عند زيارتي الأخيرة لمنزل والدتي وجدت مفاجأة صغيرة بانتظاري حيث عثرت على ألبوم صور يوثّق حفلات زفاف العائلة، وجدت فيه صورة أختي خلال حفل زفافها، في منتصف التسعينيات، وكانت ترتدي فستانًا بأكمام منتفخة وتطريزات معقدة وعلى رأسها تاجًا، أما أمي فكانت ترتدي في زفافها فستانًا بوهيميًا ومعه طرحة رأس مرتفعة، وارتدت جدتي التي تزوجت في الأربعينات فستانًا بأكتاف عالية وذيل طويل مزين بتطريزات هادئة بمنطقة الوسط.
لاحظت على الفور الاختلاف الهائل بين فستان زفاف جدتي وأمي وشقيقتي، فمنذ الأربعينات وحتى الآن، تغيّر شكل الفستان وطرحة الرأس وطولها، واختلفت معهم أيضًا قصات الشعر، لكن الشئ الوحيد الثابت كان لون الفستان الأبيض، وهو ما جعلني أفكر إن كانت تلك التغييرات في عائلتي فقط أم أنها كانت على مستوى عالمي وذهبت بالتفكير إلى سؤالًا أكثر دقة؛ هل كان فستان الزفاف أبيض اللون دائماً أم ذلك شيئاً حديثاً؟
قديمًا كانت ترتدي العروس في حفل زفافها الفستان المفضّل لديها، وهذا يعني أن الفستان قد يكون قديماً، ارتدته قبل العرس في بعض المناسبات ويمكن ان ترتديه في مناسبات أخرى بعد العرس. ولم يكن شرطَا أن يكن له لون معين.
التغير الحقيقي الذي غير تاريخ الزفاف يمكننا توثيقه أثناء زفاف الملكة فيكتوريا ملكة بريطانيا العظمى خلال منتصف القرن التاسع عشر، والتي رفضت أن ترتدي ردائها الملكي أحمر اللون وطلبت تصميم رداءً جديدًل باللون الأبيض وأشرفت بنفسها على تصميمه، وتخلّت عن ارتداء تاجها واستبدلته بإكليل من زهور برتقالية اللون وهو ما صار فيما بعد ثورة على التقاليد المعهودة في الزفاف الملكي.
لكن لم تكن الملكة فيكتوريا هي أول من ارتدت اللون الأبيض خلال حفل زفافها، فمن قبلها الملكة ماري، ملكة اسكتلندا، ارتدت الأبيض في عام 1558، لكن نسب الفضل للملكة فيكتوريا بسبب نشرت المجلة النسائية الأميركية الشهيرة Godey's Lady's Book بعد زفاف الملكة فيكتوريا بسنوات أن اللون الأبيض يعتبر دليل على النقاء والبراءة والزواج للمرة الأولى، ولكن هذا الاعتقاد يعد خاطئًا، إذ أن الأبيض يعتبر جالبًا للحظ السعيد في بعض المعتقدات لكن اللون الأزرق هو الدليل المعبّر عن النقاء والبراءة.
كانت العروس، في ذلك التاريخ، ترتدي أي لون أو حتي ترتدي أقمشة متعددة الألوان أو مزركشة فيما عدا اللون الأخضر الذي كان يعتبر جالبًا لسوء الحظ والمعاناة وفقًا لنفس المعتقدات. أما الأغنياء فقد حرصوا على ارتداء القماش الأبيض في تلك الحقبة وذلك لإظهار مدى ثرائهم، حيث كان يتم ارتداؤه مرة واحدة فقط وذلك لصعوبة تنظيفه، لأن تنظيف الملابس في هذا الوقت كان يتم بطريقة يدوية وبدون استخدام مواد مبيضة.
وبعد زفاف الملكة فيكتوريا أصبح اللون الأبيض موضة جديدة بين عرائس طبقة الأثرياء، وبالتدريج أصبح العامة يرتدون الأبيض خاصة بعد عام 1900، لكن لكل عرق من الشعوب ألوانًا مفضلة.
فبعكس هذا، فإن فساتين الزفاف الحمراء لازالت متصدرة في قارة أسيا وتحديداً في الهند والصين إلى يومنا هذا، وهو لون يجلب الحظ السعيد والسعادة لمن ترتديه، وترتدي عروس اليابان الكيمونو الملون الخاص بها يوم العرس، أما العرب فكانوا ممن لا يلتزمون بلون معين حيث كانت تختار كل عروس اللون المفضل لها.
ومع بداية فترة العشرينيات شهد العالم حالة من الازدهار والرخاء على الصعيد الاقتصادي والسياسي والاجتماعي كنتيجة لانتهاء الحرب العالمية الأولى. وساهمت تلك الحالة في تحسن عدد من الصناعات مثل صناعة السينما والموسيقى وصناعة السيارات.
وتعد هذه الفترة هي بداية استخدام الكهرباء في المنازل والاعتماد على الأجهزة الكهربائية مثل الراديو والغسالة والمكنسة الكهربائية فسهلت حياة المرأة، ووفرت لها الوقت كي تتفاعل مع المجتمع، فأصبحت المرأة أكثر تحررًا من الماضي والتحقت بالتعليم الجامعي وحصلت على حقها في الانتخاب في بعض الدول، ولتسهيل حركتها احتاجت إلى أزياء أكثر عملية فتخلت عن ارتداء الكورساج واستبدلته بالملابس الفضفاضة وأصبحت الفساتين أقصر مما كانت علية سابقًا، وقصت شعرها لتواكب الموضة الجديدة.
وكان طبيعيًا أن يشمل هذا التغيير شكل فستان الزفاف فأصبح أبيض اللون وقصيرًا، وعلى عكس الشائع، فإن طوله يصل إلى أسفل الركبة مباشرة وليس فوقها، وتخلله الكثير من التفاصيل، وكان انسيابي الشكل لا يبرز تفاصيل الجسد.
بحلول فترة الثلاثينات تغير العالم خلال "حقبة الكساد العظيم"، وبالطبع اختلفت شكل الحياة الاجتماعية نتيجة لفترة "الكساد العظيم" واختلف معها شكل الأزياء وأصبحت فساتين الزفاف أكثر عملية وأقل في التكلفة حيث استبدلت الحرائر الطبيعية المكلفة ببديلتها الصناعية الأرخص، وأصبحت الفساتين مقفولة الصدر وبأكمام طويلة ذات طابع متحفظ بعض الشيء.
امتد ذلك التقشف إلى فترة الأربعينيات ومع الحرب العالمية الثانية لم تملك العديد من العرائس المال لشراء فستان زفافهن، فكن يستعرن الفساتين لقضاء مراسم الزفاف بها ثم يعيدونها لأصحابها مرة أخرى، واستخدمت بعضهن أقمشة الستائر والمفروشات في صنع فساتين زفافهن.
وارتدت بعض العرائس بسبب الحرب سترات وتنانير طويلة وأصبحت طرحة الرأس أطول من الفترة السابقة عليها، وعادة كانت تحمل العروس في يدها باقة من زهور الأقحوان.
وتعد الملكة إليزابيث هي أشهر عروس في هذه الحقبة، والجدير بالذكر هنا أنه على الرغم من كونها أميرة إلا أنها كانت تستخدم القسائم التموينية للحصول على خامات تصنيع فستانها، وكان فستانها من الساتان المزخرف، وكان جماله بمثابة رسالة إن الفترة القادمة ستكن أفضل بعد الحرب.
نتج عن انتهاء الحرب العالمية الثانية مشروع لإعادة إعمار أوروبا سمي بـ"خطة مارشال" فدعمتها الولايات المتحدة الأمريكية بـ13 مليار دولار من عام 1948 إلى عام 1951 وخلق ذلك سوق أمريكي جديد على أرض أوروبا ساهم في خلق حركة اقتصادية جديدة نتج عنها حالة من الاستقرار والازدهار الاقتصادي والاجتماعي.
وانعكس هذا التطور على فترة الخمسينيات حيث شهد العالم تطورات في عالم الصناعة والتكنولوجيا مرة أخرى فظهر التليفزيون وغسالة الأطباق والتكييفات وماكينات الخياطة الصغيرة لتسهيل الحياة المنزلية.
وعاد الرجال إلى المصانع، وبرجوع المرأة إلى المنزل أتيح لها مرة أخرى الوقت والرفاهية لتغيير مظهرها والاعتناء بأناقتها مرة أخرى، وساهمت العديد من دور الأزياء في صنع صورة جديدة عصرية لامرأة الخمسينيات منهم دار أزياء ديور التى برعت في إبراز الشكل الأنثوي للمرأة.
وعبّر فستان الزفاف في تلك المرحلة عن هذه التغييرات، حيث تميزت فساتين هذه الفترة بخط خصر محدد وصغير بتنورة كاملة أو ما سميت الباليرينا، واستخدمت الأقمشة الناعمة والدانتيل في صناعة معظم الفساتين، فأصبحت متاحة للجميع وبأسعار معقولة.
وجاءت الستينيات لتقلّب صفحات التاريخ في حركة اجتماعية هزت أنحاء العالم، حيث شهدت مظاهرات الطلاب في فرنسا وميكسيكو سيتى وسان فرانسيسكو وهي حركات اجتماعية سعت لوقف العنف والمطالبة بحقوق السود في الولايات المتحدة الأمريكية، وظهرت أيضًا الحركات النسوية والهيبز، فكانت بداية لاكتساب الحريات الفردية وأثرت بطبيعة الحال على الموضة العالمية فتغيرت الأزياء بشكل سريع ومختلف وأكثر تحرراً عن أي حقبة سابقة فارتدت النساء لأول مرة فساتين قصيرة وظهرت التنانير التي عرفت باسم "المينى جيب".
واختلفت فساتين هذه المرحلة اختلافًا جذريًا عن فترة الخمسينات حيث انتقلت من إبراز الشكل المثالي لجسد الأنثى إلى شكل أكثر راحة وعملية باستقامة دون تحديد لخط الوسط أو مايعرف باسم فستان البيبي دول. وهذا الشكل تحديدًا هو ما يميّز فستان زفاف هذه الحقبة القصير منه أو الطويل، وكان يصنع عادة من الساتان والحرائر البراقة، واستبدلت عرائس هذه الحقبة التطريزات المبالغ فيها والاكسسوارات بالزهور الصغيرة.
شهدت السبعينات تغييرات اقتصادية كبيرة أولها بعام 1973 أثناء حرب مصر وإسرائيل وكنتيجة لضغط الخليج العربي على أمريكا والغرب بشكل عام ارتفع سعر البنزين ومشتقاته، ومع ارتفاع أسعار المحروقات ارتفعت أسعار كل السلع الأخرى، وارتفع سعره مرة أخرى بعام 1979 نتيجة للثورة الإيرانية.
وبسبب زعزعة الاقتصاد وتغيرات أسعار المواد المستخدمة فى صناعة فساتين الزفاف اضطرت العروس لارتداء ألبسة بسيطة غير مبالغ في تزيينها، فظهرت الفساتين البوهيمية الواسعة، وأخرى بأكمام ساقطة على الكتف، أو منتفخة متخذة شكل الجرس وأصبحت الفساتين طويلة مرة أخرى وارتدت عروس تلك الحقبة تاج مصنوع من الزهور أو اكسسوارات صغيرة للشعر، كما كانت القبعات رائجة جداً في هذه الفترة وارتدتها Bianca Jagger في زفافها.
وشهدت الثمانينات نموًا اقتصاديًا حيث الاستثمار العقاري وشراء أسهم الشركات التي كانت أسرع وأفضل طريقة للربح بدلًا من استثمار حقيقي يأتي بأرباح مع الوقت.
ونتج عن هذا النمو الاقتصادى ظهور النزعة الاستهلاكية للأعراس حيث المبالغة والمغالاة في كل شيء، فتميزت فساتين زفاف هذه الفترة بكبر الحجم وكانت بذيول طويلة وأكمام منتفخة للغاية، وتميزت طرحة الرأس بطولها المبالغ به وكان التاج أعلاها مبالغًا في حجمه وأيضًا وفي عدد الماسات به.
يسند عادة النمو الكبير بفترة التسعينيات لانتشار الإلكترونيات والتكنولوجيا، وتعد تلك الفترة هي البداية الحقيقية للتصفح والتسوق الإلكتروني، حتى وان كان صعب جدًا أوحتى مستحيل في بعض البلدان بسبب سوء البنية التحتية وضعف إرسال الانترنت.
وتتميز أزياء التسعينات بالعملية وعدم المغالاة على العكس من الفترة السابقة عليها، فأصبحت فساتين الزفاف ذات أكمام أصغر وأقل نسبياً في الحجم وفي الطول أيضًا.
وبفضل العولمة أصبح التسوق الإلكتروني أسهل وأسرع في الوقت وأقل في التكلفة بخامات أفضل من الخامات المصنعة محليًا بمعظم الأوقات، كما ساهمت بخلط حضارات وثقافات مختلفة مما أتاح اختيارات أكثر لكل عروس.
ولهذا فمنذ بداية الألفية الجديدة أصبحت فساتين الزفاف لا تتقيد بلون واحد وارتدت العديد من العرائس ألوانًا مختلفة في زفافهن وأصبح ثوب الزفاف بسيطاً وأنيقاً ويغلب عليه رقة التفاصيل.
وفي نهاية المطاف نرى أن شكل فستان الزفاف يرتبط ارتباطًا وثيقًا بحركة المجتمع السياسية والاجتماعية ويتشكل حسب الظرف الاقتصادي الذي يمر به فهو ليس مجرد رداء لذلك اليوم المميز فقط بل هو شاهدة على عصره.
ومهما كان شكل فستان الزفاف أو حجمه وأي حقبة ينتمي إليها فأهم شيء هو أن يكن أقرب إلى شخصية من ترتديه ليبرز جمالها الحقيقي ويجلب لها السعادة في هذا اليوم المميز.
وأنت ما كان شكل فستان زفافك؟ وإذا كان زفافك قريبًا فأى فستان ستختارين؟ ومن أى حقبة تفضلينه؟ ولماذا؟