على مدار ثلاث سنوات، عاش عادل محمد ظروفًا أسرية بالغة الصعوبة، بسبب ابنته التي تدرس في الثانوية العامة. فهناك حالة من الطوارئ فرضها الأب على كامل أفراد أسرته، لتوفير الأجواء الهادئة للفتاة، وليخفف عنها وطأة الارتباك الحاصل في الثانوية، من حيث شكل الدراسة وطريقة الامتحانات ونوعية الأسئلة.
تغيّرت نظرة عادل للثانوية العامة كليًا، وبعد أن ألحق ابنه الصغير بإحدى المدارس الثانوية السنة الماضية، أي أنه صار مقيدًا بالصف الثاني الثانوي، اضطر لسحب ملفه من المدرسة، ليقيده بمدرسة فنية تكنولوجية، من التي تنشئها الحكومة لمواكبة لسوق العمل والتخديم على الصناعات والاستثمارات الجديدة.
شعر الأب بيأس ابنه من تحقيق النجاح بدرجات معقولة، خاصة أنه عايش ظروف شقيقته الكبرى، وكيف وصلت إلى حالة نفسية سيئة من كثرة التخبط والارتباك في القرارات المرتبطة بالثانوية العامة، فوافق على طلب والده بتحويله إلى مدرسة فنية، يكون لها مستقبل وظيفي، ويمكن من خلالها الالتحاق بإحدى الجامعات التكنولوجية.
تعكس هذه الحالة، كيف صارت نظرة الكثير من أولياء الأمور، وحتى الطلاب أنفسهم، للثانوية العامة، فلم تعد بنفس القدسية والرمزية التي كانت عليها في الماضي القريب، عندما كان الطالب الذي يفوته قطار الثانوية ويلتحق بمدرسة فنية، ينظر إلى نفسه، ويتعامل معه المجتمع، باعتباره ذي تحصيل دراسي ضعيف، أو فاشل.
وأظهر تسابق العديد من الأهالي لإلحاق أولادهم الحاصلين على الشهادة الإعدادية، بالمدارس الفنية، كيف تهاوت أسطورة الثانوية العامة، من شدة المعاناة التي تعرض لها الآباء والأمهات والطلاب على مدار ثلاث سنوات، إما بسبب طبيعة الأسئلة الجديدة، أو أزمات التابلت، وارتباك القرارات المرتبطة بطبيعة الدراسة والامتحانات.
في المقابل، تخلَّص التعليم الفني من صورته النمطية التي تكونت في الماضي، بأن تخصصاته قديمة وعفا عليها الزمن، أو أن المدارس الفنية مجرد بيئة حاضنة لمن فشلوا في الالتحاق بالثانوية العامة، فهناك تغيرات كثيرة في نوعية التخصصات والمدارس والمناهج، وصار متاحًا للطالب، بسهولة أكبر، الالتحاق بكلية تكنولوجية بعد الدبلوم الفني، ليحصل على شهادة عليا مثل زميله الذي دخل الجامعة من بوابة الثانوية العامة.
مسار مختلف
شجعت هذه المتغيرات الأب على الابتعاد بابنه عن طريق الثانوية بأزماته وتعقيداته، رغم قضاء عامه الأول بها، للالتحاق بالثانوية الفنية، لكنه اقتنع بنوعية المدارس الفنية التكنولوجية التي يُنشئها رجال أعمال ومستثمرون للتخديم على صناعات بعينها يحتاجها سوق العمل، وهذه مجانية، لكنها تستقبل الحاصلين على درجات مرتفعة مثل التي تطلبها مدارس الثانوية العامة.
نائب وزير التعليم لشؤون التعليم الفني، محمد مجاهد، قال إن "التغيرات الإيجابية في مناهج وتخصصات المدارس الفنية، شجعت شريحة كبيرة من أرباب الأسر على إلحاق أولادهم بها، لأن مستقبلها أفضل، وتوفر فرصة عمل للخريجين بشكل سريع، ولا تحتاج إلى دروس خصوصية، وتتيح الوظيفة مع استكمال الدراسة الجامعية".
مجاهد أضاف للمنصة، أن الناس بدأت تقتنع بضرورة التفكير بعيدًا عن الثانوية العامة، والتركيز على متطلبات سوق العمل، والتخصصات الجديدة في التعليم الفني، جميعها مؤهلة للتوظيف، لأنها حديثة ونادرة، وشارك في اختيارها رجال الصناعة والاستثمار، الذين هم أدرى الناس بما يحتاجه السوق من وظائف عصرية.
ولفت نائب وزير التعليم في حديثه مع المنصة، إلى أن الناس وجدت في المدارس الفنية الحديثة، تجارب واقعية ناجحة لطلاب يتعلمون بشكل محترف وعصري وعلى الطراز الأوروبي، وتتوافر لهم كل سبل الراحة، دون مقابل أو ضغط نفسي، فكان طبيعيًا أن يعيدون التفكير في الثانوية، ليختاروا المستقبل بناءً على شواهد حية.
ولأول مرة، تتيح وزارة التعليم، لرجال الصناعة والاستثمار، المشاركة في وضع المناهج الفنية واختيار التخصصات المطلوب دمجها في التعليم الفني، وبناء مدارس تخدم استثماراتهم، وتوقع معهم بروتوكولات تتيح للخريجين التوظيف في شركاتهم ومصانعهم، وكلها مدخلات حديثة أغرت كثيرون على الابتعاد عن الثانوية العامة.
وصار لكل تخصص فني، وظيفة موجودة في سوق العمل، وأصبحت المدارس الفنية بالمناهج المتطورة، تستهدف التخديم على صناعات حديثة، مثل البتروكيماويات واللوجستيات البحرية والطاقة النووية، والطاقة الجديدة والمتجددة، وصناعة الذهب، والاتصالات، والإنتاج الحربي، وصناعة السيارات، والحِرف بمختلف تخصصاتها.
حسب الأب عادل، فإن المسار التعليمي بالثانوية الفنية صار مفهومًا ومعروفًا بشكل مسبق، على العكس من الثانوية العامة التي ما زالت قرارتها مرتبكة ولا تتضح ملامحها، وتتغير بين عشية وضحاها. لا يوجد عقد بين الطالب ووزارة التعليم منذ بداية الدراسة حول شكل الامتحانات وطريقتها، تارة إلكترونية وأخرى ورقية، حتى أن بعض تخصصات الجامعات عفا عليها الزمن.
ويتم إنشاء المدارس الفنية الحديثة، وفق نوعية الصناعة التي تشتهر بها المحافظة التي تحتضن المدرسة، فمثلًا، معروف أن دمياط أهم محافظة في صناعة الأثاث، ولهذا تؤسس مدرسة تكنولوجية متخصصة في هذه المهنة، ولأن إقليم محافظات بورسعيد يحتضن قناة السويس والموانئ البحرية، جرى تأسيس تخصص للوجستيات بمدرسة قناة السويس البحرية، غير تأسيس مدرسة للتخديم على حقل ظهر للبترول.
هناك عشرات الأمثلة لذلك، والميزة الأهم أن المدارس الفنية التكنولوجية، تمنح الطالب مبلغًا شهريًا نظير التدريب العملي، قد يصل إلى ألف جنيه، كما الحاصل مثلًا، في مدرسة مصر للتكنولوجيا الحيوية بمدينة الشروق، المتخصصة في صناعات الأدوية ومشتقات الأمصال الطبية، وتتيح لطلابها سنويا السفر لألمانيا.
والمدارس التي توفر التعليم الفني والتدريب العملي تندرج تحت نظام التعليم المزدوج، الذي تتعاون فيه الحكومة المصرية مع الهيئة الألمانية للتعاون الدولي (GIZ).
بالتزامن مع ذلك، فهناك مدارس فنية أخرى تابعة لبعض الوزارات، نجحت في استقطاب الكثير من الحاصلين على الشهادة الإعدادية، بعيدا عن الثانوية العامة، مثل مدارس مياه الشرب التابعة لوزارة الإسكان، والبترول التابعة لوزارة البترول، والتمريض التابعة للصحة، والبريد التابعة للاتصالات، والسكة الحديد التابعة للنقل.
وتؤهل كل هذه المدارس طلابها، للالتحاق بوظائف بشكل سريع، سواء في قطاعات الوزارات بأن يكون لهم الأولوية في التوظيف، أو الشركات الخاصة العاملة في ذات التخصص، لكن المعضلة الوحيدة تقريبا، أن شريحة كبيرة بالمجتمع، ما زالت تجهل المعلومات الكافية عن المدارس الفنية، ومزاياها قبل وبعد التخرج.
وأكد أحمد الجيوشي نائب وزير التعليم لشؤون التعليم الفني سابقا، أن الثانوية العامة لم تعد مغرية للناس مثل الماضي، لتعدد أزماتها وتضارب القرارات بشأنها، وشعور الطلاب والأهالي بأنهم في دوامة طوال الوقت، سواء بسبب الدروس الخصوصية أو التابلت، أو التنسيق الخاص بالجامعة، وصعوبة الامتحانات نفسها.
وتختلف طريقة التقييم في المدارس الفنية الحديثة، بشكل جذري عن "بعبع الثانوية العامة"، فرجال الصناعة وخبراء كل مهنة، يكونوا أهم عنصر في امتحان الطلاب بعد امتحانهم نظريًا، وتكون مهمتهم قياس المهارات الفنية التي اكتسبها الطالب خلال فترة الدراسة، وبعدها يتم منحه رخصة مزاولة المهنة إذا اجتاز الاختبار، ويعني ذلك أنه مؤهل للتوظيف مباشرة، وليس بحاجة لتدريب.
أضاف الحيوشي في حديثه للمنصة، أن العام الحالي يشهد إقبالًا لافتًا من حملة الشهادة الإعدادية على المدارس الفنية، لأنها بلا مشكلات ولا أزمات يومية، ولا يعيشها طلابها في حالة طوارئ طوال فترة الدراسة، ما يمهد الطريق لانتهاء أسطورة الثانوية العامة، ليحل مكانها التعليم الفني، الذي يوفر فرص توظيف آمنة ومعاصرة ومستقبلية.
ولفت الجيوشي، إلى أن "كل تخصص في التعليم الفني أصبح يساوي وظيفة، ومشاركة رجال الصناعة والاستثمار في وضع المناهج وتحديد التخصصات منح للأهالي ضمانة على واقعية التغيير الحاصل، ويمنحهم الثقة في ضمان المستقبل الآمن، على مستوى التوظيف واستكمال التعليم الجامعي، وهذا صعب في الثانوية العامة.
وتعليقا على موقف الأب عادل الذي غيّر مسار تعليم ابنه من الثانوية إلى الفنية، قال الجيوشي، "شيء متوقع في ظل المتغيرات التي تثير تذمر كثيرون، فطريق الجامعة من التعليم الفني أصبح أسهل من الثانوية العامة مع وجود كليات تكنولوجية وأخرى للهندسة وغيرها، وكلها تلغي تحول التعليم لحرب نفسية عند الأهالي والطلاب، وهذا توجه بالغ الإيجابية لعدة أسباب".
الأول، أن المدارس الفنية بتخصصاتها ومناهجها المعاصرة، لن تخرِّج عاطلين كما يحدث في الكليات التي يلتحق بها طلاب الثانوية العامة، والثاني أن النهضة الاقتصادية لن تتحقق دون خريجين مهرة ولديهم خبرة في الحرف والوظائف الحديثة، وتوطين الصناعات الكبرى يحتاج إلى خريجين مخضرمين وهو ما توفره المدارس الفنية.
معضلة الحكومة، أنها لم تنجح بعد في التسويق للتغيرات التي تجري في التعليم الفني وتركز الضوء دائما على التعليم العام، وفي مقدمته الثانوية العامة، ما تسبب في أن تستمر النظرة الدونية من البعض للمدارس الفنية، ويتعاملون معها باعتبارها "بؤرة للفاشلين دراسيًا"، وهو ما يعرقل تغيير قناعات المجتمع بأثره، صوب التعليم الفني.
الحكومة ترغب في توطين الصناعة وتخريج فنيين بمهارات استثنائية للتخديم على المشروعات القومية والتنموية، وتعمل على إبرام اتفاقيات مع شركاء أجانب، مثل اليابان والصين وألمانيا، لإنشاء مدارس فنية عصرية، لكنها تتغافل النقطة الأهم، وهي نظرة الناس للتعليم الفني، وكيف تستقطب الأهالي بعيدًا عن الثانوية العامة.
أسطورة الثانوية العامة
نظرة المجتمع للتعليم الفني بطريقها إلى التغيير، بحسب الجيوشي، الذي يتوقع أن تنهار أسطورة الثانوية العامة كليّا، عندما تكون جميع تخصصات المدارس الفنية دون استثناء (زراعية، صناعية، تجارية، فندقية) مرتبطة بسوق العمل ويتم إلغاء القديم منها، ويُتاح للطالب الفني الالتحاق بكل الجامعات مثل الحاصل على الثانوية العامة، لكن المعضلة "أنه رغم حداثة التعليم الفني في مصر ومقاربته للموجود عالميًا، لكن الناس لا تصدق ذلك".
لكن مجاهد يرى أن النظرة تغيرت بالفعل "الإقبال اللافت على المدارس الفنية، يعكس أن النظرة السلبية تغيرت، ولم تعد الثانوية العامة وحدها هي المستقبل، ويكفي أن خريج المدرسة الفنية التكنولوجية يتم توظيفه فور التخرج بمقابل شهري يصل إلى 8 آلاف جنيه، ويعمل بمهنة لائقة وكل تعاملاته بالتكنولوجيا، مع استكمال دراسته الجامعية، ليضمن المستقبل ماديًا وتعليميًا.
وبعيدًا عن رؤية الجيوشي، وقناعات مجاهد، لا يعني الأب عادل سوى تخرج ابنه وهو يحمل شهادة ثانوية عصريّة بعيدة عن وصمة "الدبلوم"، الذي كان يصنّف على أنه لضعاف المستوى فقط. وقال "لا أنكر ندمي على إلحاق ابنتي بالثانوية وضياع حلمها في دخول كلية الهندسة رغم إنفاق آلاف الجنيهات، اليوم ابني يكاد يكون ضمن كلية الهندسة بعد التخرج من الثانوية الفنية التكنولوجية، مع وظيفة تناسب العصر. أتمنى لو سألني كل أب عن رؤيتي، لأقنعه بأن الثانوية العامة كانت أسطورة وانتهت".