريين والأرستقراطية الثقافية في القاهرة، بداية من الخمسينيات والستينيات، كتعبير عن اعتزاز قومي بالملابس الوطنية. ولكن بالطبع يقف وراء تأسيس بيت أزياء نجادة، الكثيرون من أصحاب الأنوال اليدوية في قرى نجادة، مع أساتذة متخصصون في الصباغة من كلية الفنون التطبيقية، وقابلت بالفعل بعضًا ممن ساعدوا المصمم السويسري وفتحوا له أسرار المهنة والتصميمات.
قام ميشيل، وشريكته سيلفيا نصر الله مصممة الأزياء التي درست في باريس، باستخدام تراث قرية نجادة من الأقمشة والزخارف البيئية، ولكن بوعي معاصر مجرد وبسيط، فالخط الأصلي للتصميمات مستوحى من الجلابية، ذات الأكمام الواسعة، وهي ثوب المزارع المصري حتى الآن. أيضا ألهمت الرحلات التي قام بها ميشيل ونصر الله، عبر ريف آسيا، خامات وأفكارًا تم إضافتها لتصميم الجلابية.
في مقابلة تمت معه عام 2011 لصحيفة نيويرك تايمز، يقول ميشيل باستور "كانت فكرتي هي العثور على ثراء التصميم التقليدي وجعله حديثًا وذا صلة بالحاضر، ثم يضيف "بالنسبة لي، كانت الفكرة أن أكون حديثًا بمعنى بدائيًا".
تضيف شريكته في حوار لها مع مجلة أسرتي، عن المشروع وأهدافه "استخدمنا الأقمشة المصرية المأخوذة من التراث مثل المَلس والملاية، كما أننا استخدمنا الخيامية، وعملنا على إدخال خامات تراثية في عملنا، ومنذ عام 2000 وإلى الآن نستخدم الأقمشة الهندية التي تخدم نفس خط الانتاج الخاص بنا، وسافرنا إلى تركيا كونها إحدى المحطات المهمة التي تأتي إليها المنسوجات من دول في آسيا الوسطى مثل أوزبكستان وتركمانستان وغيرهما".
اليسار والموضة
في مصر كنا نعايش الموضة كتقليد وليس كابتكار. كانت الموضة متماهية مع جزء من حياتنا اليومية، ثم حضرت عين أخرى، داخلية أو خارجية، لتضعها في مكان جديد، نخبوي. ثم جاء اليساريون المصريون، وسيدات الانتلجسنيا الثقافية في الخمسينيات والستينيات لتتبنى هذه الملابس التقليدية للنساء في مواجهة الملابس الغربية الحديثة، بل ويقمن بتصميم أزياء مصرية بأنفسهن، مثل الفنانة رعاية النمر، والباحثة في التراث شهيرة محرز، ونعمت كامل، على سبيل المثال.
ارتبطت الموضة بالهوامش الثقافية. داخل مطبخ هذه الاتجاهات خرجت أفكار التطوير للمزج بين القديم والحديث، كانت هذه الممارسات تتم داخل مشروع قومي متشعب، أخذ مبادرته هؤلاء المثقفون والمثقفات، ولكنه كان يتحرك في دوائر ضيقة وغير مؤثرة. مع هذه الدوائر اشتهر الجلباب والشيلان والملس والفركة السوداني، والملاءة الإسناوي (الحبرة)، والفساتين التللي الموشاة بخيوط الفضة. تشعر أن الجسد تحول لمتحف للدفاع عن الهوية بشكل ما. لا أنسي عندما قابلت، للمرة الأولي، المخرجة التسجيلية عطيات الأبنودي، كانت تحمل على جسدها ووجهها ويدها، الملابس التقليدية والحلي الفضية القديمة، مع تسريحة شعر في غاية البساطة، كأن مكانًا آخر بعيدًا، يسير بصحبتها في المدينة.