في البداية يجب القول إن الحكي عن حادث اعتداء عسير للغاية؛ من الصعب الحديث عن حوادث اعتداء في مجتمع يسخر من الناجيات من العنف، وحتى الاغتصاب، ويطلق عليهن النكات. احتجت ثماني سنوات حتى أستوعب ماحدث. لطالما سمعت عن حوادث عنف تتعرض لها قريباتي، لا أعرف تقريبًا واحدة لم تتعرض للعنف من شريكها، أتذكر قريبتي التي كان زوجها يضربها باستمرار إذا اختلفت معه في نقاش على أمر عام مثلًا. لكني لم أكن أعلم حينها أنني سأصبح واحدة من هؤلاء. لأسباب كثيرة، منها أن شريكي السابق كان يدَّعي التقدمية والثورية، إذ عرفته أثناء الحراك الثوري في عام 2011، كان يخبرني بأننا سنرتبط كي نتحرَّر من سيطرة أهلنا.
كانت الحالة الثورية في 2011 طاغية، وكنا نعتقد أننا سنغير العالم، وكنت أريد التحرر من سيطرة أهلي. قرَّبتنا الثورة، والأفكار المتشابهة، لكنني لم أكن أعلم أن نهاية هذه القصة ستكون جلسات العلاج النفسي، وأقراص الدواء البيضاء، والوردية. انتشر مقطع في الأيام السابقة على فيسبوك لسيدة مسجونة ترتدي الأبيض وتقول "قتلت جوزي في خناقة عادية"، بالمثل تعرضت لعنف جسدي، حتى أصاب وجهي التورم، بسبب نقاش عادي على كيفية السفر، بالقطار أم بالسيارة، تسبب هذا الاعتداء في عدم استطاعتي الأكل على فكي لمدة أسبوع، وعندما أخبرته بذلك لم أجد منه إلا السخرية.
تكرر الاعتداء بالضرب حوالي أربع مرات، كانت تصيبني بعدها حالة تجمُّد، ثم إنكار، فلم أستطع حينها أن أتخذ موقفًا حادًا مثل أن أتركه، أو أحرر بلاغًا ضده في الشرطة. كما أنني كنت وحيدة بلا أصدقاء، إذ كان يتبع ضدي أسلوب عزل الضحية، أي إبعادها عن الجميع حتى لا يكون هناك مَن تلجأ إليه. وحتى تعتقد أنها لا يمكنها تركه أبدًا.
خيانات وتلاعب نفسي
تعرضت أيضًا للتلاعب النفسي، أو ما يعرف بالـGaslighting، من هذا الشريك. فكنت أكتشف خياناته المتكررة، وتكون عليها دلائل إلكترونية، وكان يقنعني حينها أنها مفبركة، وأن ما أعتقده ما هو إلا وهم برأسي. لكني لحسن الحظ أو لسوئه لست متفردة بهذا الأمر، ولست المرأة الوحيدة التي تتعرض للتلاعب النفسي، فهناك الكثيرات يتعرضن للأمر ذاته، فلا يقوي المعنِّف، الخائن على الاعتراف بخيانته، أو بكذبه، فيلجأ للتشكيك في قواكِ العقلية، والإنكار المستميت، وربما يعترف لكِ في النهاية، ولكنه يخبرك أنه أقدم على هذا الخطأ بسببك أنتِ.
في اعتقادي أن هناك علامات للشخص المعنِّف، مثل أن يقوم بسبك باستمرار، أو أن تكون ردود أفعاله عنيفة، فلا عجب أن يضربك بعد ذلك. كان يحاول دائمًا التقليل من شأني واتهامي بالغباء، وأنني بلا فائدة. وعلى الرغم من دعمي الكامل له فإنه لم يدعمني أبدًا، بل كان يسخر من اهتماماتي ويقلل منها، ويخبرني أنها بلا جدوى. ورغم أنه كان يدعي التقدمية، كان يريد السيطرة عليَّ، ويطلب مني ألا يكون لي أصدقاء ذكور.
لم يعتذر هذا الشخص أبدًا، فالرجال لا يعتذرون، بل كان يخبرني بأنه إله، أما أنا فكان من المطلوب مني أن أغفر له خياناته، وكذبه، ومحاولاته للسيطرة عليَّ. وامتد التلاعب النفسي بأنه كان يخترق حسابي على فيسبوك، ويصرّ إصرارًا شديدًا أنه لم يفعل. وكنت أصدق.
كيف ننجو؟
إدراك أنكِ في علاقة سامة أمر صعب، فما بالك بالخروج منها؟ فالمعنِّف يجعلكِ خائرة القوى، لا تقوين على اتخاذ قرار، ويجعلك تشكين في نفسك، وتظنين أنكِ لن تجدي شخصًا آخر بعده. عندما أدركت أنني أخسر نفسي في هذه العلاقة، اتخذت قرارًا بأن أغادر تلك العلاقة، ولو كلفني ذلك حياتي، أخبرته أنني سأتركه، وسأعيش بعده، وأستطيع الحب مرة أخرى، والحياة بسلام، فلم أسلم من ألاعيبه حتى النهاية، فما كان منه إلا أن أخبرني أنني لن أستطيع النجاة دونه، وأنه سينتحر، وأنني أصبت بتروما ولن يكون بوسع أحد أن ينجدني منها. لكنني استطعت الخروج من هذه العلاقة السامة، ومن دائرة العنف، بفضل التصديق في نفسي، وأنني أستحق الحب، وأن بإمكاني تجاوز هذا الأمر، والبدء من جديد.
لماذا الحكي صعبًا؟
تخبرني الطبيبة النفسية أنها تابعت بعض منشوراتي على فيسبوك، وأنها تلاحظ فيها الغضب الشديد. ما أعرفه أنني أمتلك أضعاف هذا الغضب، فهذا المجتمع يكره النساء، وما أن تخرج ناجية على الملأ لتسرد حكايتها، حتى يتهمونها بالكذب، وبمحاولة التشهير، أو أنها تتبع ما يسمونه أسلوب الإرهاب النسوي الذي يطلب من الناس التصديق دون دليل، ولا أعرف هنا ما الدليل الذي يريده هؤلاء؟ فهل يعرفون التكلفة النفسية لأن تخرج امرأة على الملأ لكي تحكي تعرضها لحادث عنف أو تحرش أو اغتصاب؟ هل هذا المجتمع يميّز النساء لكي يخرجن بسعادة ويحكين قصصهن المأسوية؟ لم أرغب في الحكي لأنني لم أرِد أن أكن مثيرة للشفقة، ولأنني اعتدت على الظهور بمظهر المرأة القوية، ولأنك عندما تحكي قصة اعتداء يبدأ الناس في التنظير عليها، واتباع مبدأ لوم الضحية، وكذلك لأن الناس تحصر صاحب التجربة السيئة في حيز تجربته، حتى يصبح أيقونة للحزن.
لكنني قررت الحكي كمحاولة للتعافي، لأن جلسات العلاج النفسي لم تعد وحدها كافية. أتذكر مشهدًا من فيلم احكي ياشهرزاد عندما اكتشفت ناهد (سناء عكرود) أن شريكها السابق الذي نصب عليها وخدعها حمل حقيبة وزارية، لتخرج حاملة لافتة أمام مجلس الوزراء كتبت عليها "بتعينوهم ليه؟ على نضافتهم؟" عندما أرى اسم شريكي السابق متقدمًا لأحد المناصب في نقابته المهنية الكبيرة، أتمنى عمل الأمر ذاته، فمصر لا يوجد فيها جهات تحقيق لمثل هذا الأمر. لست معنية بأن أذكر اسم هذا الشخص، أو أن أشهّر به، لا أريد سوى التعافي، ومساعدة النساء الأخريات اللواتي يتعرضن للأمر ذاته.
كيف استطعت التجاوز؟
لا أدعي أنني تجاوزت الأمر بالكامل، وإلا لما كانت هناك حاجة لهذا المقال، لكنني استطعت إدراك أن ماحدث معي قد أصبح ماضيًا، بفضل عدم ترك نفسي للوحدة، وبفضل العمل، والكتابة، والجلسات النفسية، وبفضل شيء سحري اسمه دعم النساء للنساء، ما أتمناه الآن أن تكون هناك قوانين لحماية المرأة من العنف الجسدي والنفسي كما يقول الكاتب محمد خير في رواية إفلات الأصابع "لكنني عرفت أن أبشع الجرائم لا عقوبات لها في النظم القانونية، فمثلًا لا يسجنك أحد لأنك أحلت حياة شريكك إلى جحيم ملؤه الغيرة والاحتقار ونقص الثقة بالذات، لا يسجنك أحد لأنك تفعل بالضبط ما يثير جنون أقرب الناس إليك، لا يسجنك أحد لأنك تختبئ وتوهم الآخرين أنك في الصدارة، أو حين ترتكب بالضبط ما يرعب الآخرين الذين فتحوا بوابات أمانهم لك".
وأتمنى وجود قوانين ضد مجتمع لا يرى حرجًا في ضربة على الخد، أو كدمة في القلب.