وضعتُ قميصي على الطاولة الزجاجية، فتناول الخياط شريط المتر ليقيسه، ثم ناقشنا المقاسات المناسبة لتعديله؛ وجهه الهادئ وابتسامته المعتادة، لا يشيان بالتوتر أو الامتعاض أو الاحتجاج، لكن ذلك كله تغير فجأة، حين مرت بجانب الدكان فتاة ترتدي جينز ضيق، ليعلق بنبرة بدت غاضبة "خِلْتُهَا عفيفة وبنت الناس، هل ترى؟ انظر إلى لباسها؟ من اليوم فصاعدًا لن أحترمها أو أستقبلها في محلي".
لم يصدمني موقف الخياط، بقدر ما فاجأني تغير ملامحه المنشرحة المعتادة إلى أخرى حانقة بسبب موقف عابر، لا يستدعي كل ذلك الاحتجاج، استأنفت كلامي حول مقاساتي للقميص، لكنني وقفت موقف البياض تجاه كلامه، لم أعلق، فقط سكتُ.
أتفهم وأعي نظرة الخياط الجاهزة تجاه اللباس وتغيراته، المنعكسة من إرثه الثقافي القروي والمحافظ، كما يكشف موقفه جزءًا مخفيًا من تركيبتنا المعقدة، كأفراد يعيشون داخل مجتمعات مركبة، تصنف وتقيم الآخرين ضمن خانة اللباس بشكل أخلاقي جاهز، لا كاختيارات حرة تخص صاحبها.
لا ألبس ما أشاء
اعتادت حسناء، الطالبة الجامعية والمقيمة في تطوان (شمال المغرب) ارتداء غطاء الرأس مع فستان طويل، أنيق وواسع، لكنها وفي حدود ضيقة، وبعيدًا عن أنظار أفراد أسرتها، كانت ترتدي جينز ضيق على مستوى مؤخرتها، تخفيها بلوزة ذات أكمام طويلة. نظريًا، لا تجد الفتاة العشرينية غضاضة في أن يأخذ لباسها ذلك التنوع دون التخلي عن غطاء الرأس، لكنها في الواقع، ليست مُخَيرة بشكل تام، تقول حسناء للمنصة "أحب هذه التشكيلة من الملبس.خاصة في صورتها العصرية كارتداء الجينز، لكن كثيرًا ما كانت ردود أفراد أسرتي المحافظين سلبية تجاه هذا الشكل الذي يصفونه بالمنفلت، رغم أنني أراه محتشمًا".
لا تلبس حسناء ما تشاء بقدر محاولتها التوفيق بين ذوقها الشخصي في الملبس بما لا يتعارض مع وصاية مجتمعها المصغر، هذا المعطى تجسد في موقف حصل لها مع أفراد أسرتها، تقول "في إحدى المرات، منعني أخي من الذهاب إلى الجامعة وتكرر الأمر مع أبي نفسه، إذ خيراني إما بالالتزام بملبس كامل الاحتشام دون ارتداء الجينز، أو المكوث في المنزل. شخصيًا، لا أريد أن أخسر عائلتي بسبب "مشكل بسيط" كهذا خاصة أبي، لذا أحاول أن ألبس ما أشاء جزئيًا بما لا يتعارض مع آرائهم".
في كتابها المكشوف والمحجوب.. من خيط بسيط إلى بدلة بثلاث قطع، تشرح الباحثة الهولندية مينيكه شيبر أن "الناس يميلون بشكل طبيعي لإظهار أنفسهم للآخرين، لكنهم يخافون أيضًا من ردود الفعل السلبية المحتملة، إذ يضع الخوف كابحًا أمام "تفخيم الذات" المنفلت، وهو خوف مفهوم يغذيه الوعي بأن رفض أو إدانة الجماعة قد ينتج عنهما عزلة كاملة".
بالنسبة لحالة حسناء، فهي لا تعيش عزلة كاملة بقدر ما تخاف مما تسميه شيبر بـ"نظرات الاستياء أو العهر"، هنا ترى الباحثة أن حسناء وسواها من الأشخاص المشابهين لوضعها قد يضطرون إلى "الانحياز للملابس المتواضعة والبقاء في المنزل"، لأن الأمر ليس بيدهم، بل بيد الأشخاص المالكين لسلطة ما (أفراد الأسرة) فهم "يجبرون الآخرين على الظهور عراة أو مغطين تمامًا".
اللباس كوصم
في المقابل، هل يستطيع أي مغربي أن يرتدي لباسًا تقليديًا أو "محافظًا" وفقًا لهواه الشخصي دون أن يوصم بأوصاف قدحية وعنصرية؟
الجواب، كالعادة، تحدده الاشتراطات الخارجية (الآخر/المجتمع/الأنساق).
كان لأحمد، ابن منطقة تارودانت الجبلية والقاطن حاليًا بالعاصمة المغربية الرباط، تجربة عابرة مع الفُوقِيَّة، وهي نوع من الجلابيب التقليدية في شكلها الأمازيغي، ذات أكمام قصيرة جدًا تكشف الذراعين، ومزينة بتطريزات عتيقة في جوانبها.
جرّب أحمد، أول مرة، أن يخرج من مسكنه متسربلًا بالفُوقِيَّة ليشتري حاجياته من الدكان، فكان ردة فعل بعضٍ من سكان حيه الشعبي أن نعتوه بـ"الگربوز"، وهو وصف عنصري مسيء، يعود أصله إلى الحقبة الرومانية، ويحيل إلى معنى "العبد الأمازيغي"، ثم وظف لاحقًا ليدل على معانٍ كثيرة، أغلبها مسيء، مثل:الساذج والبدائي، والرجل الممتلئ قصير القامة.
في إحدى المرات، نصحه زميله في العمل أن لا يلبس هذا النوع من الملابس إلا لمامًا، أو في أفضل الأحوال في "مكان يليق به"، أكد له أن لكل مكان لباسه، ثم قال بنبرة يراها أحمد مثقلة باستعلاء مدفون تجاه اختياراته المرتبطة بإرثه الثقافي، "أنت تحب الفوقية التقليدية..مزيان.. لكنها لا تناسب وسطًا اجتماعيًا ينظر إليها بغرابة..سايرهم أخويا..ساير بنادم (الناس).. مالك على هاد الحالة؟ بْغِيتِي (تريد) تْلبس فوقية ايمازغن دِيهَا (خذها) معاك لأدرار (الجبل) وهني راسك (ارح بالك)".
جسد حذر
في محطة التاكسيات بضواحي مدينة أكادير، حيث لا يسمح ذلك الفضاء بأي انفلات أنثوي مفرط، لم تجد امرأة، كانت توزع النظرات والضحكات بحذر مدروس، أي غضاضة في أن تظهر جزءًا يسيرًا من رجليها ووجهها، بينما تتحرك بحرية نسبية، أو بمعنى أدق بارتياح، وهي تغطي جسدها وتصرفاتها الأنثوية العفوية باللباس التقليدي "الملحاف/الملحفة"، وهو ثوب طويل ومزين بأشكال وألوان مزركشة، تلتحف به النساء القاطنات في حواضر وقرى منطقة سوس والأقاليم الجنوبية للمغرب، ويغطي أجسادهن من رؤسهن إلى أقدامهن، مع إمكانية إظهار الوجه أو إخفائه والاكتفاء بالعينين.
في التسعينيات وما قبلها بسنوات، كانت النساء المرتديات ذلك اللباس المحتشم يواجهن في مدينة إنزكان المركونة بضواحي مدينة أكادير (جنوب غرب المغرب) وصمًا مسيئًا لهن، يعممهن ويسيجهن في قفص بائعات الجنس، الملتحفات والواقفات على قارعة الرصيف بجوار السوق الشعبي، كن يخفين جزءًا كبيرًا من الوجه، كآلية تبتغي المناورة، وكأنهن يقلن بشكل مبطن "نحن بائعات هوى، نساير التقاليد بلباس محتشم حتى نصطاد زبائننا بدهاء عبر العينين وليس بالجسد"، عن هذا الواقع ترى الباحثة شيبر أن "المزيد من التغطية تتسبب في إثارة أقل، لا يطابق الواقع. بل إن العكس يثبت صحته: حيث تزيد الملابس من الفضول تجاه كل ما يقع مخبئًا تحتها أكثر من العري الظاهر"، وتؤكد نقلًا عن استنتاجات أنثربولوجيين أن "ميل الناس لتزيين أجسادهم أو تغطيتها لم يكن الخجل من العري هو دافعها الأكبر بقدر ما كان لجذب الانتباه".
بيد أن هذه النظرة المعممة والمسيئة تجاه مرتديات هذا الثوب لم تعد حاضرة خلال السنوات التي تلت التسعينيات، في وقت صار حضور ذلك اللباس ينحسر بشكل تدريجي في الفضاء المديني أمام تغيرات الملبس وصيحات الموضة العصرية، فالآن، بات حكرًا على الأمهات والجدات من مواليد الستينات إلى حدود الثمانينات في هذه المدينة وضواحيها، لكن ومع ذلك، مازال حاضرًا بشكل واسع لدى إناث قرى سوس والأقاليم الجنوبية للبلد.
بعد أن ركبت المرأة ذات الملحاف السيارة نفسها التي حجزتُ فيها مقعدًا لي، جلستْ بجوار قريبتها الأكبر منها سنًا على المقعد الأمامي المجاور للسائق،، لم تنفك عن الكلام أو البحث عن أي سبيل لقتل الانتظار والصمت، بادلتنا نحن الجالسون على المقاعد الخلفية نظرات سريعة، كانت تسأل الراكبين، ثم تعلق بعجالة وتؤدة، بينما جلستُ على المقاعد الخلفية أراقب، أختلس بنظري، تارة نحوها وتارة أخرى نحو المارة العابرين في المحطة.
كان شيء ما مكبوت ومخفي في وجهها، وكأنها تريد أن تحتفي بأنوثتها ومشاعرها العفوية، لكن سقف النسق الثقافي يضيق بها ويسجن كيانها، ويجعلها تحتفل بحذر، تحت غطاء لباس مقبول اجتماعيًا وثقافيًا، وما إن وصلنا إلى وجهتنا، وهي مدينة جبلية صغيرة ذات طابع قروي أمازيغي حتى أخفت الشابة جزءًا كبيرًا من وجهها بثوب "الملحاف"، واكتفت بإظهار العينين فقط، ثم رافقت قريبتها متجنبة الأرصفة الممتلئة بالرجال ونظراتهم الحادقة، ورأسها مطأطئ أمام سطوة الذكور، مضت بمشية سريعة، غير مرتاحة، محاولة ستر ما تبقى من جسدها، يديها وأجزاء من قدميها، ومعهما الكثير من الأشياء: الإيماءات الأنثوية، النظرات الخاطفة، الضحكات والمشية المتململة.
كن رجلًا والبس واسعًا
"لباسك لا يشي بأنك مدرس، ما هذا السروال الممزق والضيق يا أستاذ؟ أبهذا الشكل ستعطي دروسًا في القيم والأخلاق لأطفال القرى؟ كن رجلًا والبس سروالًا واسعًا محترمًا، يا مربي الأجيال"، كانت زميلة صديقي المدرس تسدي إليه مواعظ قبل أن يتم تعيينه، متأثرة بدور الجدة وخطابها المجسد في استرسال الحكم والنصائح المتشبعة بالإرث الثقافي التقليدي، اضطر صديقي أن يأخذ بمواعظها بشكل جزئي فور توظيفه في منطقة نائية شبه صحراوية تابعة لإقليم زاكورة (جنوب شرق البلاد).
عندما وطأت قدماه تلك المنطقة، أحس وكأنه انتقل إلى كوكب آخر، كل شيء مختلف هنا، كل شيء يحتاج إلى تنازل بغية التأقلم: الأكل، الكلام، الطقس الجاف والقاسي جدًا، وبيئة الندرة وما يلزمها من لباس مناسب، ليس فقط ليواجه قسوة المناخ، وإنما ليرضي الأنساق الثقافية والاجتماعية للمنطقة، ويتماشى مع متطلبات المهنة، لذا اضطر المدرس أن يرتدي قمصانًا وتيشرتات عادية، وسراويل من نوع "لاطوال" (The canvas pants)، وجينزات وأحذية بأشكال مقبولة وبألوان محايدة، إنها ملابس لا تواكب بالضرورة سنه ولا ذوقه ولا صيحات الموضة الشبابية، وإنما تعكس حالة توافقية بين ما يروقه وما يفرضه مجتمعه المصغر، تحاشيًا لأي تصنيف أخلاقي يَحُولُ دون اندماجه في هذا الوسط.
وجه الكلاكيت
أتذكر تلميذة درست معي في الثانوي، كانت ترتدي ملابس عصرية متحررة: جينز ضيق يبرز مؤخرتها المكتنزة و"بودي" (قميص) أنثوي ضيق يبرز تضاريسها الأمامية، كنا نحن الذكور ننظر إليها باشتهاء، ونصنفها بشكل جاهز كـ"عاهرة"، ونلوك قصصًا من فانتازياتنا الخيالية عن مغامرات تدور حول طريقة اصطيادنا لها، والاختلاء بها في مكان ما خلف الثانوية لممارسة الجنس السطحي معها.
لم تكترث التلميذة لنظراتنا وتصنيفاتنا الأخلاقية الجاهزة، بل كانت تنضم بين الفينة والأخرى إلى "كليكاتنا" (شللنا)، وتناقش أحاديثنا بابتسامة وترحاب شديدين، وتعاملنا باهتمام أكبر.
على الرغم من ذلك، لم يستسغها التلاميذ الذكور، كانوا يشتهونها كجسد ويرفضونها كرداء، ولا يقبلونها كأنثى متصالحة مع جسدها واختياراتها في اللباس، ونتيجة لذلك، مارسوا ضدها التنمر والإساءة اللفظية عبر أوصاف قدحية، من قبيل: "الطوبا" (الجرذ)، "وجه الكلاكيت" (النعل)، وغيرها من النعوت المسيئة.
في المحصلة، لا تختار هذه الفتاة وسواها ما ترغب في ارتدائه بقناعة شخصية، إنما يشاء المجتمع الذكوري، إما تحت مسوغات أخلاقية وعظية، أو حتى ذكورية تشتهي الجسد للاستهلاك الجنسي والإغراء.
تذكير المؤنث
خلال أواخر العشرية الأولى من الألفية الثالثة، تم إصدار جينز slim الضيق على مستوى القدمين والمؤخرة للإناث، كان مقبولًا على مضض لدى أغلبية الناس، لكنه تعرض للاستهجان عندما لُبِسَ في جسد الذكور، تحت مسوغ "لا يجوز للذكور أن يتشبهوا بالإناث، ولا الإناث بالذكور"، لكن الموضة وتغيرات اللباس خلال العقود الأخيرة تمضي بميكانيزم: تذكير المؤنث وتأنيث المذكر.
بشكل ما، تجسد هذا الميكانيزم في فترة ما بعد استقلال البلد، فالمغربيات استبدلن بـ"الحايك" "الجلابة" (الجلباب)، التي سهلت تنقلاتهن في الفضاء العمومي مقارنة باللباس السابق، هذا "التشبه" أو المحاكاة بالذكور، نظر إليه الرجال بأنه استهداف لقوامتهم في المجتمع، فالمرأة بدأ يتسع تواجدها في الفضاء العمومي شيئا فشيئا، وصارت "الجلابة" تساوي (نسبيًا) الرجال بالنساء على مستوى الشكل، هذا اللباس الذي تنامى في شوارع مغرب الستينات جنبًا إلى جنب اللباس الغربي العصري لم تستسغه الأصوات المحافظة، إذ اعتبرته ضربا من "الخروج عن التقاليد وتشبه بالرجال"، لكن مع الوقت تغيرت هذه النظرة السائدة تجاه "الجلابة"، وصارت تصنفها في خانة الملابس المحتشمة، والمقبولة اجتماعيًا خاصة في الأحياء الشعبية.
لم يكن حال السروال أفضل من "الجلابة" خلال هذه الحقبة المتغيرة مجتمعيًا، إذ لم يتقبل الرجال، في البداية، أن تزاحمهن النساء في ارتداء قطعة تميزهم كذكور "متحضرين" على النسق الغربي، هذا التشبه الثاني (بعد الجلابة) أزعج من جديد أصوات معارضة، اختارت أن تتبنى آلية الجزاء، أو حتى التنمر كسبيل لردع الإناث عن ارتدائهن للبنطلون.
عن ذلك المعطى، يشرح الأنثربولوجي المغربي حسن رشيق في دراسته حول اللباس، ردود الفعل والجزاءات تجاه السروال خلال ستينيات القرن الفائت، مستشهدًا بقصة ناظر مدرسة ثانوية عاقب تلميذة في سن الثانية عشرة، تجرأت كما يعتقد، بارتدائها السروال، وكان جزاؤها أن طاف بها أمام التلاميذ والتلميذات مرددًا "انظروا من أتت لنا بالموضة"، أما في بعض الأحياء الشعبية بمدينة الدار البيضاء، فكان الشباب يعاكس ويتحرش بمرتديات السروال، ويصيح في وجههن بعبارة عنيفة لفظيًا "صبي بدون خصيتين".
في الوقت الحاضر، لم تتغير جذريًا نظرة المغاربة تجاه الملبس، إذ مازالت تُقَيم بأحكام وآراء أخلاقية (مثل رأي الخياط) مغطاة بالمواعظ الدينية، أو تقاس بناء على التصنيفات الطبقية (فقير/غني)، أو الاجتماعية والمهنية (مثل وضع صديقي المدرس)، أو وصم يتأسس على معطى ثقافي قومي يستدعي خطابًا عنصريًا وتمييزيًا (مثل "فوقية" أحمد)، أو معطى جندري متمثلًا في ممارسة الوصاية على الجسد الأنثوي (حالة حسناء)، والأهم من ذلك، أن الملبس يُقَيم، حاليًا، حضوره وتحققه وقيمته بالمحدد الاقتصادي والاستهلاكي خاصة لدى الشباب، رغم ردود الرفض والإدانة الأخلاقية للموضة من قبل الأجيال الأكبر سنًا، إذ لا يستسيغون صيحاتها "الغريبة" و"المجنونة"، فهي بالنسبة إليهم وسيلة لضرب المعايير "الأخلاقية" السائدة في الملابس.
تظل النظرة إذًا تجاه الملبس معقدة ومركبة وليست محكومة بعنصر واحد، لكن تبقى النظرة الأخلاقية هي الحاضرة بقوة في تقييمات قطاع مهم من المغاربة، فهم لا يلبسون دائمًا وفق أذواقهم الشخصية الخالصة والأصيلة كسواهم من البشر، وإنما وفق ما تفرض عليهم سلطة لامرئية.
لأن هناك يد ثالثة...
لا تلبس أجسادنا كما تشاء وفقًا لاشتراطات طبيعية (مناخ/بيولوجيا) اتقاءً لبرد أو حر شديدين، أو حتى بناءً على هوىً شخصي يتوافق مع قناعاتنا وأذواقنا، بل بالأساس وفقا لسلطة فوقية يصفها السوسيولوجي بيير بورديو بـ"اليد الثالثة"، فإذا كانت يدانا الاثنتين تُلْبِسان أجسادنا بشكل إرادي عفوي، فإن اليد الثالثة تختار وتتذوق، تفرض وترفض، تسمح وتمنع، تأمر وتنهى، يد غير مرئية أشبه بالإله، تمارس عنفًا رمزيًا، تلبسنا بإرادتها وليس بإرادتنا، تستمد شرعيتها من اشتراطات الثقافة والاقتصاد والسياسة والدين والأيديولوجيا... يد تشاء، ونحن لا نشاء إلا بمشيئتها.