يحيى الطاهر عبد الله (1938- 1981) كتب القصة القصيرة، وقدّمه للقراء اثنان من رموز الثقافة المصرية في حقبة الستينيات من القرن الماضي، هما عبد الفتاح الجمل، الذي كان مسؤولًا عن الملحق الأدبي لجريدة المساء، ويوسف إدريس القاص الرائد والمؤسس الثاني لفن القصة القصيرة في الأدب العربي بعد يحيى حقي.
والطاهر له رواية وحيدة هي الطوق والأسورة التي حوّلها خيرى بشارة ومعها عدة قصص أخرى إلى فيلم سينمائي قامت ببطولته شريهان وفردوس عبد الحميد ومحمد منير.
في هذا المقال، سأحاول رصد الثقافة الشعبية في منطقة الكرنك، مسقط رأس يحيى الطاهر وما حولها، من خلال القصص التي شكّلت أعماله الكاملة. وأقصد بعناصر الثقافة الشعبية العادات والمعتقدات والأدب الشعبي من حكايات ومرويات، ومظاهر الثقافة المادية التي ظهرت في صورة أدوات الطعام والشراب والعلاج والتزين وغير ذلك من الأغراض، إلى جانب ملامح الصراع العرقي والديني الذي تميزت به منطقة جنوب الصعيد، والصورة التي أظهرها الكاتب في قصصه التي كانت واقعية تعتمد على حكايات ومرويات من المجتمع الذي نشأ وعاش فيه. وهو بمثابة بروفايل عن الطاهر وعن هذه المنطقة المهمشة من خلال أعمال أبرز أبنائها.
عبد الفتاح يحيى
هو عبد الفتاح يحيى الطاهر عبد الله، من مواليد الكرنك بمركز الأقصر بمحافظة قنا آنذاك، حاليًا الأقصر محافظة مستقلة. أسقط من اسمه عبد الفتاح، فأصبح المتبقي من الاسم المركّب "يحيى". وكان والده الطاهر عبد الله يناديه الناس في الكرنك باسم الشيخ كامل، ولهذا السبب رسخ اسم "كامل" في قصصه. فالقارئ يصادفه هذا الاسم كثيرًا، بداية من قصة جبل الشاي الأخضر التي تصدرت أعماله الكاملة التي طبعت ونشرت بعد رحيله برعاية ومجهود اثنين من أصدقائه هما الدكتور حسين حمودة والمخرجة السينمائية التسجيلية عطيات الأبنودي.
عائلته في الكرنك تُسمّي عبد الله "أبو إعوض"، واسم عوض ينطقه العربان القادمون من ليبيا وتونس مضافًا إليه سكون فيكون "إعوض" وكذلك ينطقون اسم عمر هكذا "إعمر"، في إشارة إلى أصول عربان الكرنك وأرمنت وكثير من قرى هذه المنطقة، التي تعود إلى قبائل الحلف الهلالي التي هاجرت من نجد والحجاز وجنوب العراق إلى مصر، ثم انتقلت بتكليف من الخليفة الفاطمي المستنصر بالله إلى إفريقية أو تونس الخضراء، لردع المعز بن باديس الذي أعلن خروجه على الحكم الفاطمي، والمذهب الشيعي الإسماعيلي.
انتهت مهمة هذه القبائل في تونس، وعادت منها فروع نحو مصر فاستقرت على الجانب الغربي لنهر النيل، وكانت الكرنك وأرمنت من القرى التي أقامت فيها هذه الفروع المنتمية إلى قبائل بني سليم وبني هلال وغيرهما من القبائل التي شاركت في التغريبة التي خلدها المبدعون الشعبيون بالسيرة المعروفة في كل البلدان العربية التي توزعت فيها هذه القبائل، وتحمل اسم سيرة بني هلال.
في المنطقة التي عاش فيها يحيى الطاهر يعيش الغجر الذين يسميهم الناس الحَلَب، ويحترفون صناعة آلة الربابة التي يروي شعراء السيرة الهلالية أحداث الصراع بين خليفة الزناتي وأبو زيد الهلالي بمصاحبة نغماتها. ورغم هذا لم يرد ذكر السيرة الهلالية في أية قصة من قصصه، ولم يبرزها باعتبارها مكونًا من مكونات الصعيد الثقافية الأصلية، على العكس مما قام به الدكتور طه حسين في الأيام، فقد وصف الشعراء والسامر الذي تروى فيه السيرة، والمنيا التي ولد فيها حسين تقع ضمن إقليم شمال الصعيد، وكانت من المحافظات التي استقرت بها فروع من قبائل الحلف الهلالي، وهو الأمر الحادث في الكرنك وغيرها من قرى الأقصر وإسنا التي تشكل النطاق الجغرافي للمجتمع الذي روى منه وعنه يحيى الطاهر قصصه، وفيه تشكلت رؤاه ونظرته للعالم.
لاحظتُ عندما أعدتُ قراءة أعماله وكل الدراسات النقدية التي تناولته قبل كتابة هذا البورتريه، أنه لم يتوقف ناقد أو باحث أكاديمي أمام ظاهرة غياب السيرةالهلالية عن أدب يحيى، رغم أن صديقه الشاعر الأبنودي هو من جمعها وحفظها من الاندثار، وكان يحيى الطاهر يتابع إنجاز ذلك العمل عن قرب، ويدرك مركزية وأهمية السيرة في حيوات عرب الصعيد من شماله إلى جنوبه.
وتفسيري لهذا الغياب أنه أسقطها عامدًا، بحكم الأيديولوجيا الماركسية التي اعتنقها، والتي انضم بسببها لحزب شيوعي سري هو وحدة الشيوعيين يهتدى بهذه الأيديولوجية، التي ترفض فكرة الاحتفاء أو الاهتمام بثقافة الغزو والغارة التي تميزت بها الثقافة البدوية التي أنتجت سيرة بني هلال، على العكس من زميله ورفيقه الأبنودى في نفس الحزب، الذي فهم النظرية بصورة مختلفة، فاعتبر السيرة الهلالية مكونًا من ثقافة المجتمع لا يمكن تجاهله بعد أن رأى وعايش أهمية وسطوة هذه السيرة على عقول وقلوب عرب الصعيد، وعرب الصحارى المصرية المنتمين إلى قبائل الحلف الهلالي.
في حديث لي مع الكاتب الصحفي خالد محمود، صديق يحيى الطاهر عبد الله، وابن قريته الكرنك، أخبرني أن عائلة يحيى عربية لها مكانة طيبة في القرية وهي كثيرة العدد، والكثرة عزوة في الصعيد، ووالده الشيخ كامل هو ذاته الطاهر، كان معلمًا في المدرسة الابتدائية، ويحيى كان متمردًا، يقيم الصداقات مع كافة الشرائح الاجتماعية، ولما نُشرت قصصه على صفحات مجلة صباح الخير اكتسب يحيى مكانة كبيرة لدى أسرته وعائلته وأصبح أهله يعتبرونه رمزًا من رموز العائلة الجديرة بالتقدير. يضيف لي الكاتب خالد محمود "من المؤكد أنه كان عضوًا في تنظيم وحدة الشيوعيين الذي كان يسمى التنظيم الصيني لأنه كان يهتدي برؤى واجتهادات ماوتسى تونج الزعيم الشيوعى الصيني، وكان التنظيم يضم في عضويته الأبنودي، وسيد حجاب، وسيد خميس، وجمال الغيطاني، واعتقلهم شعراوى جمعة وزير الداخلية في العام 1966، وتمكن يحيى من الهرب، ثم صدر قرار بالعفو عنهم بعد ستة شهور، قضاها البقية في سجن القلعة بالقاهرة".
هكذا قرأه النقاد
عاش يحيى حياة صاخبة في زمن صاخب، ولم يكن مستقرًا في عمل، بعد أن استقال من وزارة الزراعة التي عمل بها بالشهادة المتوسطة التي حصل عليها، دبلوم الثانوي الزراعي، لكن أصدقاءه استطاعوا إلحاقه بمنظمة تضامن الشعوب الأفريقية والآسيوية، وكان يتقاضى منها راتبًا ضئيلًا ولكن قيمته الإبداعية وضعته في مقدمة المبدعين المجايلين له، وحظى باهتمام أكاديمي في حياته وبعد موته، وترجمت قصصه إلى ثماني لغات حية.
ومن الأكاديميين الذين درسوا مشروع يحيى الطاهر الإبداعى الدكتور محمد بدوي، وخصص له في رسالة الدكتوراه التي تقدم بها لقسم اللغة العربية بآداب القاهرة عدة فصول، ونشر هذه الرسالة في كتاب حمل عنوان الرواية الحديثة في مصرـ دراسة في التشكيل والإيديولوجيا، واختص بدوي رواية الطوق والإسورة بتحليل ونقد موسعين، وصاغ رؤية نقدية لكاتبها ومشروعه.
يقول بدوي في مقتطف من رسالته "رغم تبني يحيى الطاهر عبد الله لمنظومة نظرية من الأفكار السياسية، وتبشيره بها في بعض أحاديثه، وبعض قصصه، إلا أنه لم يكتب أبدًا عن القرية في الحقول، أو في صراعات أناسها مع الطبيعة، ولم يقدم من بين هؤلاء المسحوقين أبطالًا متفائلين، بل خلق وأنتج نصًا، نساؤه ورجاله يصطرعون مع قدر رازح، يكاد يبدو سرمديًا لفرط جثومه على صدورهم، والصحيح أنه قدر تاريخي، موغل في العمق والتجذر، يجبر هؤلاء الرجال والنسوة على الخروج الفردي المجاني المثقل بعفويته ومن ثم يقود هذا الخروج إلى رضا أصحابه بما ينزله النسق القيمي من عقاب نتيجة ما اقترفوه من خرق".
ويعني هذا المقطع من رؤية الدكتور محمد بدوي النقدية لعالم ومشروع يحيى الطاهر عبد الله، أن الكاتب لم يطبق نظرية الواقعية الاشتراكية التي فرضها ستالين على فناني وأدباء الاتحاد السوفييتي، وروّج لها الشيوعيون التابعون فكريًا وماليًا للحزب الشيوعي السوفييتي، في مختلف دول العالم في حقبة الحرب الباردة بين الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة الأمريكية. ومن سمات هذه النظرية، تقديم نموذج البطل الإيجابي القادر على التحدي، وضرب المثل لتحتذي به الجماهير، وكانت نتيجة تطبيق هذه النظرية ظهور أدب دعائي بعيد عن صدق التجارب الإنسانية، وكان يحيى الطاهر يتبنى الماركسية الماوية التي تحتفي بثقافة الفلاحين، باعتبارها ماركسية تناسب المجتمع الزراعي الذي تكون فيه الطبقة العاملة ضعيفة التنظيم والوعي مثل مصر عمومًا، والصعيد على وجه خاص.
على عكس ما ذكره الدكتور محمد بدوي؛ لا تخلو قصص يحيى الطاهر من صور المقاومة وإن كانت لا تؤدي إلى تغيير كلي في مسار الحياة، ورغم هذا الأثر القليل للمقاومة إلا أنه لا يمكن نفيها، لأنها خاصية إنسانية، فالناس يرفضون بالفعل أو الكلام أو حتى بالتكاسل أو النوم أو الهروب، وهذه الأساليب تسمى مقاومة سلبيّة، ولكن نفي صفة المقاومة عن كل شخوص قصص يحيى الطاهر يقلل من قيمة تجربته ويخرجها من دائرة العقل والمنطق.
فيما توقف الدكتور سيد حامد النساج أمام أسلوب الكتابة الذي تميز به يحيى الطاهر فقال في كتابه أصوات في القصة المصرية القصيرة (دار المعارف- 1994) "إنه يقدم عالمه بأسلوب حاد أحيانًا، مباشر أحيانًا أخرى، دون تدخل منه، وبلا شروح تفصيلية، تفسد البناء، ولأسلوبه إيقاعه الشعري الذي يتردد في الصور والكلمات، والتكرار، والتطعيم بالعامية، وتقطيع الجمل، مما يوحي بوحدة خفية، تمنح القوة والسطوع لنسيج التجربة الفنية".
كيف رأى ثقافة مجتمعه الصعيدي؟
من المهم أن نوضح المقصود بمصطلح ثقافة المجتمع، فنقول إنها تشمل كل فعل دال على الحركة والإنتاج وفق قوانين موروثة اختص بها علم الفولكلور، وتشمل العادات والمعتقدات والمنتجات القائمة على خامات البيئة المحلية التي تحمل أفكار منتجيها، والفنون القولية من حكايات وقصص وأمثالٍ وسِيَر ومواويل حمراء وخضراء، أى مواويل موضوعاتها الموت والعذاب وهجر الحبيب والغربة والشقاء والأسى الناتج عن حكم الزمن أو القدر، ومواويل موضوعاتها الفرح ورسم تفاصيل قصص الحب الناجحة والأفراح.
ومن خلال إعادة زيارة أعمال يحيى الطاهر، وجدته يرصد ثقافة مجتمعه بكافة تفاصيلها، في حدود ما سمحت به موضوعات قصصه، ومن الإنصاف للكاتب الراحل الإشارة إلى ريادته في التعرض لقضية التراتب العرقي في منطقة عمله الإبداعي، وهي منطقة محددة جغرافيًا بقرية الكرنك وما حولها من قرى تابعة لمركزي الأقصر وإسنا، وما يتبعهما من قرى، وهى منطقة ذات خصوصية نتجت عن التقاء مجموعة من الأعراق هي: القَبَط، والعرب، والغجر، والفلاحون، والجمسة، والبحاروة. وهذه الأعراق ممثلة في جماعات متوطنة منذ آلاف ومئات السنين.
- القَبَط وهم المسيحيون المصريون، الذين ظلوا على دينهم، وهم ورثة المصريين القدماء، وعملوا بالخياطة، والنجارة، والغزل والنسج وعملهم الأساسي كان الفلاحة، فيما عمل الأغنياء منهم بالتجارة.
- الفلاحون وهم مَن أسلموا من المسيحيين، فأطلق عليهم العرب الفاتحون أو الغزاة هذا الاسم، ويمتلكون عادة حيازات زراعية صغيرة.
- البحاروة أو الفلاحون الأجراء، ويمتهنون الفلاحة لصالح الغير، والحلاقة، ودفن الموتى، وحفر القبور. وسأفصّل فيما بعد سبب تسميتهم.
- العرب وجاءوا من شبه الجزيرة سواء من الفاتحين أو الغزاة الأوائل أو مَن لحق بهم في عصور تالية، وكانوا في الصعيد لا يفضلون امتهان الفلاحة وإن عملوا بها مضطرين، وانصبّ نشاطهم على التجارة بأنواعها.
- الغجر أو الحَلَب الذين يحترفون الغناء والحدادة وصناعة آلة الربابة والطبول وعلاج الحيوانات بالطب الشعبي، ويطلق أهل الصعيد عليهم اسم الحَلَب.
- الجَمَس أو الجَمَسَا أو الجَمَسة وهم جماعة من الناس تحترف في الصعيد وجنوبه مهنة السقاية باستخدام القرب المصنوعة من جلود الماعز، وينقلون الماء إلى بيوت أهالي القرى، ويرشون الماء في الشوارع التي تقام فيها الأفراح والجنازات مقابل أجر مالي أو حزم من القمح والأرغفة، وهم مسلمون لا يصهر إليهم العرب أو السادة الأشراف من العرب (من نسل النبي محمد وهم جزء من العرب لكنهم في درجة أعلى بالسلم الاجتماعي)، وكل الطبقات الخمسة المذكورة أعلاه يعتبرون الجَمَس عِرقًا أدنى يقبع في قاع السلم الطبقي والاجتماعي جنوب الصعيد.
والثابت من الحكايات المروية في مناطق تواجد الجَمَس أنهم كانوا خدمًا لقبائل الحلف الهلالي، ولهم أسطورة يحاولون بها الانتساب إلي "العرب" أو الطبقة الأعلى في الصعيد، ويقولون في أسطورتهم إنهم عرب حاربوا مع الرسول محمد في غزواته، وأن اسم الجَمَس أطلقه عليهم النبي لأنهم "جاءوا في المساء" متأخرين باقي عن جيش الإسلام، فأصبحوا جمسة، ويقول عنها المعجم إنها تعني: النار التي تضيء الليل.
- المساليب وهم في قاع السلم كالجمسة، ويعملون بحرفة تسول المال أو الخبز ثم بيعه لمن يربون الماعز في أسواق القرى، ولهم حرفة أخرى هي "القرقرة" وتعني فصل الحبوب عن أعواد التبن، القمح أو الفول أو العدس أو البرسيم. وهؤلاء ينحدرون من عبيد قدامى تحرروا بعد تحريم تجارة الرقيق في مصر، أو الفئة الأكثر فقرًا من شريحة الفلاحين أو البحاروة. ولأنهم سُلبوا كل ما يمكّنهم من قوة العمل اللازمة في هذا المجتمع القاسي؛ أصبحوا "مساليب".
ولم يسبق يحيى الطاهر أي كاتب في التعرض لهذا التراتب العرقي ووطأته على المنتمين للأعراق المضطهَدة، مثل قصة ليل الشتاء من مجموعة ثلاث شجرات تثمر برتقالًا. وأقتطع منها هذا الجزء الدال:
- عملتها يا بتاع إسنا؟.. شربنا المقلب وخلاص، أنا لما بامشي باطاطي دماغي. لا أنا من العرب، عشان أقيم راسي وسط الفلاحين، ولا أنا من الفلاحين عشان أقيم راسى وسط أهلي.
صرخ زوجها، وكان ثائرًا أيضًا..
- يعني إيه؟ أختك معاك. عايزها خدها، أنا راجل فاهم نفسي. أنا ماطلعتش السما. لا اتجوزت عربية ولا خدت فلاحة، كنت عارف نفسي وعارفكم. جمسا وبحاروة. إن كنت جمسي فأنت بحراوي. فاكر نفسك إيه؟
وقصة ليل الشتاء تحكي عن أسرة تنتمي إلى "البحاروة"، وقعت ضحية رجل يعمل عسكري شرطة، أخفى انتماءه العرقي إلى فئة "الجمسة"، ولم يكتشف أحد الخديعة قبل الزواج، لكن الذي اكتشفها فيما بعد شقيق الزوجة وعنّف العسكري، وكان العسكري واضحًا في رده على شقيق زوجته.
ومن سياق القصة نفهم أن البحاروة هم الفلاحون الأجراء، الذين هربوا من بلادهم في شمال مصر (وجه بحري) في فترات تاريخية سابقة بسبب عجزهم عن سداد الضرائب المفروضة على الأرض التي كانوا يزرعونها لحساب الملتزمين في زمن نظام الالتزام السائد في العصرين المملوكي والعثماني، فهربوا أو تسحبوا من بلادهم الأصلية وصاروا أجراء يعملون في أراضي الأغنياء ملاك الأراضي في القرى التي هربوا إليها، أو يعملون في التراحيل التي هي مواسم عمل مرتبطة بجنيّ وجمع المحاصيل الزراعية.
البحاروة، وهم فقراء بالضرورة، لكنهم يرون أنفسهم أرقى وأفضل من الجمسة، ومن هنا كانت غضبة شقيق الزوجة، لأنه رغم فقره، أحس بأنه تدنى اجتماعيًا بمصاهرة قامت على الخداع فرضها عليه "الجمسي" ينتمي إلى مركز إسنا.
نعود إلى القصص التي احتوت بقية عناصر الثقافة الشعبية في هذا الجزء المهجور من عالم الأدب ومنها قصة جبل الشاي الأخضر، التي قدمت الجد وهو يوزع أكواب الشاي الأحمر والأخضر والصمت يلف المكان، والجمع يرقب إشارته. وهو بالمعنى المباشر، يمثل شيخ القبيلة الذي يأمر فيطيع القوم، وهو أيضًا الفرعون المسيطر والمتحكم في توزيع ماء النهر، وهو المتحكم في تقسيم الأرزاق.
سواء قصد يحيى رمزية الجد/ الفرعون أو لم يقصد، فالمكان يحمل راقات ثقافية وطبقات متجاورة منها ما هو مصري قديم مثل المعابد الأثرية وما تثيره من حكايات وتأويلات لدى الجماعة الشعبية العربية، التي تحمل وعيًا صحراويًا، يرى في التماثيل مساخيط، ويرى في العمل في الحقول استعبادًا، لا يليق بالعربي/ البدوي الغازي الذي يأكل من سيفه وفرسه ويمتثل لقرار شيخ القبيلة الذي لا رادّ لقراره أو قضائه.
في القصة ذاتها تتجلى فكرة شرف البدوي المعلق باستقامة أخلاق الأنثى وخضوعها للمنظومة السائدة، فالراوي الطفل رأى أخته التي لم تكتمل أنوثتها بعد، وهي تحك جسدها بظهر الجاموسة فأخبر أباه وغضب الأب، لأنه فهم دلالة الفعل وأحالها للشرف والرغبة الجنسية لدى البنت، وضربها ضربًا مبرحًا، وهنا صدر قرار الجد "جوّزها يا كامل".
وأثناء غضبة الأب، كانت الأم ترقب المشهد حزينة ولم تنطق بكلمة ولم تتدخل لإنقاذ ابنتها، لأنها تعرف أن الرجل يفعل ما يشاء لحماية الشرف وعليها الطاعة.
وفي القصة ذاتها، تظهر خبرات الطب الشعبي السائدة في القرية الفقيرة، في مشهد العمة شرقاوية وابنة أخيها الطفلة "مررت بالسقف كانت الشمس الحرة من الغيوم، قد ألهبته بالسخونة، وكانت عواطف وعمتي شرقاوية محتميتين بظل الجدار القصير، وكانت عمتي تفلي شعر عواطف وتدهنه بالجاز الأبيض من كوز صفيح".
والجاز الأبيض هو الكيروسين ويستخدمه فقراء الريف المصرى والأحياء الشعبية في تنظيف شعر البنات والسيدات من الحشرات.
تعليق الممثلة شريهان على دورها في فيلم الطوق والأسورة
وتعرض بقية القصص في مجموعاته القصصية الأخرى للمعتقدات الدينية، مثل الاعتقاد في كرامات شيوخ الطرق الصوفية الأحياء، وتصارُع المعتقدات وتعددها، وتصارع هذه المعتقدات مع رغبة رأس المال في فرض قانونه، وخير مثال لهذا الرصد نجده في قصة طاحونة الشيخ موسى، حيث يروي الكاتب قصة محاولة نظير يسى المسيحي الغني شراء ماكينة طحين تعمل بالكهرباء ولكن عقائد الجماعة الشعبية، سكان القرية، تقوم على أن الماكينة تحتاج دم طفل حتى تدور بانتظام، وتعطل المشروع بسبب هذا المعتقد البدائي.
نقرأ هذا المونولوج الخاص الرأسمالي نظير يسى "أولاد إيه اللي تترمي داخل المكنة عشان تدور؟ بالشرف الكلام ده مالهوش أساس، أنا حاشغل أسطى عنده عشر سنين خبرة، حيدور المكنة، بدون عيل يترمي جواها".
ويرصد يحيى المعتقد المستقر في الوجدان الجمعي للناس في القرية "يعنى ماهو إحنا من عمرنا بنشوف المكن مايدورش إلا إذا أكل عيل صغير. مش كل المكن بيصرخ توت.. توت، يعنى إنت حتغيره؟ يا خواجة نظير؟..ولا ما هو إحنا بهايم!".
ويرد الخواجة نظير يسى "المكنة قديمة، قديمة ياناس، يعني لازم أقول. أديني قلت، اشتريتها من خليل أبو زيد بتاع البندر، ما يلزمهاش عيل، قديمة.. مكنة قديمة، ارتاحوا كده".
ولكن الجماعة الشعبية، المسلمة الديانة، انتصرت وقررت اللجوء للشيخ الصوفي للتحكيم بينها وبين المسيحي نظير يسى، الذي رضخ لرأى الجماعة المسلمة مستخدمًا ألفاظها "رضينا بالشيخ ياجماعة، أنا وانتوا والعمدة، نروح له، يا ناس. دا كله بركة، المكنة مايلزمهاش ولد لو دخلها الشيخ.. مدد يا قطب ياكبير.. مدد..كراماتك يا شيخ موسى".
ويقدم يحيى الطاهر ظاهرة الثأر المرتبط بالدفاع عن الشرف، في قصص عديدة من أهمها قصة المهر التي ترسم صورة لصراع محلي بين قريتي الزينية قبلي والكرنك، رغم انتماء أهالى القريتين لجد واحد هو عمر "اقتل شبيب. قتل أباك، نام مع أمك، ثم تزوج غيرها، كانت أمك حلوة، من أجلها قتل شبيب أباك.. ثم تزوج من شابة حلوة، أمك أيضا تقول: اقتله".
وتظهر كذلك المعتقدات الدينية الإسلامية، المخلوطة بما تبقى من الديانة المصرية القديمة، وفكرة سيدنا الخضر، وطقوس تزيين البيوت لاستقبال أصحابها العائدين من بلاد الحجاز بعد أدائهم فريضة الحج.
أما الفرائض التي تغسل الإنسان من ذنوبه، ظهرت في قصص الكرنك، وهى القصص الأولى التي بدأ بها يحيى الطاهر مشروعه الإبداعي. فالشاى والبلح والنخل واللحم لهم مكانة بارزة في حياة المجتمع الصعيدي. فالشاي ضروري للناس هناك لاعتقادهم بأنه يحميهم من ضربات الشمس في الصيف، والبلح والنخل واللحم من دلائل الثقافة البدوية والقبائل التي استقرت في وادي النيل وظلت محتفظة بالاهتمام بزراعة النخيل لتضمن الحصول على البلح، وتربية الضأن والماعز لتحصل على اللحم، الذي يمثل عمود التغذية الصحراوية، فالبدوي السارح أو المقيم في الصحراء يحتاج في طعامه اللحم والدهن، ليقاوم البرد القارس في ليالي الشتاء.
وخلاصة القول هي إن يحيى، استطاع في مجموعاته القصصية وروايته الوحيدة أن يقدم للقارئ مجتمعه الصعيدي من خلال تقديمه ملامحه الثقافية بأبعادها المعنوية والمادية في مرحلة كان فيها الأدب المصرى مهمومًا بالمدن وأبناء المدن.
ورغم ظهور قصص عن الصعيد كتبها يحيى حقي من خلال خبرته التي حصّلها أثناء إقامته في منفلوط التابعة لمحافظة أسيوط لمدة عامين من 1927ـ 1929، بيد أنه كتبها من منطلق إنساني عام بعين الزائر المندهش، لكن يحيى الطاهر عبد الله كتب وصاغ حياة مجتمعه برؤية الخبير بالمكان والناس، المدرك تفاصيل الحياة والقوانين التي تحكمها.