برخصة المشاع الإبداعي pixabay
تجاوز الاستهلاك السلع المادية إلى العواطف والعلاقات الإنسانية

مشاعر First use.. استئجار الملابس والعواطف المؤقتة

منشور الخميس 29 ديسمبر 2022

استعدادًا لحفل زفاف أخي، ذهبت أبحث مع شقيقاتي، بطبيعة الحال، عن فستان سواريه يناسب الحدث، ولمّا كنت أرفض استئجار واحد ارتدته عشرين أخت عريس وعروس قبلي، نصحتني شقيقتي الصغرى بالـ"First use"، وحين جربت الأمر في أحد أتيليهات الإسكندرية أدركت أنني سأرتدي الفستان ويلامس جسدي ويحمل رائحتي لمرة واحدة، مرة واحدة فقط، فرفضت القيام بذلك!

فكرة الفرست يوز، أول لبسة، وتعني أن تستأجر النساء "الفستان" جديدًا وتكون أول من تلبسه، بالتالي تكون قد استخدمت في المناسبة المقصودة ملابس جديدة بأسعار أقلّ من ثمن شرائها، ليعود الأتيليه لتأجير الفستان مرات أخرى، كقطعة مستعملة.

عزز من رفضي للفكرة المبلغ الذي يتكون من أربعة أرقام نظير استئجاره، واتهمتني أختي بأنني طفلة لا تكبر، لا تستطيع التخلي عن أشيائها. وطوال الطريق إلى المنزل ومع اهتزازات الترام المتتالية؛ أفكر هل امتلاكنا للأشياء فعلًا نزعة طفولية، أم أن التعامل مع اﻷمر على ذلك النحو يحيل مشاعرنا وعواطفنا لأشياء استهلاكية؟

أشياؤنا تقع تحت سيطرتنا، موجودة على الدوام لدينا، ويمكننا الاعتماد عليها وقتما نحتاجها، نثق أنها دائمًا هنا، والفرد منّا ذو حاجات لا نهاية ولا إشباع لها، ابتداء من الحاجات البيولوجية الأساسية إلى السيكولوجية والاجتماعية، فوعي الإنسان بحاجاته ومشاكله يحول بينه والشعور بالإشباع والاكتفاء، حتى وإن جرى إشباع حاجاته الأساسية، فهو يتطلع للرفاهية.

تبدو الفكرة اقتصادية، لكنَها قد تحمل في داخلها تصورات ثقافية مضمرة، بتعبير النقد الثقافي، مفادها الجميع على نحو ما يقع تحت طائلة الاستخدام لمرة وحيدة أو لمرات قليلة، فهل يمكن أن نتعامل مع مشاعرنا وعواطفنا كحالة مؤقتة؟

تراتبية اجتماعية

الاستهلاك عمومًا ليس مجرد سلوك مفيد لفرد ينتهى بالتمتع والشعور بالرضا لرغباته، إنّما قضية اجتماعية وسيكولوجية، يمكن أن تكشف عن الكثير من الأنساق الإيديولوجية. مثلًا تعرب ولاء أحمد التي تعمل محاسبة، عن أمنيتها "لو عندي الإمكانية المادية أأجر لكل فرح فستان جميل، وأطلع في كل فرح بـ look  مختلف ليه لأ؟ هعمل كده فورًا، وخصوصًا لو نفس المعازيم موجودين زي أفراح الأهل مثلًا، بدال ما اشتري فستان أكرر لبسه في كل المناسبات".

يتقاطع كلام ولاء مع حديث الاقتصادي والسوسيولوجي الأمريكي ثورشتاين فبلن،  عن نظرية الاستهلاك التفاخري، وتستند على تحقيق المتعة من خلال التباهي وتبذير الثروات والسلع[1]، كما ترى تلك النظرية في الاستهلاك مؤسسة اجتماعية مهمتها دلالة الدرجة الاجتماعية، إذ "لا نستهلك أي شيء لذاته أو لقيمته الاستخدامية لكن من أجل النفوذ والوضعية والدرجة الاجتماعية التي يوفرها"، حسبما يرى الفيلسوف الفرنسي جيل ليبوفتسكي.

ويرى ليبوفتسكي في كتابه مملكة الموضة أن السباق على الاستهلاك، وحمى الصيحات، "فستان لكل مناسبة"، لا تجد مصدرها في دافع المتعة؛ بل تنفعل تحت تأثير المنافسة الوضعية، فوراء الإشباع التلقائي للاحتياجات ينبغي أن نرى في الاستهلاك وسيلة للتراتبية الاجتماعية، وأن نرى في الأشياء مكانًا للإنتاج الاجتماعي للفروق والقيم الوضعية.

إذن في اللجوء إلى الفرست يوز، كما هو تحايل ثمن الشراء، فإنه يشير على نحو ما إلى تأكيد المستأجر على مكانة اجتماعية أعلى، والتعطش للاستعراض، إذ نستهلك كنوع من التنافس وحرب الرغبات، التي غالبًا يخسرها الفرد أمام ظروفه "أفصل فستان يخصني، وممكن ألجأ له؛ لو ظروفي المادية مش قد كده"، تقول ولاء.

لا تختلف مروة المصري كثيرًا عن ولاء، إذ تتفقان على إيجار first use، أو بقول مروة التي تعمل أخصائية نفسية "يكون جميل وشيك وياخده الاتيليه كأني ببيعه له، بدال ما أعمل فستان لي برضه هلبسه مرة واحدة وأركنه في الدولاب".

أمّا إيمان رجب تفضل أن يكون فستانها دون الاكتراث بمرات استعماله، "يبقى بتاعي وألبسه أكتر من مرة، وهنتفع به أكتر، ويبقى عندي فستان سواريه في دولابي لأي مناسبة مفاجأة، ولو خايفة أن نفس الناس تشوفني به أكتر من مرة، على الأقل هيبقوا عارفين أنه فستاني مش مأجراه".

اللجوء إلى الفرست يوز تحايل على اﻷوضاع الاقتصادية وتأكيد المستأجر على مكانة اجتماعية أعلى

عواطف مؤقتة

تتفق أغلب اﻷحاديث السابقة على إبراز جانب التباهي الاجتماعي، إما بفستان جديد كل مناسبة أو التفاخر "هذا فستاني وليس إيجارًا"، فيما يمكن أن نجر الحديث إلى مساحة أخرى، تبدو غائبة، وهي مرتبطة بالذكريات واﻷحاسيس، فهل تعزز عملية استئجار الملابس تحديدًا "العواطف المؤقتة"؟

ارتداء فستان في مناسبة سعيدة كالزواج، يخلف ذكريات ومشاعر وعواطف تحتفظ بها أدمغتنا، علاوة على ذلك، يعتقد بعض متخصصي علم النفس السلوكي أن العواطف تلعب دورًا في تحديد ما إذا كان بإمكاننا تذكر حدث ما من عدمه، كما أن الحالة المزاجية نفسها التي كنا نشهدها عندما خضنا ذلك الحدث، غالبًا ما يكون لها تأثير إيجابي على فرصنا في تذكر تفاصيل محددة تتعلق به.

إذًا المناسبة السعيدة تترك ذاكرة من المشاعر والعواطف، وربما خلق فستان تلك المناسبة أحاسيس ظلت محفورة في داخلنا، تتمظهر على نحو جلي كلما رأينا الفستان كإشارة على التذكر، اﻷمر الذي لا يتوفر في حالات الاستئجار، ما يعني أن ذاكرتنا العاطفية قد تقع فريسة لـ"الاستهلاك الظاهري" كما هو حال الفستان، علامة الرفاهية المظهرية، بتعبير فبلن.

نشير هنا إلى أن ثقافة المستهلك هي أحد المجالات الرئيسية التي يظهر من خلالها عناصر التغيير الاجتماعي في الحياة اليومية، وكما أنّها أحد أشكال الثقافة المادية التي يقودها السوق، والتي خلقت علاقة بين المستهلك والأشياء التي يستهلكها، فالاستعمال ليس مجرد استهلاك لمنتجات تجارية، إنّما يمكن من خلاله أن يعزز الفرد قدرته على التعبير عن هويته، وربما تعكس قيمًا وأوضاعًا معينة، وتدل على قوة الرأسمالية في إعادة إنتاج معايير المجتمع.

لذة فورية

يرى  عالم الاجتماع البولندي زيجمونت باومان، أن ما يحكم العلاقات في مجتمع الاستهلاك هو التعامل مع العاطفة بالكيفية نفسها التي نتعامل بها مع السلعة، عالم من الصلات العابرة التي يمكن الاستغناء عنها كأي منتج، وهي الصلات، أو العلاقات، التي يطلق عليها علاقات الجيب العلوي، كناية عن سهولة الاستغناء عنها بعد إشباع الاستهلاك.

زيجمونت باومان

ويتناول باومان الحياة العاطفية، فيدخل إلى عالم الصلات العابرة وكل الصلات يمكن الاستغناء عنها مثل منتج، فالعين تمتد دومًا إلى ما وراء اللحظة، وتتطلع إلى ما يجري تزيينه أنه الأفضل، كما أن العلاقات في الواقع أصبحت تُقاس بمقاييس الواقع الافتراضي، أي أن ضغطة زر واحدة على "delete" أصبحت تُستعمل في الحياة الحقيقية؛ كتعبير عن سرعة إنهاء العلاقات وكأنها لا شيء.

وبسبب استشراء معاني الاستهلاك يتسرب الملل، ويستتبع ذلك بحثًا دائمًا عن اللذة الفورية قصيرة الأجل، ففي ظل تنامي السيولة في كل شيء، وتحوّل المجتمع إلى مجرد "تجمّع بشري"، تحوّل الإنسان من "وضوح العلاقات الاجتماعية" إلى "غموض الصلات العابرة".

تكشف إيمان أنها "مؤمنة بفكرة حتى يفرقنا الموت، لكن مؤمنة أكتر أني ما أبقاش لوحدي، ممكن أدخل علاقة حب رومانسية حتى لو أنا مش متأكدة من النهاية السعيدة، عشان ما أبقاش لوحدي، وأديني سمعت لي كلمتين حلوين، ويبقى عندي ذكرى لوقت جميل".

قد يكون الاستهلاك تجاوز السلعة المادية إلى العواطف والعلاقات الإنسانية، والافتقار إلى الديمومة، والبحث عن السعادة والترف المؤقت، لكنني احتفظ بشال صوفي صنعته لي جدتي، بحبٍ وصبر وطيبة عندما كان عمري سنة ونصف، وما زال يحمل عبقها، وجلابية بيت موَردة؛ احترق جزء منها وأنا ارتديها في الخامسة، احتفظ بها كذكرى لنجاتي من حريق مؤكد، ولا يزال في دولابي وقلبي متسع لأشياء وحكايات، لا تخضع لفكرة الاستخدام الأول لمرة واحدة فقط.


[1] جون سكوت و جوردون مارشال، موسوعة علم الاجتماع، ت- محمد الجوهري وآخرون، المركز القومي للترجمة، المجلد الثاني، صـ 320.